الجاسر: نعمل على توسعة مطارات الباحة وجازان والجوف    وول ستريت تفتح على استقرار مع ترقب نتائج إنفيديا    قدوم 267657 حاجا عبر المنافذ الدولية حتى نهاية أمس    نائب أمير جازان يكرم 1238 متفوقاً ومتفوقة بتعليم جازان    غرفة الشرقية تعقد "لقاء رياديون" لطلبة جامعة الامام عبدالرحمن بن فيصل    من هو الرئيس المؤقت لإيران؟    أمير الرياض يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية المتقاعدين بالمنطقة    الوحدة يضع أنظاره على أحمد حجازي    وفاة الرئيس الإيراني والوفد المرافق له في حادث تحطم الطائرة المروحية    "سلمان للإغاثة" يختتم مشروع جراحة وقسطرة القلب في عدن    بلديةالبكيرية تنفذ 2754 جولة رقابية في شهر أبريل الماضي    أرامكو توقع اتفاقية مع "باسكال" لاستخدام أول حاسوب كمي بالسعودية    تايكوندو الشباب يهيمن على بطولتي البراعم والناشئين والحريق يزاحم الكبار    القيادة تعزّي دولة رئيس السلطة التنفيذية بالإنابة السيد محمد مخبر في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    بعد مصرع عبد اللهيان.. «كني» يتقلد حقيبة الخارجية الإيرانية    زلزال بقوة 5.2 درجة يضرب منطقة "شينجيانج" شمال غرب الصين    تعليم البكيرية يعتمد حركة النقل الداخلي للمعلمين والمعلمات    إيران تعلن رسمياً مصرع الرئيس ووزير الخارجية    وصول أبطال آيسف 2024 إلى جدة بعد تحقيق 27 جائزة للوطن    «التعليم» تحدد أنصبة التشكيلات المدرسية في مدارس التعليم العام    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول أمطار بعدد من المناطق ورياح نشطة في الشمال    حبس البول .. 5 آثار أبرزها تكوين حصى الكلى    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    مرضى جازان للتجمع الصحي: ارتقوا بالخدمات الطبية    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    الانتخابات بين النزاهة والفساد    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صعيد مصر.. تراث من الأزمات وبئر من الأسرار (2- 2)
حكايات "الثأر والإرهاب".. وصراع "القبيلة والجماعة".. ودراما التاريخ والجغرافيا
نشر في الوطن يوم 23 - 05 - 2014

نعود مرة أخرى لموقعة "البلابيش والحميدات" لنجد أن الصراع بينهما اتخذ مسارا جديدا عام 1985، ففي الوقت الذي استند فيه البلابيش على أموالهم وأبنائهم العاملين بأجهزة الدولة وما ترتب على ذلك من علاقات واتصالات تكفل توفير الحماية لهم بشكل أو آخر، تصل أحيانا لحد التواطؤ معهم من جانب بعض رجال الإدارة، وهو الأمر الذي نكأ الجرح القديم والصراع التاريخي بين البلابيش ذوي الأصول المملوكية والحميدات ذوي الأصول العربية، الذين انخرط الكثيرون منهم في صفوف جماعات التطرف الديني، لما يمثله لهم هذا الانتماء من تعويض نفسي واجتماعي إزاء ما يلقونه من تعنت وتهميش ليدخل بذلك الثأر في حسابات سياسية ويتخذ أبعادا أعمق من مجرد الخلافات القبلية.
فما حدث أن البلابيش، وبينهم ضباط وقضاة ومسؤولون كبار وتجار أثرياء عقدوا صلات وثيقة برجال الإدارة المحلية والأجهزة التنفيذية والأمنية، وفي سياق رد الفعل المتوقع تورط شباب الحميدات بالارتباط الوثيق بالخارجين على المجتمع والنظام، سواء من "المطاريد المجرمين" أو من الجماعات المتطرفة المسلحة، وكلتا الطائفتين تحملان عداء وخصومة مع النظام والأمن والدولة، وترتب على ذلك الارتباط بهم دعم موقف "بني حميد" بعدما يئسوا من حياد رجال الإدارة، وهكذا اتخذت الخريطة الاجتماعية للخصومات الثأرية شكلا مختلفا وأبعادا أكثر تعقيدا، وهي "الخصومة ذات الصفة السياسية" وإن ظلت آليات الثأر المتعارف عليها هي الفيصل المتحكم بالأمر رغم اختلاف أطراف الخصومة وأشكال الصراعات ودوافعها مما أدى في هذه المرحلة لتحول جذري في طبيعة المواجهة بين الأمن وجماعات التطرف مثل "الجماعة الإسلامية" و"تنظيم الجهاد" وغيرهما من الحركات الإرهابية التي نشطت في تسعينات القرن الماضي، لما يشبه علاقة الخصومة الثأرية، بينما انحصرت الفوارق في التفاصيل والأسس الفكرية للصراع الدائر بينهما.
وبينما اتخذت الأعراف القبلية والعادات المتوارثة إطارا فكريا وثقافيا للثأر، مرجعيته العصبية وصلات الدم، نرى أن "تكفير المجتمع" أصبح إطار نظرية النشاط الحركي لجماعات التطرف الديني، هذا بخلاف العلاقة العدائية للقوانين الرسمية في كلتا الحالتين وتأسيس المجتمع المضاد لكل ما هو رسمي.
المرأة الصعيدية
وتقودنا قصة هذه العجوز لدور المرأة في "لعبة الثأر"، ويرى كثير من الباحثين والمراقبين لإشكالية الثأر أن المرأة ظلت عبر قرون تلعب دور "الحرس الحديدي" للدم، فهي المحرض الأول لاستمرار هذه العادة، وهي المُنظر والمؤصل لأدبيات الثأر في هذه البيئة الصارمة.
ومن الطقوس المعروفة للمرأة الصعيدية أن تتشح بالسواد وتتلطخ بالنيلة الزرقاء عند قتل زوجها وترفض غسل شعرها وتضع طبقا فارغا امام أبنائها لدى تناول الطعام ليتذكر الجميع حتمية الانتقام في كل الأوقات، كما ترفض تقبل واجب العزاء في زوجها إلا بعد الثأر وتردد مثلا شعبيا يقول: "الدم الطاهر لا يسوس ولا يعطن"، أي أن دماء القتيل لا تجف وتظل في مكانها تنادي للثأر، وبعض السيدات يمارسن ضغوطا هائلة على الأولاد للانتقام، فعلى سبيل المثال كانت إحدى نساء محافظة أسيوط تلقي لأولادها بغطاء رأس البنات من الشرفة أمام الملأ، وتناديهم باسماء أنثوية للسخرية من تقاعسهم عن إطلاق الرصاص على أفراد عائلة قاتل أبيهم، وكانت هدية إحدى الجدات الصعيديات لحفيدها الرضيع في "السبوع" بعد مقتل أبيه عبارة عن بندقية "كلاشينكوف" الآلية.
هذا العنف يضع أسيوط وقنا في مقدمة المحافظات التي ترتفع بها نسبة جرائم الثأر والانتقام، وهناك مناطق شهيرة مثل مدينة "أبنوب" وتوابعها التي عدتها الموسوعات العالمية من أعلى نسب القتل في العالم في الكيلومتر المربع، وقرية "حمرا دوم" بمحافظة قنا التي تعد صاحبة أعلى المعدلات في التمثيل بجثث الضحايا في العالم، وإن كانت هذه المناطق سكنت قليلا نتيجة للجهود الأمنية المكثفة، وإصابة العائلات بالإجهاد من طول الصراعات الثأرية المزمنة.
والمرأة الصعيدية في المدن لا تقارن بطبيعة الحال بنظيرتها في الريف، وإن كانت الأغلبية مسحوقة في القرى، فإن المدن بداخلها عناصر أكثر تحررا، بل المدهش أن المرأة الصعيدية تتفوق على نظيراتها بمدن الدلتا والقاهرة، ففي أسيوط مثلا انفردت جامعتها بتنصيب عميدات للكليات كان يشكل أعلى معدلات تمكين المرأة في منصب العميد بشتى جامعات مصر.
بكائيات "العديد"
نصل لبكائيات نساء صعيد مصر المعروفة باسم " العَدِيّد"، وهي مرثيات عميقة الحزن، بالغة الشجن وموغلة في تصوير الفجيعة، ترددها النسوة العجائز في المآتم، بإيقاعات رتيبة مفعمة بالأسى يصاحبها لطم ونشيج، وتقول إحدى مأثورات "العَدِيّد" الشائعة بصعيد مصر:
ودا قبر مين اللي البقر هده؟ قبر الفقير اللي اندفن وحده
ودا قبر مين اللي البقر داسه؟ قبر الغريب اللي ترك ناسه ودا قبر مين اللي البقر جاره؟ قبر الحزين اللي اتنسى تاره (ثأره)
ولم يتوقف دور المرأة عند حدود التحريض فحسب، بل كثيرا ما ربت نساء أبناءهن للحظة الثأر، وأرضعنهم مع حليبهن هدفا واحدا وحيدا لا مفر ولا فكاك منه، هو الثأر لروح أب أو شقيق، وهناك حكاية شهيرة في صعيد مصر، عن أم ربت ابنها الذي كان رضيعا حين قتل أبوه، ولم تكن له عمومة تهتم بأمر الثأر لدمه، وكبر الابن حتى صار ضابطا في الجيش، ورغم ذلك المنصب بادر في لحظة مواتية ومحسوبة إلى الثأر لدم أبيه من قاتله.
ووصل دور المرأة أحيانا إلى درجة أنها حملت البندقية، واراقت الدماء من أجل الثأر، وفي أرشيف هذه الجرائم، نلتقط قصة الفتاة فريدة عبدالله، التي سافرت من إحدى قرى محافظة سوهاج إلى القاهرة بحثا عن قاتل شقيقها الذي قتله في مشاجرة عابرة لخلاف على سعر مشروب تناوله القاتل في أحد المقاهي ورفض دفع الحساب لتنشب مشاجرة بين شقيقها وبين القاتل ويتم الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، لكن هذا الحكم لم يكن بالطبع كافيا لمسح عار العائلة، الذل الذي ظل يطارد فريدة التي كان عليها الأخذ بثأر شقيقها، لأن والدها متوفي وليس لها أشقاء ذكور ينتقمون من القاتل، لذلك ظلت تتنقل خلف قاتل شقيقها بين محافظات مصر حتى وجدته يوما جالسا على أحد المقاهي فقامت بتناول "بلطة"، وشجت بها رأس قاتل شقيقها وسط دهشة المارة، وحكم عليها بالسجن 25 سنة وهي الآن في سجن النساء بالقناطر وهي سعيدة لأنها مؤمنة بأن لها في القصاص حياة، وأنها فعلت ما عجز عنه الرجال.
نفس اليقين راسخ في قلب الفتاة سهير التي ثأرت لمصرع طفلها تحت إطارات سيارة نقل، ورغم أن السائق أكد أنه مجرد حادث لم يقصد فيه قتل الطفل، غير أن الأم أكدت أيضا وجود عداء شديد بين زوجها وبين السائق القاتل، لذلك تركت طفلها ملقى في الشارع بعد أن فارق الحياة وأسرعت إلى منزل السائق القاتل، وانتظرت عودته ثم غرست في قلبه سكينا ليلقى مصرعه في الحال ثأرا لمصرع ابنها، ثم ذهبت بنفسها لمركز الشرطة واعترفت بجريمة القتل ليتم الحكم عليها بالسجن المؤبد وتقضي العقوبة الآن في سجن النساء.
أما حسينة مبروك فلقد ثأرت لمقتل ابنها بطريقة متوحشة عندما أخذت طفل جارها الذي قتل ابنها الصبي أثناء لهوهما معا، قبل أن تهدأ نار حسينة اختطفت الطفل ثم ذبحته ووضعته في وعاء كبير ثم شوته في الفرن البلدي الموجود في دارها بإحدى قرى أسيوط، والعجيب أن والدة الطفل القاتل التقت بها وهي تحمل الوعاء الذي يضم رفات جثة الطفل فوق رأسها، ورغم ذلك لم تهتز بها شعرة، وبعد ذلك اعترفت حسينة بفعلتها بقتل الطفل ثأرا لابنها.
وتقول أوراق قضية أخرى إن جواهر صالح ثأرت لأبيها الذي راح ضحية قفص فاكهة فارغ عندما تصارع من أجله مع أحد أفراد عائلة أخرى فنشبت معركة لقي على إثرها مصرعه وتم هدر دماء نحو 30 من العائلتين، آخرهم القتيل الذي لقي مصرعه على يد جواهر صالح التي أدينت بتهمة القتل ونالت عقوبة 25 سنة تقضيها بسجن النساء لتنضم إلى "نساء الثأر".
اقتصاديات الثأر
ونعود مرة أخرى لحرب الاستنزاف الدائرة بين البلابيش والحيمدات، فقد كان ثراء العائلة الأولى سلاحها الأكثر أهمية في هذه الخصومة واستعاض أبناء الحميدات بالقيام بأنشطة أخرى لا تطالها يد الشرطة، وهو الأمر الذي يؤكد أن كل الجرائم الأخرى في الصعيد تدور في فلك الثأر، فهو الجريمة المحورية التي يتم لأجلها توظيف الرجال والأموال والأعراف والتقاليد.. فلكي يتأهل الرجل للقصاص لا بد أن يحصل على السلاح وهذا بدوره يتطلب المزيد من الأموال وهنا لا مفر من المغامرة بارتكاب جرائم قطع الطريق وزراعة الخشخاش، وهو ما اصطلح على تسميته باقتصاديات الثأر.
أما على صعيد عائلة البلابيش فإن موفدين من الأسرة توجهوا إلى أقاربهم التجار الكبار بروض الفرج ليطالبوهم بضريبة الدم ونفقات الثأر، ولم يجد هؤلاء التجار مفرا من الإذعان والرضوخ لهذا المطلب الذي يشبه التكليف ودفع المطلوب منهم على قناعة بأنهم لم يطالبوهم شخصيا بحمل السلاح ، وإن كان هؤلاء التجار الأثرياء يدركون جيدا أن هذا لن يجعلهم بمأمن من الوقوع في تلك الدائرة الدموية، فربما دفع أحدهم حياته أو حياة أحد أبنائه ثمنا في أي وقت يقرر فيه خصومة الثأر منه.. فمن تقاليد الثأر وما أكثرها أن تمتد المطالبة به إلى إخوة القاتل أو أبناء عمومته.. وربما أحفاده أيضا، شريطة أن تنحصر في الأقارب من نفس "بدنته" حتى الدرجة الخامسة، ويتدرج أيضا الحق في المطالبة بالثأر وفقا لدرجة القرابة للقتيل، فالأخ الشقيق أحق بالمطالبة بالثأر من الإخوة غير الأشقاء.. ثم يليهم أبناء العم المباشر "اللزم".. ثم يأتى أبناء العم غير المباشرين ويطلق عليه "ابن عم داير"، بينما ينحصر هذا الحق في الأقارب من جهة الأب، فلا يجوز للخصم أو أبنائه المطالبة بثأر ابن شقيقتهم، ما لم يكن قريبهم من ناحية الدم أو كما يطلقون عليه "العصب"، تمييزا له عن صلة النسب، وربما يحتدم الخلاف بين المطالبين بالثأر من الأقارب حتى يصل إلى حد اقتتالهم فيما بينهم للحصول على شرف الأخذ بالثأر، ولكن يحدث تدارك للأمر خشية وقوع مكروه أن يحتكموا في خلافهم هذا إلى رجال من كبار السن يدعون "مشايخ العرب"، وذلك للبت في ترتيب الأحقية والأولوية في المطالبة بالثأر، وتحظى أحكام هؤلاء الشيوخ باحترام كامل من أطراف النزاع ومن الرأى العام المحلي بأسره.. ومن المثير في هذا السياق أن نورد حكما لأحد هؤلاء الشيوخ الذي أعطى الحق للغرباء في القصاص، وحتى نفهم هذا الأمر ينبغي سرد هذه القصة حتى تتضح دلالاتها، فقد حدث في إحدى قرى مركز البداري بأسيوط أن رجلا فر إلى الجبل عقب مطالبته بالدم (الثأر) من جانب عائلة أخرى تتمتع بنفوذ وسطوة، وظل الرجل هاربا قرابة عشرين عاما حتى كاد خصومه أن ييأسوا من القصاص منه، وذات يوم علم ذلك الهارب بوفاة أحد أعيان أسرة أخرى وكان ذلك المتوفى يتمتع باحترام الكافة، وخرج آلاف الناس من أبناء البداري وأسيوط كلها في جنازته، ورأى الهارب أنه من العار أن يتخلف عن هذه المناسبة فهبط من مخبئه بالجبل متوجها عبر طرق ملتوية إلى السرادق المقام للعزاء، وبين دهشة الحاضرين لمجازفته بهذا العمل الذي لم يكن ليلومه أحد إذا تخلف عنه لعلمهم بظروف فراره، ولكن أهل المتوفى عدوا هذه المخاطرة التي قام بها الرجل شرفا كبيرا لهم، وشعروا بمدى التضحية التي تنطوي عليها هذه المجاملة التي ترفع من شأنهم في شتى ربوع الصعيد، فها هو الرجل يعرض حياته التي حرص عليها عشرين عاما للخطر من أجل العزاء في كبيرهم ونهضوا للترحيب به والتعبير عن شكرهم ووعدوه بأن حياته مسؤوليتهم حتى يعود إلى مخبئه بأمان، وظلت عيون الحاضرين تتفرس الرجل في عجب وإعجاب حتى عزم على الانصراف وسلك في طريق عودته للجبل مسالك مختلفة وقبل أن يعبر النيل انطلقت عليه الأعيرة النارية من حيث تربص به خصومه فسقط قتيلا في الحال، وخرج أبناؤه الذين تلقوا نبأ مقتله بصبر وهدوء ودفنوا جثته وذاع الخبر في أسيوط كلها، وفي الليلة التالية اجتمع أقاربه في منزل كبيرهم للتشاور في أمر الثأر، وإذا بباب المنزل يقرع ويقبل عليهم وفد من أبناء الرجل المتوفى الذي كان والدهم قد ذهب للعزاء فيه، فقابلهم الحاضرون بفتور ظنا منهم أنهم قد قدموا للتعزية في قتيلهم وهو الأمر الذي يعد إهانة لمشاعرهم، إذ تقضي التقاليد ألا يتلقى أهل القتيل العزاء فيه إلا بعد الثأر له ولو امتد ذلك سنوات طويلة، فحينما يسقط القاتل أو من يختارونه بدلا منه ترتفع أصوات الزغاريد وتختلط الطلقات ببكاء أهل القتيل الأول، إذ ليس من المسموح حتى للنساء بالبكاء عليه حتى يتم الثأر له، وكان ذلك هو سبب فتورهم في استقبال هؤلاء الزائرين الذين أدركوا ذلك فبدأوا يشرحون سبب زيارتهم مباشرة بقولهم إنهم أصحاب الحق في الثأر له لأن وفاته جاءت كنتيجة مباشرة لمجازفته بالحضور مجاملة لهم، رغم علمه بتربص خصومه به للثأر منه ولولا ذلك لما كان قد لقي مصرعه، ولكن أبناء القتيل رفضوا هذا المنطق الذي قد يعرضهم لو قبلوه للسخرية والاحتقار من الجميع، ولم يكن عرض هؤلاء الزوار مجرد مجاملة بل أصروا عليه بشدة فتطورت المناقشة إلى ما يشبه المعركة فيما بينهم واتفقوا أخيرا على اللجوء إلى أحد مشايخ العرب الذين يحتكم إليهم في مثل هذه الأمور الشائكة، وجاء حكم الشيخ بعد مفاوضات ومناقشات ومداولات امتدت ليلة كاملة إلى قرار يقضي بأن الثأر في هذه الحالة من حق أبناء المتوفى الذي كان القتيل قد ذهب لتعزيتهم فيه، وذلك استنادا إلى كونه في حماهم حتى يعود إلى الجبل سالما، ولما كان قتله قد وقع قبل عبوره النيل فهو يعد قتيلهم، فقد كان الاعتداء عليه يعد عدوانا مباشرا عليهم وتحديا صريحا لهم، وهنا لم يجد أبناء القتيل سوى الإذعان لهذا الحكم الذي تولى الشيخ بنفسه أمر إعلانه وإذاعته عبر مجالسه الخاصة لتبرئة جانب أبناء القتيل، حتى لا يظن الناس أنهم تقاعسوا عن القيام بواجبهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.