فئتان لا يخاطبهما هذا المقال، فئة حاربت فكرة الاحتفاء بالوطن في يومه، تحت دعاوى التدين والابتداع، وخلف مزاعم التقوى والصلاح، وكأننا سنتخلى عن ديننا حينما نحتفي بوطننا!! فهي لا ترى الوطن إلا مركز تجنيدٍ وجمع أموالٍ لخوض معارك الفرقاء في شرق الأرض وغربها، فالوطن لديهم ليس أمراً وجودياً ولا مسألة مصيرية تبذل لها الأرواح، بل هو حدودٌ وضعها المستعمر، وجزءٌ لا يستقل عما سواه، ولهذه الفئة خطابٌ لا يكون بالكلمات، بل كان وسيكون في كل موقفٍ أثبت فيه مواطن هذا البلد أنّه يحمل تراب هذا الوطن في دمه وروحه، وأنّه لن ينتظر الفتاوى والخطب حينما يكون الداعي هو الوطن. أما الفئة الثانية فهي فئة أرادت أن نتخلى عن واجبنا الوطني والأخلاقي القائم على النقد والتقويم، وأن نتحول إلى مجموعة من «المطبلين» أتباع حزب: كل شيءٍ على مايرام! فالوطن لديهم سلعة مظهرية تحتاج إلى التلميع والتسويق، وليس جوهراً يُبنى بالعمل والصدق والسعي إلى المستقبل، ولذلك فهم يريدون أن تكون كل أيام السنة يوماً وطنياً، لا حباً في الوطن، ولكن لتتوقف أقلام الصدق والتقويم عن أداء عملها وحمل أمانتها، فيخلو الجو لتجار التلميع والتسويق وأرباب مؤتمرات الفنادق، فينعموا بمكاسب خداعهم وتضليلهم. منذ وصف أحد الفلاسفة قبل مئات السنين فكرة الوطن بالتالي: الحاجة إلى الانتماء، ووصولاً إلى الدولة الحديثة، دولة الحقوق والواجبات والمؤسسات، كانت فكرة الوطن ولا تزال: مزيجاً من الحلم والفلسفة والاحتياج والالتزام والتسامي، وكانت متأثرة بالتحولات الإنسانية الكبرى، حيث ازدهرت في بعض فصولها حتى أصبحت كل شيء! ثم اضمحلت في الأزمنة الصفراء حتى كأن لم تكن، وبين علوها ودنوها، ظلت هذه الفكرة عصية على الفهم، ونافرة على التدجين والتطويع، فكأنّها حنينٌ إلى عالمٍ آخر غادرته البشرية منذ فجرها، وكأنّ لها نواميس لا تخضع لحكم فيزياء الأرض، حتى لكأنها تعود أزهى وأبهى كلما تقدم بها العمر! ولذلك كان من العبث أن نقيس مدى صواب هذه الفكرة بتفاعل الناس معها، فلا أكثر حمقاً ممن يستدل على خطئها بالتصرفات الطائشة التي تصاحب الاحتفاء بها، إلا من يستدل على صوابها بكثرة الراقصين لها، فالأفكار العظيمة لا تقاس، ولو استطعنا قياسها لوجب تجريدها من أهلها وأعدائها أولاً، وذلك ما لا سبيل إليه. وللإجابة عن السؤال في عنوان المقال، يجب أن نتحدث عن مفهوم الوطنية، هذا المفهوم الذي حاول الخطاب المؤثر في السعودية أن يجعله في مقابل الإسلام، فتكون المعادلة الجائرة إمّا الإسلام أو الوطنية، وظل الحال كذلك لعدم شعور صاحب القرار بالحاجة إلى تحرير هذا المصطلح من هذا القيد وتنقيته من التهمة، وكان مبعث الاطمئنان أن أهل هذه الأرض ينتمون لها منذ آلاف السنين ولا حاجة لغرس هذا المفهوم فيهم، ثم جاءت حرب الخليج وما تبعها من أعمالٍ إرهابية وظهور بعض الأصوات في الخارج ممن تصف نفسها بالمعارضة رغم كونها لا تعدو أن تكون أبواقاً يتم الدفع لها للتشويش على السعودية، كما كشفت الأحداث بعد ذلك، وفي ظل هذه الظروف رأى أصحاب القرار أن بعث مصطلح الوطنية وتنقيته من التهم أصبح أمراً ضرورياً، فكان الحل أن تم إقرار مادة التربية الوطنية في المراحل الدراسية المختلفة!! وظل الحال كذلك، حتى جاء خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز فأعاد لمصطلح الوطنية هيبته، وأعاد لفكرة الوطن سموها، فعل ذلك عن طريق تبني سياسة الإصلاح والبناء والعدالة، فأصبح المواطن مهتماً بالوطن الذي يكرمه، وأصبح الشأن الوطني يمس كل فردٍ سعودي، فعبدالله بن عبدالعزيز جعل القوم كلهم علية، حينما أعلن أنّه في خدمة المواطن وأنّ كل مسؤول خادم للمواطن، هذا البعث العملي لمفهوم المواطنة هو الذي مكّن السعودية -بعد حفظ الله- من تجاوز جميع الأزمات التي عصفت بمن حولها، ثم جاء الأمر الملكي بالاحتفاء باليوم الوطني وجعله إجازة رسمية ليكمل مسيرة هذا الإصلاح العملي لمفهوم الوطنية والمواطنة، فالخبر عند عبدالله بن عبدالعزيز ماتراه لا ماتسمعه، وذلك ما سيحفظه التاريخ له. ورغم كل ما صاحب الاحتفال باليوم الوطني في السنوات السابقة من الأحداث والجعجعة الفارغة والاعتراضات السخيفة إلا أن إصرار رأس الهرم الإداري في الدولة على السير إلى المستقبل، جعل هذا الأمر المبهج حدثاً اجتماعياً لا يمكن تجاوزه أو التغافل عنه. ولذلك سأوجه رسالتين في هذا المقال، إحداهما للوطن والأخرى للمواطن، أمّا رسالة الوطن فهي للدولة التي تمثل الجانب السياسي للوطن ولها نقول: إن المواطن السعودي الذي أثبت ولاءه وصدقه وصبره في كل الظروف يستحق حياة معيشية أفضل من التي يعيشها، ويستحق مشاركة أكبر في صنع القرار، ويستحق مشاركة أكبر في المراقبة والإشراف على كل ما يتعلق بالشأن العام، فليس هناك عذرٌ يمكن قبوله حينما نتحدث عن رداءة الخدمات المقدمة له من القطاعات الحكومية،وليس هناك مبرر يمكن تصديقه حين الحديث عن تغول القطاع الخاص ورأس المال وطحنهما للمواطن والقضاء على دخله. أمّا رسالة المواطن فتتلخص في التأكيد على ضرورة الوفاء الصادق والولاء الحقيقي لهذا الوطن وقيادته التاريخية التي ارتضيناها وبايعناها، وهذا الولاء الذي يجب على أصحابه أن يكونوا يقظين مدركين لما يحاك لوطنهم، فلا خير في الولاء الشعاراتي الساذج الذي لا يدرك خطر ما يجري حوله، ولا يستشرف آثار الأحداث على وطنه، هذا الوطن الذي أثبتنا في كل مناسبة -قيادة وشعباً- أنّه خط أحمر لا نساوم عليه، ولا نجادل في استحقاقه لدمائنا وأرواحنا، يتعرض منذ سنواتٍ إلى مخططاتٍ تخريبية ومؤمراتٍ شيطانية، في مسلسل المحاولات الطويل للنيل منه، ولذلك علينا الحذر واليقظة، وعلينا التفريق بين من يقف في صفنا ومن يقف مع الأعداء وإن تشابهت السحنات. ثم على كل مواطنٍ أن يتقن عمله ويقوم بأمانته لننهض بهذا الوطن، فهو بيتنا الذي لا بيت دونه، وأمننا الذي لا أمن بعده. الوطن هو القيمة العظمى، لا تقاس هذه القيمة بمنجز الحكومة ولا برضا الشعب، ولكن لا يمكن التصالح مع هذه القيمة إلا حينما تنجز الحكومة ويرضى الشعب. كل عام وهذا الوطن بخير، كل عام وأنتم/نحن وطن.