لا أحد يتفق مع المدرسة السوفيتية التي نشرت فكرة تأميم الإعلام، فمسخت صورته كمؤثر في الرأي العام، يقوم على قواعد الحرية المنضبطة، ولا المدرسة المنفلتة التي عاشها لبنان في ثلاثة عقود من الخمسينيات وحتى السبعينيات عندما أصبحت دكاكين معروضة للحكومات العربية والدولية، والمنظمات والأحزاب ومراكز التجسس، فساهمت في فوضى الصراعات العربية باسم نسائم الحرية التي يقودها الوطن الصغير، لكن بعد انحسار سوق هذه السلع، بدأ التحرك للداخل واللعب على تناقضاته الطائفية، والولاءات التي تنقلب ضد الحليف لأي سبب، فكانت النتيجة حربا أهلية دمرت كل شيء بما فيها مزاعم الحرية.. الحالة العربية الراهنة، وتحديداً في بلدان الثورات لم يتقيد الإعلام بواجبات وطنية تراعي خطورة التلاعب بالأفكار وتزييف الحقائق لتعيد تدوير اللعبة اللبنانية، وهذه المرة بحضور ساذج لحروب نفسية وفكرية، وفي مجتمعات سعدت بالحرية، لتسقط بالتغرير والتدليس، فصار الضحية الرأي العام الشعبي متدني الثقافة والوعي، ليتوه بين الأفكار والأخبار والآراء المتضاربة، على حساب التوجيه الموضوعي والأمين، لدرجة وصل معها التخوين والاتهام أي شخصية اختلفت مع أخرى، كذلك وسائل الاتصال الأخرى، والتي تحول بعضها صدى لنقل ما تقوله محطات الفضاء، ومواقع «الانترنت» والصحافة المكتوبة والمقروءة.. الخروج من القيود المطلقة على وسائل الإعلام، إلى الحرية، لا يعني إطلاق الفوضى لمصلحة مستفيدين وجدوا في الضعف النفسي عند بعض الكتّاب والصحفيين، بتمرير الخصومات والاقتصاص من الآخرين سواء كانت دولاً أو شخصيات فاعلة في مجتمعاتها، والبداية كانت في العراق، صحف، ومحطات فضاء، وأحزاب تنطق بالطائفية وتقسيم الوطن على أساسها، وترى النفس الأجنبي حاضراً بكثافة من خلال تمرير أفكاره بوسائط عراقية، ولا يزال لبنان على نفس الخط، وإن ضعف دوره، لكنها في البلدان التي تشهد الثورات أصبحت تهدد النسيج الاجتماعي مستغلة الفترة الانتقالية إلى حكم مدني يؤسس لقوانين جديدة بما فيها الإعلام.. الحرية لا تخضع لمزاج شخصي، بل تقيدها قوانين انضباط هائلة، وكلنا نذكر فضيحة «ووترجيت» وكيف أن صحيفة الواشنطن بوست، التي حصلت على كافة المعلومات والوثائق، عرضت الموضوع على كبار القانونيين والمحامين حتى لا تخضع للمساءلة والمحاكمة قبل النشر نتيجة أي ثغرة قانونية، وكذلك الأمر بالنسبة للمعايير التي تفرضها القوانين، أي تحريم، أي نشر، أو بث مباشر وغير مباشر الذي يعرض السلامة القومية والأمن الوطني، وإذا كانت هذه الإجراءات تحدث في قلاع الديموقراطية، فإن انفلاتها في بلدان لم تعش التجربة، خطر أمني ووطني، وهو ما يشهده الشارع العربي، وحتى قضايا التظاهر لها قيودها التي لا تهدم حريتها، أو قمع الرأي الحر، أو تصل إلى تخريب الأملاك بدعاوى انتقامية.. المرحلة العربية الحرجة تحتاج إلى ضوابط لا تحاصر الرأي وتصادره ولكن لا تتركه يفاضل بين تبرير الخطأ، وتجاهل الحقيقة والموضوعية، وفي العموم لابد أن نرى بعيون اليقظة كل ما يجري حولنا حتى لا نكون فريسة لغيرنا..