أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    برعاية الملك.. انطلاق مؤتمر مستقبل الطيران في الرياض.. اليوم    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    الترشح للتشكيلات الإشرافية التعليمية عبر «الإلكترونية المعتمدة»    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    السعودية تطلق منصة فورية لإدارة حركة الإحالات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    خادم الحرمين الشريفين يأمر بترقية 26 قاضياً ب «المظالم»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاهداتي في الصومال

عندما شاهدت في الفيسبوك فيديو مصور لأحدى وكالات الإعلام الغربية لطفلين صوماليين يحتضران تأثرت كثيراً ، وقررت عمل شيء لمساعدة الصوماليين في كارثة المجاعة ، وبدأت بالاتصالات عن الجهات التي يمكن أن تساعدني في هذه المهمة الإنسانية ، توجهت إلى هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية بجدة التي شحنت من خلالها 43 طن من التمور على نفقة بعض رجال الأعمال بمكة المكرمة ،
حاول بعض منسوبي الهيئة إثنائي عن فكرة زيارتي للصومال بسبب الظروف الأمنية (ولهم حق في ذلك ) حيث اخبروني بأن مندوبهم في مقديشو أصيب بالرصاص في الشارع العام وهو في العناية المركزة ، ولم استطع التواصل مع ممثلهم هناك لسوء خدمات الاتصالات الهاتفية ،
لم اكترث بالأمر فقد قررت السفر لمقديشو وتوجهت إلى وكالة (جوبا إيرلاينز) وهي الخطوط الصومالية بجدة في شارع حائل والتقيت بمدير الفرع السيد أبو بكر إبراهيم الذي رحّب بي وبأهداف الزيارة وهي البحث عن شركات حفر الآبار الارتوازية العميقة وعمل حفل معايدة للأطفال بمخيم للاجئين في عيد الفطر المبارك ، وفعلا سافرت يوم السبت 27رمضان 1432ه بعد شرائي للحلويات والقبعات وشرائط الزينة والأوراق الملونة لمستلزمات الحفل من جدة وشحنت بطائرة اليوشن الروسية المروحية التي يعود تاريخ صنعها إلى عام 1949م .
هبطت الطائرة في مطار عبد الله آدم الدولي في مقديشو ، واتجهت لمبنى المطار وقد أخذ التعب مني مأخذه ، ووصلت لمكتب الهجرة لإنهاء إجراءات الفيزا ، وطلب مني الموظف الانتظار لإنهاء الإجراءات ، ووصل أحد الموظفين مستفسراً عن الجهة المستضيفة لي في الصومال ، أخبرته بأنها الخطوط الصومالية (جوبا إيرلاينز) وهنا خرج العقيد محمود من مكتبة واستقبلني في مكتبه بترحاب وبشاشة وطلب مني الانتظار قليلا وبعد عدة اتصالات من هاتفه اخبرني بأن موظف الخطوط الصومالية سيصل بعد دقائق .
خلال هذه الأثناء وصل الجنرال محمد مسئول المطار، ورحبّ بي حيث لمست البشاشة وحسن التعامل والاستقبال من قبل المسئولين الصوماليين في المطار، وفعلا وصل أحد الموظفين من طيران جوبا إيرلاينز وشرحت له الموقف واتصل بالسيد عبد الكريم حسين جيليت مدير مكتب جمعية العون المباشر الكويتية بالصومال الذي تحدثت معه هاتفياً من جدة يوم الخميس ، ووصل بعد دقائق مقدماً اعتذاره لي ، وكان هذا الإجراء ضروريا جداً لسلامة الضيوف في بلد مزقته الحرب حيث لا يخرج أي ضيف من مبنى المطار إلاّ برفقة احد الصوماليين ويكون تحت مسئوليته ومسئوليته دائرته المباشرة .
خرجنا من مبنى المطار واتجهنا إلى فندق شامو وهو أفضل الفنادق الموجودة في مقديشو وهو بمستوى شقة مفروشة قديمة في الرياض أو جدة من ناحية التجهيزات الفندقية وسعره في الليلة 100دولار ويسكنه عادة موظفي هيئات الإغاثة الدولية والضيوف الأجانب وهناك فندق أفضل منه انتقلت إليه وهو فندق سفاري وبسعر 60 دولار ، والفندقين عليهما حراسة شديدة مسلحّة ، بعد إنهاء إجراءات الدخول توجهت لغرفتي وغيرت ملابسي ونمت من شدة الإرهاق والتعب .
في الساعة الخامسة عصراً استيقظت وأديت صلاتي الظهر والعصر، وجاء السيد عبد الكريم مع السيد أحمد شهاب مدير قطاعات الجنوب بجمعية العون المباشر الكويتية التي لها باع طويل في خدمة المسلمين في إفريقيا وكان يرأسه الدكتور الفاضل عبد الرحمن السميط (أطال الله في عمره) وتحدثنا عن نشاط جمعية العون المباشر في مجال حفر الآبار الارتوازية واخبرني بأن الجمعية اشترت فعلا آلة حفر ارتوازية من ايطاليا وهي في الطريق إلى الصومال وسيقوم بتدريب فريق عمل صومالي تحت إشراف أستاذ الجيولوجيا في جامعة مقديشو .
كنت على موعدي مع السيد عبد الكريم جوليت مدير جمعية العون المباشر بالصومال الساعة التاسعة صباحاً يوم الأحد 28رمضان 1432ه ، فحضر متأخراً وكانت فرصة لأشاهد الفرق الاغاثية الدولية وهي تتحرك عبر قوافلها التي وزعت في اغلب القطاعات بالصومال من باحة فندق شامو ، تحركت فرق الهلال الأحمر الإيراني المزودة بالأجهزة الملاحية الحديثة ولها فريق ضخم من المسعفين والأطباء والممرضين ولها حضور لافت من الإعلاميين عبر عدة قنوات فضائية إيرانية ، ثم شاهدت سيارات الهلال الأحمر الإماراتي بفريق طبي ومسعفين ، ثم الهلال الأحمر التركي الذي يضم أضخم الفرق الإغاثية الدولية من ناحية التجهيزات والمعدات الطبية .
بالنسبة للأطباء المتطوعين من منظمة أطباء عبر القارات التي تعمل تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي فتتقدمهم سيارة حراسة مسلحة ولم أرى أي وجود لهيئة الهلال الأحمر السعودي بين الفرق الدولية ، أو أي شعار لها على سيارات الدفع الرباعي الموجودة في فندق شامو أو سفاري .
وصل السيد عبد الكريم جوليت ومعه ضيف من مصر وهو اللواء متقاعد ممدوح قطب رئيس مؤسسة مصر الخير ومبعوث شخصي من قبل مفتي جمهورية مصر العربية فضيلة الدكتور الشيخ على جمعة ، والسيد أحمد شهاب مدير قطاعات الجنوب بجمعية العون المباشر الكويتية ، توجهنا إلى مستشفى بنادر للأطفال وشاهدت مناظر يندى لها الجبين خجلاً ، مئات الأمهات المرضى اللواتي أتين من مناطق نائية على الأقدام ومعهّن فلذات أكبادهنّ المرضى المصابين بالمجاعة ، لم تستوعبهم الأسّرة فجلسنّ بالممرات وعند البوابات وعلى الدرج وفي الردهات يريدون أكياس الجلوكوز الشحيحة ، فقد وصل المرض لأقصى درجاته في بعض الحالات فلا يستطيع الطفل ابتلاع أو أكل أو شرب أي شيء وينتظر الموت جوعاً ببطء ويا لها من نهاية مؤسفة إن لم تقدم له الأغذية السائلة عبر الشرايين أو الأنف .
كانت التهوية في المستشفى في منتهى السوء من شدة الازدحام والقاذورات في الممرات رغم التنظيف المستمر والأصوات المتداخلة بين الأمهات اللواتي يستجدين بحرقة مغذيات الجلوكوز النادرة لأطفالهنّ ، كان الأطباء المصريين من جمعية الهلال الأحمر المصري واتحاد الأطباء المصريين ونقابة الأطباء بمصر يعملون بجدّ واجتهاد وهناك العديد من المنظمات الطبية المصرية حاضرة في أروقة المستشفى ويشكلون اكبر نسبة من الأطباء اللذين وصلوا من أنحاء العالم العربي والإسلامي لنجدة الشعب الصومالي ، وتشرف الدكتورة ماجدة بسيوني رئيسة الهلال الأحمر المصري شخصياً على عمليات الفرق الطبية المختلفة .
كانت هناك قصص مأساوية تروى للوصول إلى المستشفى من بعض الأمهات فقد جئن من قرى تبعد مئات الكيلومترات من العاصمة على أقدامهن .. فترك بعضهنّ جثث أطفالهن الموتى في الطرقات الصحراوية لتنهش الكلاب البرية والضباع أجسادهم النحيلة وتكمل النسور الصلعاء ما تبقي من عظامهم الصغيرة.
شعرت بنوع من الفخر والاعتزاز فعلا عندما شاهدت أبنائنا الأطباء المتطوعين الشباب في المستشفى من جامعة الملك عبد العزيز ومن جامعة الملك سعود المنتسبين لمنظمة أطباء عبر القارات التي تعمل تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي وهم يعملون بلا كلل أو ملل يؤدون واجبهم بتفان كأنبل مهنة على وجه الأرض ، كانت الطبيبة السعودية مها فتح الدين وزميلتها الطبيبة فاطمة عقيل من مستشفى الولادة والأطفال بجدة تتوليان مهام التوليد والرعاية للأمهات المرضى بتفان وتضحية وهما الوحيدتان المتطوعتان من السعودية.
دخلت إحدى الغرف المخصصة للحالات الحرجة في الدور الثاني .. أطفال يحتضرون .. وتألمت اشدّ الألم عندما حملت طفلا فقد عينه اليسرى ومازلت أتذكر بحزن عندما تحسست عظام جسده النحيل المتهالك ارتعش رعشات خفيفة بين يديّ ومالت رقبته لينام بهدوء إلى الأبد .
ارتعش الطفل بين يديّ رعشات خفيفة محتضراً وأحسست بآلام الموت الممضّة في جسده النحيل ومالت رقبته ميتاً.
هناك طفل آخر حملته بيدي ينظر لي بعينية متسائلا .. لقد أتيت متأخراً من أنت ؟ .. أجيبه بنظراتي قائلا: أرجو منك السماح ولتصعد روحك البريئة إلى السماء لعلك تجد هناك ملائكة تحّن عليك أكثر مناّ على الأرض .. بعض الأطفال اللذين رفعتهم بيديّ لا تزيد أوزانهم عن كيلوين إلى ثلاث كيلوات وأعمارهم عدّة سنوات .. أتلمّس عظامهم البارزة على صدورهم العارية من سوء التغذية والجوع والعطش والمرض .
هناك أمّ في العشرينات من عمرها تبكي بحرقة فطفلها يحتضّر ويهتّز بين يديها بنظرات شاخصة وهي تبكي وتبكي ولا يستطيع أي طبيب تقديم أي مساعدة طبية .. لقد حضرت متأخرة .. فطفلها في أقصى مرحلة من سوء التغذية والضعف والوهن ولن تنفع حتى مغذيات الجلوكوز والأدوية في إنقاذه ولو ادخلوا الأنبوب من أنفه .. تأثرت كثراً من هذا المشهد فقد فاض روح طفلها إلى بارئها بين يديها .. وهي تبكي وتبكي بحسرة وألم .. ونسوة أخريات يهدئن من عويلها .. استشعرت بالنعم العظيمة التي نعيشها في بلادنا بين أطفالنا ونحن نرجوهم أن يأكلوا ما لذّ وطاب على موائدنا من أغذية مختلفة الأصناف ويتناولوا المشروبات مختلفة الأنواع ، وهنا في مقديشو أطفال يحتضرون ببطء ويموتون بألم من الجوع والعطش والمرض .
في كل متر مربع من هذا المستشفى قصة أسى وحزن ، من مئات العائلات الصوماليات اللواتي جئن من الريف على أقدامهن مع أطفالهن المرضى .. وبعضهنّ مشين لمدة ثلاث أشهر .. لا غذاء .. لا ماء .. لا دواء .. وأطفالهن .. حفاة .. عراة .. مرضى .. عطشى ..
ربما لا يدعم متصفحك عرض هذه الصورة.
آلمتني نظرات هذا الطفل القائلة هلاًّ فعلتم شيئاً من أجلنا؟
خرجت من المستشفى وأنا في قمة الحزن والأسى من نظرات بعض الأطفال لي وأنا أحملهم بين يدي .. وكأنّ لسان حال احدهم قائلا لي: لقد حضرت متأخراً .. ظللت ساعات لا أحدث أحدا .. من الكآبة التي حلّت بي . والحزن الذي المّ بي .. فليتمس لي هؤلاء الأطفال عذراً .. ليست لديّ أي سلطة .. ولا منصب .. ولا تأثير لصاحب مركز قرار .. ولا أي نفوذ لرجال الأعمال لحثّهم على التبرع .. كي أساعدهم وأخفف آلامهم .. جئت إلى الصومال لأحفر آباراً ارتوازية لأساهم في وقف الهجرة من الريف على الأقدام ويجب أن يحقق هذا الهدف وهو الحل الأمثل للمشكلة .. جئت إلى الصومال لأسعد أطفال المخيمات في عيد الفطر المبارك وأدخل السرور والسعادة لقلوبهم الكسيرة بإمكاناتي المتواضعة البسيطة .. فالتمسوا لي عذراً يا أطفال الصومال ..
الأطفال الجياع ينتظرون أدوارهم لغرفة من غذاء سائل في مخيم هدن-مقديشو الصومال
إن الكارثة أكبر من حجم المساعدات التي تصل للصومال ، تحية إجلال وتقدير لكل الجمعيات الخيرية من أنحاء العالم العربي والإسلامي التي تعمل في الصومال ، من ماليزيا واندونيسيا وباكستان وإيران وتركيا والأردن وغزّة ومصر والسودان وتونس وقطر والكويت والإمارات والجزائر والسعودية .
خرجت من مستشفى بنادر بمقديشو مهموماً وأنا أتخيل المستشفى التركي الهائل الذي أمر ببنائه قبل أسابيع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على اليمين ، والمستشفى الميداني الإيراني الذي أمر ببنائه قبل أسبوعين رئيس الهلال الأحمر الإيراني أبو الحسن فقيه على اليسار ، وتخيلت مستشفى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الخيري في الأمام ودعوت الله تعالى أن ينجز بناء هذا المستشفى عاجلاً ويجعله في موازين حسناته ، ودعوت الله تعالى أن يُسمع صوتي عند حاشيته وبطانته الخيّرة ، ويُجمع أطبائنا وطبيباتنا السعوديين المتطوعين للعمل في هذا المستشفى تحت مظلة الهلال الأحمر السعودي .
ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان استيقظت الساعة الثالثة صباحاً على طرق باب غرفتي من اللواء متقاعد ممدوح قطب رئيس جمعية مصر للخير وهو يحثّنا على صلاة التهجّد ، وفعلا تجّمع في المسجد الصغير في باحة الفندق بعض المصلين وأمناّ بنفسه وكانت تلاوته عذبة بصوته الرخيم ، انسابت كلمات القرآن الكريم مثل جدول رقراق غاسلاً همومنا وتعبنا ، وازداد قربنا إلى الله تعالى ، كأني شعرت بأن ليلة القدر كانت ليلة التاسع والعشرين لست ادري ؟ وبعد دعاءه المؤثر خرجنا من المسجد تحت هتان مطر خفيف وصعدت إلى غرفتي بفندق سفاري بمقديشو، بعد تناولنا طعام السحور اتجّه كل واحد منا إلى غرفته منتظرين صلاة الفجر وبعد أدائها ، نمت بعدها .
صحوت من نومي على طرق باب غرفة الدكتورة ماجدة بسيوني رئيسة هيئة الهلال الأحمر المصري المجاور لغرفتي وإذ بصوت احد الأطباء المصريين وهو يحثهّا على الإسراع في الخروج للذهاب إلى المطار تمهيدا لعودتها لمصر.
اتصل بي الدكتور أنس عبد القادر فتح الدين (وهو أحد الأطباء العاملين في المستشفى الجامعي بجامعة الملك عبد العزيز المتطوعين ) عن موعد وصولي لمستشفى بنادر فقد أبدى رغبته في التبّرع لأطفال اللاجئين يوم أمس ، طلبت منه إحضار مبلغ التبرع للمستشفى ، وفعلا توجّهنا إلى المستشفى مباشرة وعند دخولي انقبضت نفسي من ذكريات يوم أمس ومشاهد الأطفال المحتضرين لم تفارق مخيلتي حيث يموت في المتوسط 7-10 طفل في قسم الحالات الحرجة يومياً ، قلت في نفسي كان الله في عون الأطباء والجراحين عند مشاهدتهم حالات الوفاة اليومية وهو جزء من أعمالهم النبيلة .
سعدت أيما سعادة عندما شاهدت شاحنات و بها إمدادات طبية وصلت للتو من جدة عبر منظمة أطباء عبر القارات ، وكان العمال يحملونها على عجل إلى أقسام المستشفى ، وهناك شاحنات أخرى وصلت من جمعية قطر الخيرية بها الجلوكوز المغذي الذي كان المستشفى بحاجة ماسّة له ، كان مشهد الأطباء من اتحاد الأطباء العرب ، وأطباء عبر القارات ، وأطباء مصر وأطباء نقابة السودان بالإضافة للأطباء السعوديين المتطوعين وهم يعملون بكامل طاقاتهم لخدمة الأمهات الصوماليات وأبنائهنّ بتفانّ من دون أي مقابل مادي كان مشهداً لا ينسى فعلاً ، وتمنيت لو كان هناك المزيد من الشباب الأطباء والطبيبات من العالم العربي لمعالجة الوضع الإنساني المتردي في هذا القطر.
وصل الدكتور أنس وأراد تسليمي المبلغ أمام الناس ، طلبت منه فوراً عدم فتح شنطته الصغيرة والتوجّه إلى السيارة ودخولها وتسليمي المبلغ هناك ، فمنظر مئات الدولارات أمام أناس جائعين قد يعرض حياتنا الاثنين للخطر فعلاً من تصرف طائش لأحد المحيطين المسلحين .
توجهت إلى مخيم هدن القريب ، شاهدت طوابير طويلة من النساء والأطفال جاءوا يطلبون حصصهم من الغذاء السائل ، فالمخيم يأوي عشرة آلاف نازح ولجمعية العون المباشر الكويتية العديد من المخيمات في مواقع مختلفة ، ولا يستطيع زيادة الطاقة الاستيعابية له ، وربما هناك مخيمات تشرف عليها وكالات الإغاثة السعودية في مواقع مختلفة في مقديشو لم استطع التواصل معها أو زيارتها لخطورة الوضع الأمني .
لكي تستشعروا بخطورة الوضع الأمني المتدهور لا تمر ساعة إلا وتسمع صوت إطلاق نار في الشارع العام (شارع مكة المكرمة) الذي يقع فندقنا عليه من رشاشات الكلاشينكوف المنتشرة بين المسلحين ، ويمكن أن تسمع دويّ انفجار قنبلة بين الفينة والأخرى فلا تنزعج ، وأهمّ إجراء متخذّ هو أن لا تخرج رأسك من النافذة بفضول لتعرف ما لخبر؟
لابد من وجود فريق حراسة معك إذا خرجت في النهار، فليست هناك حكومة قوية تضمن لك الأمن ، ثلث المدينة لحركة شباب المجاهدين والثلثين للحكومة الصومالية المدعومة بقوات اوغندية وأفريقية ، بعد الساعة الخامسة عصراً إياك ثم إياك الخروج من الفندق مهما كانت الأسباب ، واحذر الخروج بالزي السعودي فقد تُختطف ويطلب منك فدية لفك إسارك ، ماذا تنتظر من شعب جائع متمرّس على الحرب ، به عصابات مسلحّة وقطاعين طرق يجوبون الشوارع ؟
كانت هناك مهمة أخرى لنا وهو توزيع كسوة العيد ، حيث جمعت في أكياس وطلب مني السيد احمد شهاب توزيع بعضاً منها ، وافقت على الفور وكانت مناظر السعادة ترتسم على محيا الكثير من اللاجئين وهم يستلمون كسوة العيد فشعرت بالنعمة العظيمة التي نعيشها في بلادنا .. نعمة الأمن ونعمة الغذاء ونعمة رغد العيش الذي نحن فيه ، نسأل الله تعالى دوام هذه النعم علينا.
توجهنا بعد ذلك إلى مخيم حمروين في شرق العاصمة مقديشو ، كان الشارع خارج المخيم مزدحما فهؤلاء اللاجئين عندما يسمعون بأن هناك جمعية ستوزع كسوة العيد لمنسوبيها يسرى الخبر كسريان النار في الهشيم ويتقاطرون من حدب وصوب ، وبالكاد استطعنا اختراق بعض الصفوف بالسيارة وقد يصل التجمّع إلى عشرات المئات منهم ، ولم نستطع عبور الأرتال البشرية بالسيارة ، فترجّلنا وقطعنا عشرات الأمتار حتى وصلنا لبوابة المخيم ، وفعلا كانت هناك طوابير طويلة من النساء والأطفال تنتظر كسوة العيد
وأثناء التوزيع لمحت بينهّن امرأة شابة ربما في العشرين من عمرها تبكي بحرقة ، وتخفي دموعها في خمارها ، لفت نظري لون شعر ابنها الأشقر وبشرته الفاتحة ويختلف هيئته ومظهره عن بقية الأطفال الآخرين ، جاءت باكية وتحدثت معي ودموعها تنساب على خديها بغزارة ، لم افهم كلمة واحدة ولكني عرفت أن ابنها مريض وفعلا وضعت يدي على جبهته كان يعاني من حمّى فعلاً ، ناديت مدير المكتب السيد عبد الكريم جوليت وطلبت منه مساعدتها وفعلا ابلغ احد موظفيه الذي نقلها إلى العيادة الطبية في مخيم آخر، وقبل أن تغادر ناولتها كيس ملابس العيد فسعدت كثيراً.
لفت نظري طفلاً آخر .. كانت هناك تجاعيد في جبهته ، وناديته فلم يفهم إشارتي ، طلبت من أحد الموظفين مناداته ، تأملت تجاعيد وجهه من جديد ، وسألت عن عمره فإذا عمره 55عاما ، ولكنه قزم ولم يتزوج ، وانحاز ضمن طوابير النساء والأطفال ليأخذ حصة من الطعام أو الكسوة ليبيعها فيما بعد ربما.
خرجنا من المخيم واتجهنا إلى موقع آخر ، أراد السيد عبد الكريم جوليت أخذنا في جولة في العاصمة بناءاً على طلبي من قبل لمشاهدة بعض الآثار والمعالم الثقافية التي كانت تميز مدينة مقديشو التي دمرتها الحرب ، ذهب بنا إلى مسجد أثري قديم قائلاً بان عمره ثمان مئة سنة ، وكان موقع المسجد على رأس شعاب مرجانية متآكلة وأمواج المحيط ترتطم بكل قوة على تلك الشعاب ، مشهد جيولوجي مثل هذا يفتح شهيتي للشرح العلمي وهذا ما فعلته معهم . دخلنا المسجد القديم المرمم وأديت صلاتي الظهر والعصر إماماً ، وكان المصلون يتوضئون من مياه البحر مباشرة .
كانت هناك حواجز إسمنتية في الشوارع الهامة ونقاط تفتيش، وعندما يستوقفنا احد العسكريين المسّلحين يقول له السيد عبد الكريم إنهم ضيوفي بلغتهم الصومالية الدارجة فيفتحون الأبواب بعد أن يدققوا في ملامحنا .
دخلنا منطقة مزدحمة في السوق الشعبي القديم الخاضعة لسيطرة شباب المجاهدين وعلقنا في الزحام ، هنا طلب مني السيد احمد شهاب رفع زجاج النافذة وقفل الباب قائلا: هذه المناطق خطيرة على الأجانب وليست معنا حراسة مسلحة وتكثر حوادث اختطاف الأجانب في مثل هذه المواقع ، وشعرت فعلا بتوتره فهو خبير في الشئون الأفريقية بحكم عمله في أفريقيا منذ سنوات بعيدة ، كانت دقائق متوترة حتى لاحظت ذلك على وجه عبد الكريم جوليت والسائق أيضاً ، فالعصابات المسلحة في كل مكان في العاصمة ، وإن أصيب أي أجنبي بمكروه فسيقفلون الجمعية المستضيفة فوراً ، والحمد لله خرجنا من منطقة السوق الشعبي والازدحام بالسلامة.
في الطريق توقفنا لأداء صلاة العصر في مسجد التضامن الإسلامي الذي أمر ببنائه الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز يرحمه الله عام 1974م ، أما إنا فقد ظللت خارج المسجد التقطت بعض الصور للمسجد وقد حالت أجزاء كبيرة منه إلى خراباً ، وتحولت حدائقه الجميلة إلى مقابر ، وتمنيت أن تقوم مؤسسة الملك فيصل العالمية بالرياض بإعادة بناءه وترميمه من جديد ويوكلوني بهذه المهمة فمازلت أتذكر صورة الملك الشهيد في نشرات الأخبار بالتلفزيون الأبيض والأسود بتعليق المذيع ابراهيم دمياطي وهو يزور دول أفريقيا في رحلة التضامن الإسلامي ، كما ساحت بي الذكريات عندما بكيت مع بعض زملائي يومذاك وأنا في الصف الأول متوسط عندما سمعنا بخبر استشهاده عند باب مدرستنا المقفل بالطائف من حبنا الكبير له يرحمه الله ، دعوت الله تعالى أن يوفقني لإسداء خدمة لهذا الملك الشهيد بان أكون سبباً في ترميم مسجده في مقديشو وأن يصل صوتي لأحد أبناءه البررة ليعيدوا لهذا المسجد مجده القديم.
نصحني السيد أحمد شهاب بأداء الصلاة في أي مسجد كان قديما أو حديثا أو مهجوراً فتلك المساجد ستشهد لي يوم القيامة ، وتقبلت نصيحته شاكراً وهذا بالفعل ما أريد تطبيقه مستقبلاً.
رجعنا إلى فندق سفاري الثالثة ظهراً ، وبعد استراحة طرق علىّ الباب السيد احمد شهاب طالباً مني مرافقته للميناء فقد وصلت شحنات جديدة من المساعدات الكويتية من الدقيق ، وفعلا خرجت معه ، وعند وصولنا الميناء كانت هناك حراسة شديدة من الجنود الاوغنديين وطلب احد الجنود يرتدي سترة واقية من الرصاص صارخاً بلهجة عسكرية صارمة طالباً منّا الخروج من السيارة وأصبعه على زناد رشاش سريع الطلقات بزاوية 45درجة ، وذكرتني طريقة عملة بالأفلام الأمريكية وشخصية رامبو العسكرية ، فتش الجنود الأوغنديون الجميع تفتيشا يدوياً ، ولهم حق في ذلك فالموقع مهدد بضربها من حركة شباب المجاهدين اللذين يفجرون أنفسهم بالأحزمة الناسفة وينظرون للجنود الأوغنديين والأثيوبيين بأنهم غزاة .
طلب قوة حراسة البوابة الرئيسية للميناء عدم دخول السيارة مستفسراً عن محتوى الكراتين في الخلف،وهي الألعاب التي أحضرتها معي من جدة لمراسم حفل العيد من قبعات ملونة وبالونات ،وقام بتمزيق جوانبها والتأكّد من (لقد سمعت الآن في هذه اللحظة وأنا أكتب مذكراتي صوت انفجار مدويّ في الشارع العام .. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) محتوياتها .
كانت هناك حظيرة هائلة للهلال الأحمر التركي قدرتها بملعبي كرة قدم في الميناء ، تشحن المساعدات الإغاثية إلى كينيا أولا وتصل إلى مقديشو عبر سفن صغيرة ثانياً ، فطاقة الميناء لا تستوعب تفريغ حمولات السفن الضخمة ، هناك حاوية أخرى هائلة للهلال الأحمر الكويتي وأخرى أصغر لمنظمة الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة والتي لم تقدم الإعانات المطلوبة كما أشار عبد الكريم جوليت ، ولم أرى مستودعات للهلال الأحمر السعودي في الميناء ، ربما هناك مستودعات في المطار فغالبا تأتي المساعدات جواً عبر الجسر الجوي السعودي للصومال.
جهّزت سبع شاحنات من المساعدات الغذائية والطبية للتوجّه إلى منطقة جدو وبيدوا عاجلاً وهي أكثر من المناطق تضرراً بالمجاعة ، ولا أعرف لماذا لا يسمح حركة شباب المجاهدين بدخول الأطباء أو رجال الإغاثة المسلمين أو العرب إلى مناطقهم ؟ إنهم يتحملون وزر وآثام الموتى من المجاعة اللذين خرجوا يقطعون مئات الكيلومترات على أقدامهم.
في الفندق مساءاً حضر اثنين من أعضاء الهلال الأحمر الكويتي وهنئوني بالعيد وناقشوني عن بعض مفردات محاضرة (رحلة علمية لأدغال الأمازون) التي وجهني رئيس النادي العلمي السعودي سمو الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز (يرحمه الله) بتنفيذها لأوائل الطلبة المتفوقين الحائزين على مرتبة الشرف الأولى من جامعات المملكة عام 2005م والتي ألقيتها لهم الليلة الماضية وحضرها لفيف من الأطباء ومنسوبي الهيئات الإغاثية بفندق سفاري .
اتصلت هاتفياً بوالدتي وزوجتي مهنئاً ومطمئناً ، وجلست اخطط ليوم غد الحافل بالأعمال وهو يوم عيد الفطر المبارك.
يوم الثلاثاء 1شوال 1432ه بعد أن أديت صلاة الفجر توجهت إلى مخيم هدن ، ورتبت مراسم حفل المعايدة لأطفال اللاجئين وكانت واحدة من أهداف رحلتي للصومال ، وتم تفكيك كراتين الألعاب والبالونات والأوراق الملونة والحلويات التي أحضرتها معي من جدة ، وتم تركيب أوراق الزينة وتوزيعها على المخيمات ،كنت اسلّم على من بالخيمة المصنوعة من أغصان الأشجار والمغطاة بالنايلون وأوراق أكياس الاسمنت والخيش البالية ، أغلبهم كانوا يجلسون على الأرض القرفصاء ، قد تجد في الخيمة الصغيرة الواحدة خمس أو ست أطفال مع والدتهم ، يفترشون الأرض ونظراتهم بائسة مستجدية خائفة .
كنت أهنئهم بحلول عيد الفطر المبارك وأعطيهم شريطا ملوناً ليعلقوه على باب خيمتهم كنوع من البهجة بالعيد ، إنهم ينظرون ليوم العيد كأي يوم من أيام حياتهم البائسة في ظل المجاعة (فضلا استمع لبعضهم في تغطية قناة الجزيرة للحدث في الرابط المرفق).
طلب مني السيد حسين نائب مدير مكتب العون المباشر بالصومال التجّهز للذهاب إلى الجامع لأداء صلاة العيد،وفعلا وصلنا للجامع وأنا بالزي السعودي من دون حراسة وأفسح لي الأهالي مكاناً عند محراب المسجد ، وكبرت تكبيرات العيد في الجامع عبر الميكرفونات مع المؤذن ، وبعد أداء الصلاة تبادلت التهاني والتبريكات مع بعض المصلين وخرجت ابحث عن حسين ، لقد شعرت بالخوف لأول مرة فقد أحاط بي الناس خارج المسجد إحاطة السوار بالمعصم من كل الجهات وهم يظنون أني سأعطيهم نقوداً ربما ، كانت الدائرة حولي لثلاثة أو أربعة أمتار وأنا في المركز لا أستطيع التحرّك من شدّة الزحام ، لقد ابتعدت عن بوابة الجامع لأكثر من عشرة أمتار ومازالوا يحيطون بي وفي المكان فسحة ، خشيت على محفظتي في البداية ، ثم شعرت بالخوف على حياتي فعلاً عندما تذكرت نصائح من سبقوني لا تخرج من دون حراسة مسلحة ، لا تلبس الزي السعودي في الشوارع إطلاقاً .
تذكرت قصة حادث إطلاق النار على أحد منسوبي هيئة الإغاثة الإسلامية بمقديشو قبيل وصولي لها .. كنت أتوقع حدوث شيء ما من احد المسلحين المحيطين ، بحثت عن السيد حسين الذي شق طريقه وسط الناس وسحبني من بينهم ووضعني في السيارة مسرعاً وطلب مني قفل الباب ، وخرجنا بالسيارة من وسط الزحام .. تنفست الصعداء .. والحمد لله على حفظه .
توجهت إلى فندق شامو لأحضر الأطباء والطبيبات السعوديات لمساعدتي في توزيع الحلوى والهدايا في الحفل بوجود الحراسة المسلحة الذي أشعرنا بنوع من الاطمئنان .
وزعنا للأطفال الشكولاتات وحلويات التوفي والقبعات الملونة والملابس الجديدة وطلبنا منهم ترديد الأناشيد الوطنية ، يا لها من لحظات ماتعة لأول مرة يشعر الأطفال بفرحة العيد منذ سنوات ، كانت سويعات بهجة وسرور وسعادة لا توصف لهم وهم يرقصون ويغنون ويرددون أهازيج عيد الفطر المبارك بلغتهم الدارجة ، كنت سعيداً بان اقضي هذا العيد مع الأطفال الصوماليين لأشعرهم بأننا لم ننساهم في العالم العربي والإسلامي واطلب منهم ترديد عبارة (عيد سعيد .. عيد مبارك)، كنت مبتهجاً معهم أشعرهم بفرحة العيد كما مع أطفالنا في السعودية وأنهم جزء من أطفال العالم العربي ، يفرحون ويلهون ويتمتعون بوقت ينسون فيه ولو لسويعات ما ألمّ بهم .
كان هناك عدداً من الأطفال الأيتام رفعت بعضهم بيديّ وأحببت أن أكون أبا لهم ولو لسويعات قليلة .كانت مشكلتي يوم حفل المعايدة هي الأعداد الغفيرة من العائلات الصومالية التي سمعت بأخبار الحفل وجاءوا من كل حدب وصوب لبوابة المخيم ولا أستطيع إدخالهم فليست لي صلاحيات بذلك ، ولا أستطيع الخروج لهم للناحية الأمنية ولسلامتي الشخصية.
جاءت مجموعة من القنوات الفضائية العالمية لتغطية الخبر من ضمنها (الجزيرة والعربية والعالم وبعض محطات التلفزة الصومالية المحلية) ، غادر فريق أطباء عبر القارات السعوديين المخيم باكراً لمستشفى بنادر ، وعلمت فيما بعد بأن الدكتورة مها فتح الدين طُلبت للعمل يوم العيد لحالات طارئة وكانت توزع الهدايا والعيديات النقدية لمريضاتها وأطفالهن ، غير مكترثة بإجازة عيد الفطر المبارك وأكبرت هذا الموقف منها.
جاءت مجموعة من الأطباء المصريين من نقابة الأطباء واتحاد الأطباء العرب وشاركوا حفل معايدة الأطفال في المخيم ، واخبرني احدهم بضرورة بناء مستشفى للأطفال يشرف على تشغيله الأطباء المتطوعين العرب،وابلغني طبيب آخر بأنهم يرسلون المرضى الصوماليات لعمل تحاليل أو أشعة من الأجهزة الطبية التي وفرتها قطر ، فيطلب المشغلين الصوماليين مبلغ 15 دولار من المريضة التي ترجع خائبة للطبيب فهي لا تملك دولاراً واحداَ فكيف ب 15دولار .
انتهت مراسم الحفل وتقدم طابور جديد من النساء والأطفال يطلبون كسوة العيد وبعض الهدايا ، الحمد لله حققت الهدف الرئيس لمجيء للصومال وهو إدخال البهجة والسرور لقلوب الأطفال في عيد الفطر المبارك وأدع الله تعالى أن يتقبل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم.
عندما خرجت من المخيم رأيت عشرات المئات من العائلات وهم حزانى ومحبطون لعدم قدرة أطفالهم المشاركة في أفراح العيد مع الأطفال الآخرين داخل المخيم ، وشاهدت الأمهات اللواتي يستجدين كسوة العيد الذي لا يشعرون بفرحته منذ سنوات .
رجعت إلى الفندق من جديد وكنت بحاجة ماسّة لأخذ قسط من الراحة ، وفي العصر توجهت إلى فندق شامو لألقى لهم محاضرة(رحلة علمية في أدغال الأمازون) لدفعة جديدة من الأطباء ونزلاء الفندق من الهلال الأحمر الإماراتي ، ثم رجعت إلى فندق سفاري من جديد.
كنت أفكر في العودة إلى جدة ولكن بدون طائرة اليوشن الروسية المتعبة ،طلب مني السيد احمد شهاب مرافقته لمخيم (داداب) في أقصى الجنوب الصومالي على الحدود الكينية ، ووافقت على ذلك وتجهزت للسفر يوم الأربعاء إلى نيروبي على خطوط (جوبا إيرلاينز) في الصباح اجتمعت مع خبراء شركة آران لحفر الآبار الارتوازية والتي قدمت عروضها لحفر الآبار وقد حققت هدفي الثاني لمجيئي للصومال.
في المطار كانت الإجراءات الأمنية شديدة ومتعبة ، البوابة الرئيسية مقفلة بحوائط خرسانية ضخمة ، كيف تفتح ؟ تأتي رافعة شوكية ترفع أحد الحوائط وبالكاد تدخل السيارة وبعد دخولها يوضع الحائط من جديد ، فقد تعرض مدخل المطار لهجوم بسيارات مفخخة من قبل حركة شباب المجاهدين ، أدخلت حقائبي عبر الأجهزة الالكترونية ثم فككت واحدة واحدة وتفتيش يدوي ممّل لكل المحتويات، ثم ركبنا الطائرة النفاثة من طراز بوينج 737 ، والتي هبطت في مطار خاص للطائرات الصومالية فقط في شمال كينيا ،وتم تفتيش الحقائب من جديد بواسطة الكلاب البوليسية ، وأنهيت إجراءات الحصول على الفيزا لدخول كينيا ، كانت هناك معاملة رسمية شديدة من قبل موظفي الأمن والجمارك للصوماليين ، وبالنسبة للركاب السعوديين كانت معاملة راقية ومهذبة من قبل السلطات الكينية .
وصلنا لمطار نيروبي ، كان هناك تفتيشا عبر الأجهزة الالكترونية من جديد ، وتأخرنا في الخروج لساعتين ربما كانت متعمّدة ، فقد شاهدت عدة كاميرات في تلك الصالة ربما تدقق في تعابير وجوه المسافرين ، كان معنا في الطائرة مجموعة كبيرة من أطباء منظمة عبر القارات للعودة إلى أوطانهم ، والذين ملوا من طول الانتظار .
توجهت مع السيد أحمد شهاب إلى فندق الجامع بوسط نيروبي حيث استقبلنا الدكتور إسماعيل مدير مكتب العون المباشر بنيروبي ، فيما ذهب الأطباء بمنظمة أطباء عبر القارات لفندق حنان ، لقد أحسست بنوع من الأمان لوجود حكومة في البلد ، رغم وجود بعض اللصوص مقارنة بالصومال ،على الأقل لا تسمع أصوات الرشاشات أو القنابل في الشوارع.
اعتذرت للسيد احمد شهاب للسفر معه بالسيارة إلى مخيم (داداب) فالمسافة 690 كيلومتر، وتستغرق رحلته أسبوعا ، قمت برحلة سفاري بمفردي إلى محمية نيفاشا وبحيرة ناكورو لأخفف عن نفسي أسبوعا من العمل المجهد المتوتر، وعدت إلى نيروبي مساءاً ، ثم رجعت إلى جدة صباح السبت 4 شوال عبر الخطوط السعودية.
أفكر في كيفية إنقاذ الأطفال من خطر الموت جوعاً ،فقد اطلعت على نشرة أخبار الفرنسية 24 بأن الأمم المتحدة أعلنت عن إضافة منطقة جديدة بالصومال لمناطق المجاعة ست من أصل ثمان وهذا يعني المزيد من الموتى خلال الثلاث أشهر القادمة ليصل العدد (12-15طفلا) قي اليوم .
أوجّه ندائي لسيدي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية يحفظه الله لبناء مستشفى الولادة والأطفال بمقديشو على نفقته الخاصة ، ويكرمني بنيل شرف بناء هذا المشروع الخيّر، فمنظر الطفل الذي مات بين يديّ يقضّ مضجعي منذ ذلك اليوم ومشاهد الأمهات الثكالى بمستشفى بنادر تزيد من رغبتي في عمل شيء ما لهم ، اسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في موازين حسنات سموه يحفظه الله ، واسأل الله تعالى أن يوفق بطانته الخيّرة لإيصال صوتي لسموه الكريم.
مرفق تقرير إخباري في قناة الجزيرة:
الناشط الإنساني عبد الحفيظ محمد الأمين
http://www.youtube.com/watch?v=q9bU7sq34s0&feature=share
ناشط سعودي في الأعمال الإنسانية – جدة
مدير النادي العلمي السعودي – هيئة المساحة الجيولوجية السعودية
البريد الإلكتروني : [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.