هل عشتَ "عصرا مهما" وكان مصير زمانك "دراميا" حسب تعبير الكاتب اليوناني كازنتزاكي؟ عاش كازنتزاكي عصرا مهما فكتب ملحمةً عنوانها "تقرير إلى جريكو". وكانت شهادة على العصر. كثيرون أولئك الذين كتبوا مذكراتهم، من "الآنسة فضيحة" التي عاشت على هامش الحياة، إلى كازنتزاكي وبابلو نيرودا. فهل فكرتَ يوما أن تجعل لك ذاكرة من ورق؟ هل شعرتَ أن في حياتك ما يستحق التدوين، فحاولت استعادة لحظاتها الهاربة؟. تستضيف بعض الفضائيات العربية من تعتبرهم "شهوداً على العصر". عنوان كبير لمضمون متواضع أحيانا. وقد تصغي إلى شهادات بعضهم فتتساءل: من يستطيع أن يكون شاهدا على عصره: الجنرال والسياسي أم المفكر والفيلسوف؟ أم أن التاريخ من الخطورة بحيث لا ينبغي تركه لأي "شاهد ما شافش حاجة"؟ هنالك طرق عديدة للاعتراض على هذا السؤال. لكن السؤال نصف العلم كما يقال. مر العالم العربي، كبقية بلدان العالم، بأحداث وتحولات جعلت من القرن المنصرم عصرا مهما بامتياز. غالبا ما تقاس الأزمنة المهمة بتأثير أحداثها على سير الحياة. دعونا نرصدْ بعض التطورات التي جعلت من المائة عام الماضية عصرا مهما. لنستعرض أحداث حياة شخص من جيل سافر على بساط من الأحلام العصية على التحقق. كانت التحولات التي شهدها كبيرة على المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي. قطع المسافة الزمنية بين تعليم الكتاتيب والتعليم الإلكتروني. استخدم قلم القصب في الكُتَّاب، ثم الطابعة الرقمية في الجامعة. كتب الواجب المدرسي على ضوء مصباح الكيروسين، وامتد به العمر ليكتب على ضوء المصباح الكهربائي. نام على "صوت البعوض كأنه سجعُ الحَمَام" وفي يده مروحة مصنوعة من الخوص، ثم استمتع بالنوم في أجواء التكييف المركزي. وعلى المستوى التقني، شهد تطورا هائلا بدءاً بالهاتف "أبو هندل" إلى الهواتف الذكية المحمولة، واستبدل التواصل اجتماعيا في الديوانيات، بمواقع التواصل الاجتماعي الإلكترونية. شاهد هبوط أول إنسان على سطح القمر، كما شهد الحرب الباردة بين المعسكرين، وانتعاش سوق الأيدلوجيا، ثم انهيار سور برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي، عاش عصر الانقلابات العسكرية التي تحولت إلى ديكتاتوريات وأنظمة شمولية. وشنف سمعه بموسيقى المارشات التي تسبق "البيان الأول". عاصر النكبة والنكسة والحروب الواقعة بينهما. وبارك محاولات الوحدة ثم الانفصال. تابع فوضى الحروب الأهلية والاقتتال الطائفي. وامتد به العمر ليشهد ما سمي "الربيع العربي" وعاش، قبل وبعد ذلك، زمنَ الإرهاب الذي لا يعرف ماذا يريد، وإلى أين يتجه. لكن هل يكفي أن تعيش عصرا مهما لتؤلف ملحمة كتلك التي كتبها كازنتزاكي أو نيرودا؟ هل تستطيع أن تقول بالثقة التي عَنْونَ بها نيرودا مذكراته: "أعترف بأنني قد عشت"؟ نعم تستطيع أن تدَّعي ذلك، ويمكنك أن تصبح شاهدا على عصرك، إذا لم تكن مجردَ عابرٍ في سنوات عابرة، أو شبيها بمؤشر الساعة الذي يشير إلى الزمن ولا يعيشه، ويحدده ولا يتفاعل معه. والآن لنفترض أنك قد عشت عصرا مهما زاخرا بالأحداث، فأدليت فيه بشهادتك، هل تستطيع أن تكون شاهدا على عصرك وأنت مجرد مدون يسجل الوقائع؟ ألا تستدعي تلك الشهادة قراءة تأملية واعية؟ لكن ذلك وحده لا يكفي. ولن تكون شاهدا نزيها إلا إذا كانت شهادتك مبنية على أسس ومعايير أخلاقية عالية، ومدعمة بمواقف وقناعات تضع في اعتبارها خدمة الحقيقة وقيم الجمال.