الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد، مما يجب التنبيه إليه أنَّه قد انتشر قديمًا وحديثًا، أناسٌ يُقصدون للرقية، منهم الفقيه ومنهم الواعظ ومنهم الذي يتزيَّا بثوب الفقه وليس كذلك، وقد وقع أن اتَّخذ كثير من هؤلاء الرُّقيةَ وسيلة للتَّكسُّب والارتزاق من البسطاء بجهلٍ منهم أو بعلم، فيأكلون أموال الناس بالباطل حيث يقرأ أحدهم على المريض ثم يأخذ منه مبلغًا من المال يسيرًا أو كبيرًا، ويكون مباشرة أحيانا أو عن طريق بَيْعِهِ الماء والزيت والعسل للمرضى، وربَّما ادَّعى أحدُهم الورع وقال: أنا أرقي الناسَ رجاء ثواب الله تعالى متبرِّعًا، ولا آخذ منهم مقابل الرقية شيئًا، اللهم إلا ثمن الماء والزيت والعسل! الذي يبيعه بثمنٍ غالٍ! وبعد ذلك يخرج المريض من عند الرَّاقي بلا فائدة صحيَّة بل بخسارة ماليَّة، وربَّما بخسارة اجتماعية، بإلقاء تهمة السحر إلى أحد أقاربه، إذ أنَّ أيسر شيء على الرَّاقي أن يدَّعي أن المريض مصاب بالمس أو بالعين أو مسحور، وهي دعوى لا يُمكن إثباتها بدليل قاطع لأنها لا تجري تحت قانون الملاحظة والتجربة، فيصعب الجزم بأن الذي يتكلَّم على لسان المصروع هو الجن، وإنَّما هيَ ظنون مُستندها النظر إلى الأعراض التي يلْحظها الراقي على المريض، وما أكثر تشابه الأعراض ببعضها، كالشعور بالقشعريرة التي غالبا ما يكون منشؤها أمور خارجة عن السحر، فإثبات أن المريض مسحور غير ممكن حتى باعتراف الساحر بنفسه، فلو اعترف فالأصلُ في الساحر أنه كذاب، فما أيسر وقوع الكذب منه لِحَاجةٍ في نفسه، وإنما السبيل الوحيد للقطع بذلك هو خبر السماء لأنه مِن علم الغيب، فغاية ما يَصِلُ إليه الراقي هو الظن الغالب حين يلاحظ علامات وأعراض حين القراءة، وليس في الأعراض سوى الظنّ الذي كثيرًا ما يُخطئ. ومما يؤسف له أن دعوى الراقي أن المريض مصاب بالعين أو مسحور تُفضي في حالات كثيرة إلى أن يظنَّ المريضُ أن هذا السحر وقع عليه من جاره أو من قريبه، فيكون الراقي سببًا في قطيعة الرحم وبثّ أسباب الفرقة والمشاحنات بين الناس، وما أقبحها مِن صنعةٍ أن يُتَّخذ القرآنُ وسيلةً لغير ما أُنزلَ له. وقد كان في الناس فيما مضى أناسٌ صُلحاء يتصدَّون لمعالجة الناس بالرقية لا يطلبون مالًا على قراءتهم، بل يطلبون دعوة صالحة من المريض، ولا يزال عندنا عدد منهم في مدينة الأحساء، نذروا أوقاتهم لله، يقرأون على الناس تبرُّعًا منهم واحتسابًا للأجر عند الله، وهم الأقلُّون من حيث العَدد، ولكنَّهم الأكثرون مِن حيث انتفاع الناس بهم. وأخْذُ الرُّقاة شيئًا من المال لا إشكال في جوازه إذا حصل الشفاء، وزال المرضُ من المريض، ذلك أنهم لو علموا أنهم لا يستحقون شيئًا من المال إلا إذا حصل الشفاء، لانْكَفَّ كثيرٌ مِنهم عن القراءة على الناس، وبحثوا عن مصدر رزقٍ آخر ينتفع به العباد وتَعمُرُ به البلاد، لأنهم سيُدركون أنهم لا يُحسنون هذه الصنعة لِقِلَّة مَن يَجدُ الشفاء على أيديهم. ومن الملاحظ أن حالات المسّ قليلة جدًا نادرة، وقد أخبرني أحدُ فضلاء الرُّقاة بتونس -ممن لا يتكسَّبون بالرقية- أنه لم يجد في الحالات التي مرَّت به إلا حالتين يظنُّ ظنًا أنهما مسٌّ ولا يجزم، أما أغلب الحالات فليست بِمَسٍّ.