"ريمونتادا" مثيرة تمنح الرياض التعادل مع الفتح    محرز: هدفنا القادم الفوز على الهلال    "روشن 30".. الهلال في مواجهة التعاون والاتحاد أمام أبها    شراكة بين "البحر الأحمر" ونيوم لتسهيل حركة السياح    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    "جوجل" تدعم منتجاتها بمفاتيح المرور    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    تعاون "سعودي أوزبكي" بمجالات الطاقة    وزير الخارجية يستعرض استعدادات"إكسبو 2030″    بدء إصدار تصاريح دخول العاصمة المقدسة إلكترونياً    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    السودان يعيش أزمة إنسانية ولا حلول في الأفق    نائب وزير الخارجية يلتقي نائب وزير خارجية أذربيجان    «التجارة» ترصد 67 مخالفة يومياً في الأسواق    فصول ما فيها أحد!    أحدهما انضم للقاعدة والآخر ارتكب أفعالاً مجرمة.. القتل لإرهابيين خانا الوطن    وزير الدفاع يرأس اجتماع «الهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية»    سعودية من «التلعثم» إلى الأفضل في مسابقة آبل العالمية    «الاحتفال الاستفزازي»    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    شَرَف المتسترين في خطر !    في دور نصف نهائي كأس وزارة الرياضة لكرة السلة .. الهلال يتفوق على النصر    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    تشيلسي يهزم توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لدوري الأبطال    مقتل 48 شخصاً إثر انهيار طريق سريع في جنوب الصين    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    قصة القضاء والقدر    تعددت الأوساط والرقص واحد    يهود لا يعترفون بإسرائيل !    كيفية «حلب» الحبيب !    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    اعتصامات الطلاب الغربيين فرصة لن تعوّض    من المريض إلى المراجع    رحلة نجاح مستمرة    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    «التعليم السعودي».. الطريق إلى المستقبل    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    القبض على فلسطيني ومواطن في جدة لترويجهما مادة الحشيش المخدر    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    محافظ بلقرن يرعى اختتام فعاليات مبادرة أجاويد2    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "التحصينات"    "التخصصي" العلامة التجارية الصحية الأعلى قيمة في السعودية والشرق الأوسط    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    ما أصبر هؤلاء    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    هكذا تكون التربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المعرفة الصامتة "2-2"
نشر في اليوم يوم 30 - 08 - 2004

ان واقع العلاقة بين الحفظ وتصور طبيعة المعنى اعقد مما يوهمنا به تحليلها, فابو عبيدة الذي يعرض في كتابه تأويلات مريبة من وجهة نظر الاصمعي, لم يكن يفسر الشعر(ابن خلكان, سابق. ج5 237) لا يمكن أن يكون ابو عبيدة غير عارف به فقد كان ديوان العرب في بيته. (الزبيدي, سابق ص 177) يحفظ عيون الشعر الجاهلي, عارف بالغريب واخبار العرب وايامها (ابن قتيبة, المعارف ص 302) وهو بهذا جمع معطيات لبحث عن المعنى كاعراف الشعر والخبرة به.
لا املك حججا معقولة تبرر موقف ابي عبيدة, لكن ربما تحليل التفسير (من حيث هو عملية يرتبط بقيم واتجاهات معرفية) يسلط ضوءا خافتا على موقف محير, ان التفسير يعني البحث عن معنى, وهذا يتطلب منا القيام بعمليات عقلية معينة, من أجل أن نفهم شيئا ما, ومثلما يجب علينا أن نحوز على معرفة واسعة لكي نفسر وكذلك يجب أن تكون لدينا اتجاهات وقيم معينة كالفضول( حب الاستطلاع) والشك (حافز البحث عن معنى غير معروف) لقد حاز ابو عبيدة على المعرفة, لكن ما افتقده هو الفضول والشك اللذان يولدان المعاني الجديدة ويؤازرانها.
ليس من الغريب اذن ان يتحدث الباهلي صاحب كتاب(المعاني) عن ان طلبة العلم, كانوا اذا أتوا مجلس الاصمعي اشتروا البعر في سوق الدر, واذا اتوا مجلس ابي عبيدة اشتروا الدر من سوق البعر(ابن خلكان, سابق, ج5 / 237) والعلة في شراء الدر أو البعر علة تتعلق بالامكانات اللغوية والصوتية والمعجمية وليس المعنى, فقد كان الاصمعي حسن الانشاد لردئ الاخبار, بينما كان ابو عبيدة سيئ العبارة مع علمه الجم.
ان المفاضلة من هذا النوع وفيرة في كتب التراث, وبدلا من ان اسوق المزيد اريد ان اقتصر على ذكر, مفاضلة واحدة, لأنها تتعلق بالعلماء الذين اتحدث عنهم, يقول ابن مناذر (الاصمعي احفظ الناس وابو عبيدة اجمعهم وابو زيد الانصاري اوثقهم) (ابن خلكان, سابق ج2/ 379).
تتحدث العبارة عن معنى واحد الفاظ مختلفة, ان الفرق بين العلماء الثلاثة هو فرق في الدرجة وليس في النوع فالحفظ يعني استظهار المعرفة بشكلها الاصلي الذي وجدت عليه, وكذلك هو الجمع مع فرق واحد هو ان وسيلة الجمع قد تكون الكتابة, أما الثقة في هذا السياق فتعني( الاخلاص في النقل حفظا أو كتابة, والاحالة غير القابلة للشك الى متن موجود, وان القدماء قد قالوا فعلا ما نقله ابو زيد من غير ان يسعى الى ان يغير اي شيء تحضر في مفاضلة ابن مناذر ظلال مفهومين ينتميان الى علوم الحديث هما: الحافظ والثقة، وهذا يعني ان علماء اللغة قد تحددت مهمتهم في جمع الاشعار والاخبار والعلوم القادرة على خدمة العلوم الشرعية، لقد تحددت في الفترة التي عاش فيها هؤلاء العلماء الثلاثة الاستراتيجية الثقافية العربية الاسلامية) وكان من ادواتها الكبرى التمييز القائم بين العلوم الاصلية التي تنتظم المعارف الدينية، والعلوم الفرعية التي تصنف المعارف الدنيوية، واعتبرت المعارف التي تهتم باللغة موضوع عناية ملحوظة، تضطلع بمهمة اعداد اداة لغوية قادرة على الاستجابة لحاجات العلوم الاصلية (جمال الدين بن الشيخ ، سابق، ص7) ومن هنا جاءت مفاهيم الاجماع والثقة والحفظ.
يوفر هذا الاستطراد الذي قمت به من تكوين هؤلاء العلماء الثلاثة، وعلاقة ذلك بتصورهم لطبيعة المعنى، وخدمة العلوم الدينية، اقول يوفر هذا الاستطراد امتيازا خاصا لمشروع هذه الدراسة، اذ قبل ان احلل الحكاية وضعتها في منظور ما، واعطيتها عمقا هي في حاجة اليه، وجعلتها تحيا امامي بتلك الحياة التي جعلت السيوطي يختارها هي بالذات، يكفي ان اعيد قراءة ما كتبه السيوطي قبلها وبعدها حتى اقتنع بذلك.
لقد اورد السيوطي الحكاية في الفصل الذي خصصه لمعرفة من تقبل روايته وترد، وعلى امتداد الصفحات يشغل باله النحارير (جمع نحرير) وهم الحذاق الماهرون المجربون العقلاء الفطنون البصيرون بكل شيء، الذين ربما افشوا بين الناس ما ليس من كلام العرب، ارادة اللبس اي الشبهة وعدم الوضوح، والتعنيت اي اشاعة الخطأ وادخال الاذى (ص180).
لا ينبغي ان نتصور ان السيوطي ينشغل بلا شيء كما لا ينبغي ان نتصور ان طبيعة اللغة قد تستجيب لذلك الانشغال، او ان النحارير قد يستجيبون لتحفظاته، وريبه منهم، ما اميل اليه هو ان انشغال السيوطي هو نتاج لمعاصرة لم تعد فيها اللغة نقية وصافية، ومصادقة متأخرة على تطور فكرة منذ اللغويين الاوائل تترع الى هيمنة لغة وصفت بكونها قديمة، ان السيوطي فيما اتصور لا يعبر بهذا عن رأي شخصي، بل يدعم اختيارا وتحيزا لمستوى من اللغة تكرس منذ امد طويل.
انني افهم مباشرة لماذا الخوف من النحارير، الوصف المريب لاولئك الحذاق في اللغة، الماهرين فيها والبصيرين بها، ذلك ان الخوف منهم لم يكن بسبب ارادتهم اللبس والتعنيت، بل الخوف من اشاعتهم معجما لغويا جديدا، وما يترتب عليه من خطر اهمال المعجم اللغوي الوفير الذي اعده اللغويون الاوائل ومنهم الاصمعي وابوعبيدة وابو زيد.
(ان شيوع معجم جديد سيصاحبه حتما هجرة معجم قديم على مستوى التداول بين الناس، وبالتالي هجرة صور واخيلة محفورة في اعماق الوعي الثقافي على مستوى الابداع، انه النزوع الى ثبات المعجم، وعلى هذا الثبات تقوم القدامة التي تعمل على التحكم في علاقة الكلمة بالمعنى (جمال الدين بن الشيخ 1996،ص21).
يفرغ السيوطي النحارير من الاخلاق حينما يوردهم في سياق الخلق الرفيع الذي يجب ان يتمتع به ناقل اللغة، ينقل عن ابن فارس: ان اللغة تؤخذ من الرواة الثقات ذوي الصدق والامانة، ويتقى المظنون، وعن الخليل: فليتحر آخذ اللغة اهل الامانة والصدق والثقة والعدالة، وعن ابن الأنباري: يشترط ان يكون ناقل اللغة عدلا، رجلا او امرأة، حرا او عبدا، فان كان ناقل اللغة فاسقا لم يقبل نقله (ص128/137).
ترى ماذا لو اخذت اللغة عن المجانين؟ يجيب السيوطي بان العرب رووا اشعار المجانين، واحتجوا بها وكتب ائمة اللغة والنحو مشحونة، وفي هذا السياق يورد حكايتنا.
قائل البيتين هو المجنون بن جندب، من هو هذا؟ لا نعرف عنه الا انه مجنون، لقد كان اسما على مسمى، فاسمه (المجنون) يشير الى حالته (مجنون)، فيما بعد سأقف على دور هذا في تصور طبيعة المعنى، اكتفى هنا بالقول: ان المجنون كان بمثابة شيء غير موجود، وكان ينظر الى خطابه على انه هذيان لا يؤدي الا الى الفراغ والعدم وظلام الجهل المطلق (انظر هشام صالح، فيلسوف القاعة الثامنة، الكرمل، العدد 12 1984ص20).
غير انه مجنون فقد كان مرقصا، والفعل (رقص) يدل على الوثب والنقزان (ابن فارس سابق، ج/2 428) وعلى الاضطراب والغليان والارتفاع والانخفاض (ابن منظور، سابق ج7/ 42) وعلى تأدية حركات بجزء او اكثر من اجزاء الجسم (المعجم الوسيط /ص365) وتبعا لذلك فالصورة المحسوسة للمجنون بن جندب، هي صورة شخص غير متزن يثير الاستهزاء.
من جهة اخرى يستحضر المرقص موقفا يقام بين عناصره علاقة تنظيم، والفكرة الاساس في هذا الموقف هي فكرة تناسب بين الجسد والايقاع او الموسيقى او الغناء، والفعل (رقص) يحيل الى ترقيص المرأة ولدها، والصورة الملموسة هي صورة امرأة ترفع ولدها وتخفضه (ترقصه)، فيما بعد سأقف على دور هذه الصورة في تصور معنى البيتين، اكتفى هنا بالقول: ان المرقص وهو يرقص لا بد انه يعبر عن شعور او معنى ما.
اول عالم ذهب اليه ابو حفص هو ابوعبيدة، سأله عن معنى البيتين فقال(ما أطلعني الله على علم الغيب) يمكنني ان اقترح انه قصد ابا عبيدة للثقة التي اشتهر بها، وفي اجابة ابي عبيدة ما يبرر اقتراحي ولو عند مستوى خفي ومشوش، اذ يحضر في اجابته الله واطلاعه على علم الغيب، حيث يمكن ان ينقل لابي حفص ما اطلع عليه.
(ان للجملة قابلية لان تعني شيئا آخر يختلف عما تعنيه (وليم راي، سابق ،ص 172) واذا كانت عبارة ابي عبيدة تعني انه لا يعرف معنى البيتين، فانها قابلة لان تعني تصوره لطبيعة المعنى، فالغيب يستعمل في كل غائب عن الحواس، وفيما يغيب عن علم الانسان،وفيما لا تقتضيه بداية عقول البشر، وفيما لا يدركونه ببصرهم وبصيرتهم (الاصفهاني، معجم مفردات الفاظ القرآن( ص381) وكذلك هو المعنى فيما يتصور.
لكن هذا المعنى الكامن في علم الغيب، يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام الذين يطلعهم الله عليه (الأصفهاني، سابق ، ص381) ان الفعل (اطلع) يشير الى العلم بالشيء وكشف المستور، كما يشير الى الغياب والستر (ابن منظور سابق ج/263،27318) يحل اعطاء المعنى من قبل الغير محل تعرفه، ويحل الوحي به محل بنائه وتكوينه او اكتشافه، هكذا فالمعنى يطلعه الله بشرا مخصوصين، في الوقت الذي يخفيه عن آخرين، والطيف المعجمي للفعل (أطلع) الذي ينتمي الى الاضداد يسمح بذلك.
لم يكن ابوعبيدة نبيا او رسولا كي يكلمه الله من وراء حجاب، او يرسل اليه رسولا بالمعنى، لكن هناك حالة واحدة ممكنة هي: ان يوحي اليه بالمعنى اي يلهمه، لقد حدث ان اوحى الله (ألهم) الى ام موسى والى النحل، مما يعني ان الوحي بمعنى الالهام وسيلة اتصال تختلف عن الكلام من وراء حجاب او ارسال الرسول.
الوحي بهذا المعنى كلام (لا يفهمه الا طرفا الاتصال، فهو كلام بدون قول، او لنقل كلام بشفرة غير صوتية، بلغة غير اللغة الطبيعية (نصر ابو زيد، مفهوم النص ص41).
يشبه تصور طبيعة المعنى على انه الهام من الله تصور اللغة من حيث هي توقيف منه، والطريق الى كليهما واحد (الوحي الى بعض الانبياء، خلق الأصوات في بعض الأجسام، علم ضروري خلقه الله في بعضهم حصل به افادة اللفظ للمعنى (السيوطي، سابق، ج25/1).
ان تصور طبيعة اللغة على انها توقيف يعني انها مفروضة وصلبة وصعبة، لا يستطيع العقل ان يكون سيدا عليها (فوكو، سابق، ص72) مما ينسحب على تصور طبيعة المعنى، بحيث يصبح مفروضا (يؤخذ ويفرض من قبل آخرين) وصلبا (يقيني ونهائي، وغير قابل لأن يتغير) لا يستطيع العقل وحده ان يصل اليه (الغاء النص وتجارب القارىء).
هأنا الآن اصل الى اول وقفة في التحليل، اعترف بانه ليس سهلا ان اقدم نتيجة تحليل ناقص، لكن حتى لا افقد خيط التحليل الذي تركته مرارا وعدت اليه، اقول تعني مقولة ابي عبيدة انه يتصور المعنى على انه يقع خارجه وليس داخله، قد يكون غريبا على بعض القراء ان المعنى يبنى ويكون من قبل الشخص نفسه، والقول بان الناس يلهمونه اسطورة شائعة المعنى لا يتلقى ولا يلهم لكنه يبنى ويكون، والمهم في هذا كله هو دور القارىء.
(يتوسع معنى النص بالاعتماد على حاجات القارىء وبراعته في التفسير، فعندما يواجه القارىء نصا ما فانه يستطيع تحويل الكلمات الى رسالة تجيبه عن سؤال ليس له علاقة تاريخية مع النص او المؤلف، هذا التحويل للمعنى قد يغني النص، او يفقره، الا انه يشرب النص بشكل لا يمكن تحاشيه بوجهات نظر القارىء، بمعونة جهلة، ويقينه، وذكائه وخديعته وحيلته، ومواهبه على التصور، يكتب القارىء النص بنفس الكلمات الاصلية، لكن بافكار اخرى، خالقا اياه من جديد، وذلك بالتقاطه من صفحات الكتاب، وبعث الحياة فيه) (البرتو ما نقويل، تاريخ القراءة،ص239).
العالم الثاني الذي سأله أبوحفص هو الاصمعي الذي اجاب (أنا احسب ان شاعرها لو سئل عنه لم يدر ماهو) اذا كانت عبارة الاصمعي تعني انه لايعرف معنى البيتين، فانها تثير من طرف خفي مسألة قصد المؤلف، فالاصمعي لن يفعل شيئا سوى ان يسمح لقصد المجنون ابن جندب بالظهور، ومن ثم فهو لن يخلق معنى جديدا، ولن يقول قائل البيتين مالم يقله.
من الناحية العملية تثير هذه المسألة فكرة ان تأويل القارىء هو استعادة معنى المؤلف وقصده، هكذا يصبح معيار تأويل المعنى هو المعنى الاصلي الذي اراده المؤلف، والنتيجة المباشرة لهذا التصور هو ان تأويلا صحيحا واحدا يلغي جميع التأويلات الاخرى والقول:(بصحة تأويل معين يتطلب ان نقرر هل ان المعنى الذي يقصده المرء يمكن عدة تضمنا لمعنى المؤلف) (وليم راي ،سابق ،ص 106). هل يكون المؤلف معنى؟ نعم، لكن الخلل يبقى في تصور ان معنى المؤلف هو المعنى الاوحد، وهو المعنى الحقيقي، وفيما يترتب على هذا من ان هناك حقيقة واحدة لاغير، وان عددا محدودا من الناس هم الذين يدركونها.
لقد حدث على امتداد الثقافة العربية الاسلامية ان كان المعنى واحدا، والحقيقة واحدة، والذين يعرفونها عدد محدود جدا، لان القوانين التي تنظم القراءة في الثقافة العربية الاسلامية هي القوانين ذاتها لحكم الدولة والمجتمع السلطوي الذي يقود الانسان العربي في جميع افعاله (حول فكرة علاقة قوانين القراءة بنظام المجتمع، انظر: امبرتو ايكو، الاثر المفتوح ص20).
ان عبارة الاصمعي تعبر عن فكرة ابي عبيدة لكن في مظهر آخر، يتعلق الأمر بمعنى خارجي هو معنى المؤلف، الذي يرسله الى قارىء تقتصر مهمته على اخراج معنى في غلافه اللفظي.
يشكل المعنى الوحيد للمؤلف سلطة (ولقد نشأت المواضعة التي مفادها ان المؤلفين يكونون المعنى من رغبة في النظر الى الحقيقة باعتبارها وحيدة ومطلقة، وهذه المواضعة هي جزء من ايديولوجيا مجتمع سلطوي وطبقي) (كروسمان، هل يكون القراء معنى؟ نوافذ، عدد 14، ص35).
هل تكفي لعبة البلياردو لان تدحض هذا التصور عن معنى المؤلف؟ حينما يضرب اللاعب كرة البلياردو يتوقف عن كونه لاعبا، كي تبدأ الكرة المندفعة نحو الكرات الاخرى، حيث يولد الاصطدام فعلا آخر من مغامرة الكرة الشخصية، تبعا لذلك فالمؤلف حينما يكتب يتوقف عن كونه مؤلفا يرسل معنى لكي يبدا نصه المندفع نحو القارىء الذي يبني ويكون المعنى.
توجد في العلاقة بين المؤلف والقارىء مفارقة رائعة فعندما خلق المؤلف دور القارىء، فان المؤلف مهد بهذا الفعل الطريق الى حتفه، لانه عندما يختتم نصه يتوجب عليه الابتعاد عنه، والتوقف عن الوجود، مادام المؤلف موجودا يبقى النص غير مكتمل، وبعد ان يطلق المؤلف سراح النص يبدأ وجوده الذاتي الصامت، الى ان يأتي قارىء ويقرؤه (البرتو مانقويل سابق ص 207). العالم الثالث الذي سأله ابو حفص: هو ابو زيد الذي اجاب ( لايعرف كلام المجنون الا مجنون) من ابو زيد؟ فيما مضى تحدثت عن ابي زيد الانصاري، لكن هناك شخصية علمية معروفة هي ابو زيد القرشي، ترى ايهما سأل؟ الارجح ان يكون الانصاري، لانه معاصر للاصمعي وابي عبيدة، لكن القرشي ايضا معاصرة لهما، فقد روى عن المفضل الضبي في كتابه (جمهرة اشعار العرب) والمفضل مات في حدود عام (170) هجرية، في المقبل يرجح جرجي زيدان انه من رجال القرن الثالث الهجري (تاريخ آداب اللغة العربية، مج415/1).
ايا كان، ابو زيد الانصاري او القرشي، فالاثنان فتحا ملف علاقة الشاعر بالجن، لقد خصص القرشي فصلا عنوانه شياطين الشعراء (جمهرة اشعار العرب ص 55/40) والفكرة هي فكرة قرين من الجن مع الشاعر، اهمية هذه الفكرة لموضوعنا هي ان الشاعر مثله مثل القارىء في غالب الثقافة، يختزل الى مجرد ناقل، اختاره آخر للتعبير من خلاله.
وفيما يتعلق بالشاعر فالعملية برمتها (تشهد على قدرة شيطان يسكن انسانا، لينفخ فيه نشيدا ملهما، وبمقدار ما يثبت الشاعر مواهبه فانه بالمقدار ذاته يقنع بانه محرك من طرف هذه القوة، ويقدم نفسه مختارا يشارك في عملية سحرية تنتزع منه مسؤولية انتاج لا يمكن لوعيه ان يكون مالكه (ابن الشيخ، سابق، ص121).
اعتقاد العربي بامكانية الاتصال بين البشر والجن، هو الاساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني في تصور نصر ابوزيد (مفهوم النص 34) ولو تصورنا - يكمل ابو زيد- خلو الثقافة العربية قبل الاسلام من هذا التصور، لكان استيعاب ظاهرة الوحي امرا مستحيلا من الوجهة الثقافية،فكيف يمكن للعربي ان يتقبل فكرة نزول ملك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور في تكوينه العقلي والفكري.
النتيجة المباشرة لهذا التصور على طبيعة المعنى هو انه الهام، وان المتلقي مجرد ناقل، لقد سبق ان توقفت عند هذه الفكرة اثناء تحليلي عبارة ابي عبيدة، وهأنذا اعود اليها الآن في مظهر آخر، فاذا كان الاتصال في عبارة ابي عبيدة يقتضي عدم الانتماء فان الاتصال في عبارة ابي زيد يقتضي الانتماء الى مرتبة وجودية واحدة، اي بين البشر والبشر او بين الجن والجن.
لقد كان المجنون ابن جندب من وجهة ابي زيد مجنونا، وبما ان ابا زيد عاقل فالمرتبة الوجودية مختلفة، ومن ثم يجب ان يكون المجنون عاقلا، او ان يكون ابو زيد مجنونا لكي يفهم المعنى، هكذا وبعبارة واحدة يضع ابو زيد حدا فاصلا بين العاقل والمجنون، والفكرة الاساس في هذا الحد الفاصل هي: ان المجنون شخص غير موجود، وان كلامه هذيان، ولا يعني الا الفراغ والعدم، ان القول بعقل ابي زيد وجنون المجنون هو اقصاء للمجنون واستبعاده. لكي يفهم المعنى يحتاج ابوزيد الى ان يكون مجنونا، او الى ان يكون المجنون عاقلا، وفي كلتا الحالتين سيبقى البيتان مثلما هما وسيبقى ابو زيد قارئا كسولا يحتاج من ينقل اليه المعنى، ذلك ان المعنى كما يتصوره خارجي لا يستطيع ان يكونه ويبنيه.
ربما لم يكن ابو زيد مهيأ لكي يعترف (اننا لا نستطيع ان نعيش بالعقل والحسابات الصارمة الدقيقة طيلة الوقت، ان الجنون يسكن تحت جوانحنا، ويتلفلف في اعماق اعماقنا، شئنا ام ابينا، انه لغة سرية تتحكم بعواطفنا وشهواتنا، لغة تخترق كل اللغات، ولكي نتوصل اليه ينبغي ان نتخلى عن العقلانية الصارمة، من اجل ان نحفر بعيدا وعميقا حتى نصل اليه، الى تلك اللحظة الجوهرية، لقد علمتنا التجارب انه غالبا ما نستطيع التوصل الى الحقيقة عن طريق اغتصاب العقل، واختراق حدوده القاسية، اي في لحظة الجنون وعن طريق الجنون) (هشام صالح، سابق ص 29).
من المعاصرين توقف تمام حسان عند البيتين في سياق قضية نحوية هي علاقة الاعراب بالمعنى (اللغة العربية، مبناها ومعناها، ص 184) وجهة نظر تمام حسان ان الاعراب ليس فرعا للمعنى، اذ لو كان ذلك صحيحا لما استطعنا ان نعرب البيتين، يفترض تمام حسان اعراب البيتين، لكنه فرغهما من المعنى لا لشيء الا لانهما كلام مجنون.
المشهد المتخيل لوجهة نظر تمام حسان هي صورة مجنون يكلم عاقلا، لكن اي واحد منهم لا يفهم اذا ماتكلم الآخر، ان كل واحد منهما يقول معنى، ويعرف ان الآخر تكلم لكي يوصله، لكن اي واحد منهما سيعتبر كلام الآخر لا معنى له، لان كل واحد منهما يفتقد الخبرة اللازمة بتوليد معنى الآخر.
تبعا لذلك فاعراب البيتين يعني ان لهما معنى، لان الفرضية هي انه تكلم لكي يوصل ذلك، لكن البيتين كما تصور تمام حسان لا معنى لهما، لانه يفتقر الى الخبرة اللازمة لتوليد المعنى، او انه لم يشأ ان يغامر ويشغل معرفته وبهذا فالاسهل ان يعربا من غير ان يكون لهما معنى.
تقع المشكلة على ما اتقد في كلمة (اعراب) التي لها عدة دلالات، فهي غالبا ما تستخدم بمعنى الابانة والافصاح، نقول: اعرب عن نفسه، وعلى نحو واضح فان المتكلم هنا هو مصدر المعنى الذي يعبر عنه، وفي هذا السياق، سياق معنى المتكلم نقول: اعرب عن الرجل اي بين عنه، وهنا قصد المتكلم هو الجدير بالنقل والشرح والابانة.
لكننا مرة ثانية نعني بالاعراب علامات تصاحب الكلام، نقول: اعرب عن كلامه اذا لم يلحن في الاعراب، هنا لا يبدو ان معنى الاعراب ما يقصده المتكلم، بل ما يفهمه القاريء فيعربه تبعا لطريقة فهمه، واخيرا تعني كلمة الاعراب التعديل والتقويم، نقول اعربت له اعرابا اذا بينت له حتى لا يكون في الكلام لحن او خلط (ابن منظور، سابق، ج589/1).
باختصار يمكن ان تعني كلمة اعراب قصد المؤلف او القاريء او تقويم فهمنا لمعناهما، وفي كل هذه الدلالات تتضح علاقة الاعراب بالمعنى في النحو العربي بتصور طبيعة المعنى، وستكون نظرتنا الى هذه العلاقة مختلفة تبعا لما اذا كان المؤلف او القارىء يكونان المعنى.
وانا اكاد انتهى من المفيد ان اعيد بناء الموقف الذي قيل فيه البيتان، يتعلق الموقف بالترقيص الذي يميل الى ابتكار لغته الخاصة، انه سلسلة متجانسة من الافعال المستقلة (ارتفاع، انخفاض، هز) وهذه السلسلة متتابعة زمنيا، ان الترقيص سلسلة من العمليات المحسوسة في الزمن، وهو مصنوع من اعمال جزئية ومكررة، لان الاطفال يفضلون التكرار على التنويع.
لقد اخترع الانسان الترقيص لانه يتلذذ بالمكرور المتجانس، وحين يرقص رجل او امرأة طفلا فهما يتبنيان افعالا طفولية لا علاقة لها بمظهرهما، يحاولان ان يفكرا في العالم كما يراه الاطفال، يوظفان كيانهما في الارتفاع، ويتعرفان نفسيهما في الانخفاض ويستثيران بهزهما الطفل افكارا شاسعة ولا نهائية يحرران جسديهما من القيود التي فرضها عليهما الزمن.
كل ما يحدث في موقف الترقيص يبدو معقدا جدا للغرباء الذين يتساءلون عن كيفية تفاهم طفل وكبير، لكن المؤكد ان المراقب يشعر بتعلقهما العميق والمتبادل، يشعر ان الطفل والكبير يتجاوزان الكلمات والمعنى، وانهما يتمتعان بذلك.
يترتب على هذا ان تتحرر الكلمات، لانها في هذا الموقف العدو الاكبر للمعنى، ان تتمركز في تكرار اصوات او ايقاع، لكي يتبادلا الاسرار التي تسبغ على حياتهما معنى، ربما لا يكون المعنى واضحا، لكن ذلك لا يهمهما، ولن يهمهما، فهما لم يسرعا وعيهما مع الكلمات والايقاع لكي يفهما.
سينعكس هذا التشويش على المعنى اثناء الترقيص، وبالعودة الى البيتين، سنجد ان الروابط موجودة (على، من) لكنها لا تنجح في انجاز وظيفتها، مثلما هي اداة التشبيه (كأن) ينبغي نسب التشويش الى موقف الترقيص، ان معنى الموقف برمته يكمن في لامعناه، فيما يشبه صورة حلمنا بها، لكننا لم نلتقطها قط، واذا كنا التقطناها، فاننا لم نحمضها.
يشكل الترقيص بصدى صخبه خلفية البيتين اللذين يشكلان افقا سماعيا، بيتان يسمعان في صمت، لان معناهما هو حشد من الانطباعات المبهمة، انطباعات لا يراها سوى من يعيش الموقف، موكب من الافكار والمشاعر، افعال الجسد، والاعصاب، وهمس الدم، والروابط السرية، والحبال، اللامرئية بين الكائنات.
اخيرا لا أعرف وانا احلل هذه الحكاية ما اذا كان تحليلي ضعيفا او غير مقنع، لكن فيما اتصور فان نوع التحليل الذي قمت به يمكن ان يكون مهما، لا لشيء الا لأنه يكشف للقارىء كيفية انجازي تحليل الحكاية، وكيفية تقديم الحجج على القضايا التي تتضمنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.