كان العرب في الجاهلية ينقسمون في أخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم إلى شقين ومسارين، أحدهما تتجلى فيه القيم والشهامة والمروءة وكمال العزة وأنفة النخوة، التي تزيد المرء حسناً وكمالاً وتميزاً، والشق الآخر تجاوزوا فيه حدود العرف والمنطق والذوق الإنساني، ليصل للحماقة والتعالي والتباهي الذي ما أنزل الله به من سلطان، سواء أكان في الحياة الاجتماعية أو السياسية، وهكذا هي الحضارات والأمم، ينشأ فيها الجميل والقبيح والحسن والسيئ، وقبائل العرب منذ القدم ليست على مسافة ودرجة واحدة في الأخلاق والقوة والشهرة والتعاضد. ولقد أسهم عرب الجاهلية في تثقيف الأمم والشعوب بعدهم من خلال الشعر والمأثور من الحكم والأمثال حتى عالجوا مشكلات عصرهم، فاستعملوا الشعر والحكم المنثورة المختصرة المقتضبة وهي عبارة عن إجابات قصيرة على أسئلة عميقة كبيرة. فهذا إعرابي يجيب على سائلٍ يتحايل عليه ليسقيه كأساً من الخمر، فقال له: ألا تشرب الخمر؟ فأجابه: لا يليق. فقال له: لمَ لا يليق؟ فقال: أأصبح سيد القوم وأمسي سفيههم..! بهذا الإيجاز علل ووضح الإعرابي الداعي أو السبب الذي دعاه لأن يرفض طلب سائله، وإجابته تدل على عرف قد مضى حتى لدى الأولين بأن شارب الخمر يبيت بعد تناولها في سفهِ وخفةٍ وطيش يدعو للشفقة والرحمة عليه، وقد أثبت الطب النفسي الحديث في دراسات متعددة بأن متعاطي الكحول تنتابه نشوة شعورية، يغيب على ضوئها نداء الحكمة وصوت الضمير والخلق الإنساني، لتصبح معه أفعاله واهتماماته معاكسة ومناقضة للعرف والمنطق، وقد يتضاعف مع الزمن احتمال إصابته بمرض انفصام الشخصية الذي من أعراضه اضطراب في المزاج والسلوك وتناقض في المشاعر والانفعالات النفسية. والسبب أنه حين ينتشي الجسم ويبدأ الدماغ بالاستجابة للتفاعلات الكيمائية جراء تناوله للكحول تختل وترتبك وظائف الدماغ، فتتعطل عن التفكير السوي والتحليل المنطقي المعتاد، وحين لا يجد إجابة من العقل الواعي، يعتمد حينها على شعوره ورغباته وانفعالاته في اتخاذ قراراته ومعاملاته، فيتفاجأ بعد ذلك بأنه ارتكب جرماً أو تعدياً لم يكن ليفعله في حالته الطبيعية، فتنشأ حالة الاضطراب والقلق والإفراط في محاسبة النفس وتأنيب الضمير التي قد تؤدي يوماً إلى الانتحار بسبب كراهية النفس، وذلك لكثرة تأنيب الضمير والرثاء على الذات والشعور بالندم والحسرة. لذا ببساطة فإن -الشهامة والمسكر- طريقان لا يجتمعان، لما يتخللهما من تعارض وتناقض سلوكي وانفعالي، يحتم على المرء أن يختار أحدهما على حساب الآخر، وإلا لما قال الإعرابي مقولته التي تغني عن ألف طبيب ومليون نصيحة.