كم صفحة يجب أن نوغل في التاريخ كي نرصد ونتتبع سيرة مدينة نجران، كم من ممالك نحصي وكم من قوافل سنتتبع؟ وكم راية خفقت وهزجت بين طبول النصر وانتكاسات الهزيمة؟ قرون سادت ثم بادت، وتبقى نجران قابعة هناك بين الجبال وحقول البرتقال وشهقات السيول في واديها تلتطم وتعلن مر السحاب.. فوق مرو الجبل. هل ننصت لما يقوله بعض المؤرخين أن عمر الاستقرار المدني في مدينة (نجران) هو 20 ألف سنة قبل الميلاد، أم أننا نرجع إلى ما يعرضه لنا متحف مدينة نجران من أدوات الأسلاف والانسان البدائي نقوشه ورسومه وسهام وحراب تشير إلى استقرار بشري منذ فجر البشرية في منطقة نجران. هناك حيث حداء قوافل العرب العاربة ومنبع السلالات (السامية) التي صنعت تضاريس الشعوب على وجه الأرض، القوافل التي كانت تنطلق من هناك محملة بجرار العسل وصناديق اللبان وبهار الهند وعرش ملكة سبأ وتيجان ملوك حِمْير وسيرة سيف بن ذي يزن. تلك القوافل لم تكن فقط تقايض وتتاجر بل كانت تنقل وتنشر ثقافتها وفلكلورها وقصصها لذا في كل منحنى من جزيرة العرب هناك بعض من (مملكة معين) أو سطر من حكاية نجران. أي ثراء وعمق وغواية تكتنف هذا التاريخ؟ وهي الغواية التي اقتنصتني وقادتني إلى هناك لأمضي يومنا الوطني في نجران، لأنني تيقنت أنها ستغدو تجربة مذهلة حينما نتحدى المسافات ونوغل جنوبا نحتفي بوطن يمتد كقارة ويتكثف ويصغر ليصبح بحجم ثمرة القلب. ونجران أبدا لن تخذلك لأنها ستمتد بحجم شرفة توقعاتك أو أدنى قليلا، حيث تتسع صدور أهلها وبسماتهم المغمسة بعسل (أرحبوا)، ودروبهم المعبدة بزهو قديم متوارث لمدينة لم يغرب عنها التاريخ، كم من شارع سنمضي وتلة سنرقى حتى تتكشف لنا نجران؟ ولكننا حتما سنلمح وجوهها المتعددة كمناديل ملونة ترفرف بمتعة الضوء واللون بين كتف الجبل ونقوش الأخدود. كل صخرة في جبالها لها لون وتختص بقصة، كل شيء حولنا متعدد مغدق غني باللون وثراء التعدد الطائفي، التعدد العرقي، لكنهم يلتئمون جميعا حول حلم واحد.. ووطن بحجم ثمرة قلب. وفي يوم الوطن كانت أغانيهم وثيابهم وأهازجيهم حارة متدفقة كصهيل فرس أصيلة، كفنجان قهوة يفور بلذعة الزنجبيل، كانوا يشرعونها بفخر وبهجة بأميرهم الشاب (مشعل بن عبدالله) الذي ينغمر بهم ويلتقون ويلتفون حوله، وحينما يرد اسمه في أحاديثهم نجد أن عيونهم تبرق بالامتنان والحب. أي بهجة أن أمضي يوم عيدنا الوطني في نجران واتأملها وهي تفتح كفيها لحزمة مشاريع وتتأبط مجموعة من الاصلاحات، ابتهج بها وأنا أتناول القهوة في منزل صديقتي (فاطمة آل تيسان) واتقصى عراقة المكان في مشغولات الفضة بالأساور وحول الخناجر، وحول طبقات البيوت التي تحصي حجارتها خطوات الوقت ولكنها تراوغ السنين فلا تندثر. نجران تشاغل جميع الحواس بدفقات اللون والطعم والرائحة، وتخاتل الفضول والدهشة وتمنحك بعض الأجوبة وليس كلها.