يجول في خاطري كلّ سنة سؤالٌ تُوقظه أحداث الاحتساب المحكية ونوازله المروية في معرض الكتاب، وهو سؤال ذو شقين؛ أولهما يتعلق بالمفهوم الذي بنى عليه هؤلاء الشبيبة ما يأتونه من احتساب فردي، وثانيهما يدور حول تخصيص معرض الكتاب بهذا الاحتساب دون غيره من التجمعات والتجمهرات التي تقع هنا وهناك. إنّ هؤلاء يؤمّون المعرض ويقصدونه بحثا عن المنكرات هنا وهناك ليتسنى لهم الإنكار، وتقوم بهم على الناس الحجة، فهم يبحثون ويتقصون رجاء أن يجدوا ما يحقق لهم فرص الاحتساب على الناس ودور النشر، إنّهم كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، إنهم ينقادون لمفهوم لا أخاله يتواءم مع المفهوم الشرعي للاحتساب، فأشهر حديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام سمعوه وسمعناه قوله:{من رأى منكم منكرا فليغيره فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمرنا بمطاردة الناس في نواديهم وبيوتهم وأسواقهم وملاعبهم ومنتجعاتهم حتى نحتسب عليهم ونعدّل من سلوكهم، لم يطلب منا أن نبحث عن المنكرات ونحتسب على الناس فيها، لقد أمرنا أن نحتسب وأيضا بالحسنى فقط على ما نراه عفوا ويعْرِض لنا في دروب الحياة، ففرق كبير أيها الأخوة بين من يرى الشيء ومن يُري نفسه ذلك الشيء، ويجتهد في البحث عنه والسعي وراء مظانه، وكأنه من رجال التحرّي! إنّ هذا النوع من الاحتساب ليس سوى خلل في مفهوم الاحتساب الشرعي، ولعلّ مما يقف وراء مثل هذه الظواهر أن بعضا من علمائنا ودعاتنا يجري الحديث على لسانه عن الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعيدا عن شروطه وصفات من يقوم به، وهذا الحديث غير المنظم عن الاحتساب، وعدم دراسته دراسة علمية، توضح مفهومه ومناطاته ومقاصده وأهدافه، وشروط القائم به، جعل سُوره قصيرا، في مقدور كل امرئ أن يجترئ عليه، ويقفز في باحاته. إنّ ثقافتنا المحلية وكذا الإسلامية يجري فيها ترسيخ الورع من الإفتاء والحديث في أمور الدين، وهو شيء آمن به الجميع حتى أولئك الشباب الذين يخرجون لنا كل سنة في معرض الكتاب، فهم يؤمنون أن من تحدّث في غير فنّه أتى بالعجائب والطوامّ، إنّ هذا أمر تمّت زراعته في العقل، وتشرّبته الأفهام؛ لكن المزعج لمثلي أن يكون مثل هذا الترسيخ والتداعي لمسائل دينية جزئية، وتُنسى في خضم ذلك المبادئ الدينية الكبرى كالاحتساب. إنّ الاحتساب أحق ألف مرة ومرة بالبعد والتجافي عنه، فمن غرائب ثقافتنا أنك تجدني ألومك وأنزعج منك حين تُفتي ولست من أهل الفتوى في مسألة جزئية؛ كأحكام الصلاة والصوم والحج؛ لكني لا أعيب عليك وأضجر من أفاعيلك حينما تحتسب، ولست ممن وعى بالاحتساب وتأمّل في نصوصه وأدرك أبعاده ومغازيه، إن المبادئ الدينية ومنها الاحتساب يجب أن يكون الحرص على فهمها وتصورها واستيعاب مقاصدها وإدامة النظر في نصوصها أكثر وأكثر، ويلزمنا جميعا أن ندرأ عن حياضها أكثر وأكثر، وأن نتشدد في شروطها أكثر وأكثر؛ إذ الضرر من وراء تقحمها أشد وأعنف، والجناية على الدين بالتخبط فيها أطمّ وأعظم. ما أريد قوله هنا والخلوص إليه أنّ تشكيل ثقافة الاحتساب فيه إشكال كبير جدا؛ إذ يكتفي كثير من علمائنا، وهو يتحدث إلى جمهور الناس، أن يذكرهم مثلا بحديث { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيده، فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لم يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وظاهر الحديث فيه إشكال كبير؛ لأنّ من رأى ليس كمن يُري نفسه، هذا أولا، وأما ثانيا فإن أكثر البيئات وهذا ما عليه الآن غالب البلاد الإسلامية تميل إلى التمذهب والأخذ بمن تصطفيهم من رجال الماضي، فهؤلاء المسلمون سيواجههم تحدًّ كبيرٌ في تطبيق الحديث الشريف؛ لأنهم باختصار شديد سينظرون إلى الاحتساب من خلال المذهب، وذا يجرّ علينا شرا مستطيرا، إذ يصبح ما في مذهبي هو المعروف، وما في مذهب إخواني في مشارق الأرض ومغاربها مما لا أعرفه هو المنكر، وبهذا تنقاد الناس إلى التباغض وربما التطاحن والسبب أنّ المتحدث عن الحديث أتى به عفو الخاطر، ولم ينظر في أبعاده ومراميه التي يومئ إليها. ما سلف يدور حول مفهوم الاحتساب، وتلك كانت النقطة الأولى من السؤال، وأما النقطة الثانية، وهي تخصيص معرض الكتاب، فأمر غريب أيضا، إذ هو تحيّز في تطبيق هذا المفهوم المخالف كما تقدم للمفهوم الشرعي، وهذا التحيز يكشف لنا من وجه آخر أنّ المفهوم الذي جرى توظيفه للاحتساب في المعرض لم يكن شرعيا عند أصحابه الذين جاءوا من أجله، فلو كان الفهم صحيحا والنظرة صائبة للزمهم من جرّاء ذلك أنْ يعمّموا هذا الفهم، ويُوسعوا هذا المفهوم على مظاهر الحياة التي تُظن فيها إطلالة المنكرات، ويُتوقع فيها حصول بعض التجاوزات، وهم لم يفعلوا ولن يفعلوا، وإلا فأين هؤلاء مثلا من حوادث المزاينة بين الإبل؟ وأين هم مما يُقام في النوادي الرياضية من مباريات لا تختلف كثيرا عن معرض الكتاب في توقع حدوث بعض المنكرات؟ إنّهم عندي مصيبون جدا وواعون بمفهوم الاحتساب في قضايا المزاين والنوادي الرياضية، فتجافيهم في هاتين الحالتين شرعي؛ إذ ليس من مفهوم الاحتساب أن يذهب المسلم أو يسافر إلى أماكن قريبة أوبعيدة يرتادها إخوانه ظنا منه أن منكرا سيقع فيحتسب على إخوانه فيه، فإنّ مثل هذا التصرف يجمع سيئتين، خللا في الفهم، وسوء الظن بالناس. إنّ المفهوم الخاطئ للاحتساب يُحرج هؤلاء ويكدّهم ويُضنيهم؛ إذ فرص الاستثمار فيه كثيرة جدا، إن هذا المفهوم يدعوهم إلى أن يذهبوا إلى كل سوق، ويقفوا عند كل خياط نسائي، ويترصدوا عند باب كل مدرسة، ويلجوا كل مكتبة تجارية، يُقلبون الكتب كتابا كتابا، ويدخلوا المقاهي أيا كان نوعها، لعلهم أن يجدوا في ترحالهم شيئا من المنكرات؛ لكنهم لم يفعلوا ذلك كله، مما يجعلني أتأكد تارة أخرى أنّ المفهوم الموظف للاحتساب في المعرض تمّ تفصيله على هذه الحالة دون النظر الشمولي لمفهوم الاحتساب. ويدفعني هذا وذاك إلى تفسير هذه الممارسات الاحتسابية في معرض الكتاب بأنها ثمرة من ثمار الصراع بين التيارات، إنها إغاظة للمخالف بتطبيق مفهوم الاحتساب عليه؛ لكنها في النهاية سعي لتعكير الجو على الناس بسبب صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ومتى كان رائد الإنسان مُناكفة الآخر المخالف ومُشاحنته، فلا تسأل عن المبادئ ومفاهيمها، ولعلّ مما يشفع لهذا التفسير أن هؤلاء المحتسبين قد كُفوا المؤونة بارتياد العلماء والدعاة العارفين حقا بمفهوم الاحتساب لهذا المعرض، ووجود رجال الحسبة فيه!