خطوة مدهشة تلك الرؤيا التي يصاغ عليها مهرجان سوق عكاظ في نسخته السادسة هذا العام، حينما يربط الماضي بخيط ضوئي يتجاوز الحاضر إلى المستقبل، غير عابئ بطول المسافات وانتباهة الزمن لها ، وهي رؤيا متطوّرة كثيرا في صياغة مثل هذه الملتقيات الثقافية التي تتكئ في رؤياها عادة على ماكان لاعلى ما سيكون، وربما كان هذا البعد الرؤيوي علامة فارقة لسوق عكاظ في هذا العام، فالإرث الثقافي الذي تركه سوق عكاظ في ذاكرتنا حينما بدا لنا كأول ملتقى ثقافي للعرب يقرؤون فيه ملامح زمنهم ، وتبعات أحداثهم ، ويتناظرون فيه ببلاغتهم وفصاحتهم وقدرتهم على اختصار مسافات تشتّتهم في الصحراء، كان دائما مثار إعجابنا حينما نتذاكره، وقصة دهشتنا حينما تأخذنا خيالاتنا إلى أحداثه، ليكون في نسخته هذا العام أكبر من تذكّر وأعمق من دهشة، وإذا كان الأثر الثقافي القديم قد اتكأ في مجمله على اللغة شعرًا أو خطابة أو حتى تمحيصا لهما، فإنه في حاضره استطاع أن يدرك مفهوم اللحظة الثقافية حينما لم يغفل الأثر ، بل عمّقه وأصرّ عليه من خلال المكان والزمان والملامح ، لكنه في الوقت ذاته استثمره للنظر فيما يمكن أن تحمله هذه الصحراء من رؤى وآمال ومدّخرات ( غير نفطية ) تنبع من ذات العقل العربي القديم الذي جعل للمكان عبقًا وللغة تاريخًا ، وللزمن منجزًا ... *** إن نظرة سريعة في فقرات برنامج سوق عكاظ لهذا العام تكشف لنا وبتجلٍّ واضح عمق الرؤيا التي صيغ بها المهرجان .. فالمكان لم يفقد هويّته من خلال استعادة مادار فيه في ذلك الزمن الغابر ..حيث يحضر الشعر عبر أمسيات تجمع شعراء عرب على اختلاف رؤاهم وثقافاتهم ، كما يستحضر السوق في هذا العام أحد أهم شعراء العصر القديم الذي تحوّل عبر ركام التواريخ إلى أسطورة عربية وأعني به ( عنترة بن شداد ) بكل سيرته التي تجاوزت الشعر إلى الفروسية والفروسية إلى الإنسان عبر عمل درامي معاصر ، وفي كل هذا استعادة للماضي واحتفال به .. لكن في الوقت ذاته تمتد الصورة في هذا العام إلى المستقبل عبر ندوات خصصت لعرض منجزات معاصرة أو مستقبلية تنبت في هذه الصحراء وتستثمر حصادها عقول أبنائها ومنجزاتهم .. فندوة علمية بعنوان ( بدائل النفط ) على سبيل المثال في هذا المكان وفي ذات التوقيت التقاطة فطنة للأثر بمعزل عن هويّته الخاصة، وفهم أشمل وأوسع لذلك التاريخ الغابر ، فالعربي القديم على سبيل المثال وهو الذي تعلّقت أبصاره في السماء انتظارًا للمطر لم يرَ في اتساعها إلا حركة الطير ذات اليمين وذات الشمال، واتكأ في بصره عليه شؤما أو تفاؤلا ! لكنه اليوم أدرك من أن شمس الصحراء الحارقة تلك التي تسلخ فروة يومها بإمكانها أن تكون منجزًا حضاريا من خلال برامج ( الطاقة الشمسية ) التي خصص لها حضورًا في مهرجان هذا العام ، فضلا عن عرض المخترعات والمنجزات البشرية لأبناء الصحراء من خلال برامج هذا العام، وفي كل هذا بعد رؤيوي ناضج حينما تقاس التواريخ بمنجزاتها لابأحداثها فقط .. نحن فخورون جدا بمثل هذا الرؤى وبمثل هذه الصياغة المثالية للتاريخ وإعادة قراءته بما يتوافق مع ماوصل إليه الإنسان العربي في هذه الأرض حتى وهو يصافح أجداده القدماء في ذات المكان وذات التوقيت لايكتفي بعناقهم واستعادتهم بل يحدّثهم عن أحفادهم كيف أصبحوا وإلى أين يتجهون ...