ضبط (3) أشخاص بجازان لترويجهم (142) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر    معالجة المستنقعات بالمبيدات الكيميائية    العمل جاري على إطلاق اسم بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    وزير الخارجية يبحث مع نظيره الأمريكي المستجدات في قطاع غزة    رئيس تجمع عسير الصحي يُكرّم ١٩ منشأة صحية حققت اعتماد «سباهي»    برجيل القابضة الإماراتية وكيرالتي الكولومبية تعلنان مشروعاً مشتركاً لحلول الرعاية الصحية الفعالة من حيث التكلفة في السعودية    تحرك في الشورى لمراجعة شروط الضمان المطور    دراسة: الحياة على الأرض نشأت في السعودية    أمير القصيم يبارك حصول الإمارة على شهادة الأيزو ويرأس إجتماع لجنة المشاريع المتعثرة    350 ألف طالب وطالبة يؤدُّون اختبارات نهاية العام بعسير    كيفن دي بروين يفتح الباب أمام انتقاله للدوري السعودي    الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بنجران في زيارة لمدير الجوازات    أمير تبوك يستعرض الجهود والإمكانيات لخدمة ضيوف الرحمن    وصول الطائرة السعودية ال 52 لإغاثة سكان غزة    وفد المملكة يشارك في أعمال دورة مجلس الاتحاد الدولي للاتصالات 2024م    قطاع ومستشفى محايل يُنفّذ حملة "التوعية بلقاح حج"    زين السعودية أول مشغل اتصالات يوفر تغطية شاملة للمشاعر المقدسة عبر شبكة الجيل الخامس 5G    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس الجمعية التاريخية السعودية    توقعات الانتخابات الهندية تشير إلى فوز مودي بأغلبية ضئيلة    مؤشر سوق الأسهم السعودية يغلق منخفضاً عند مستوى 11612 نقطة        إطلاق المنصة الخليجية الإلكترونية الموحدة للجامعات    مقترح «هدنة» غزة رهن الضوء الأخضر    انطلاق منافسات بطولة العالم للبلياردو (9 كرات) بجدة    موعد مباراة مبابي الأولى مع ريال مدريد    نيمار يرد على تقارير رحيله عن الهلال    أمير الحدود الشمالية يتسلّم تقريرًا عن مهام وجهود حرس الحدود بالمنطقة    قوافل الحجاج تغادر المدينة إلى المشاعر المقدسة    شراكة استراتيجية بين طيران الرياض والخطوط السنغافورية    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    رئيس هيئة الأركان العامة : جامعة الدفاع الوطني تؤسس لمرحلة جديدة وانطلاقة مشرقة لمستقبل تعليمي عسكري احترافي    جيسوس وبونو يُعبّران عن مشاعرهما تجاه جائزتي الأفضل    الصمعاني يدعو خريجي المركز العدلي إلى الممارسة المهنية الشغوفة    جماهير الهلال تترقب موقف بن نافل    «قرار طبي» يبعد أيمن من معسكر «الأخضر»    الخريف يبحث دعم ترويج الصادرات السعودية بالمغرب    «الصندوق الزراعي»: 479 ألف مشروع بقيمة 65 مليار ريال في 60 عاماً    «العقار»: تراخيص جديدة للبيع على الخارطة ب 6 مليارات ريال    محفظة Nusuk Wallet لخدمة الحجاج والمعتمرين    تعاوُن سعودي – برازيلي في الدفاع    «التنسيق السعودي الكويتي»: رؤية مشتركة في الثقافة والإعلام والسياحة والتنمية الاجتماعية    كلما زاد زملاء الدراسة المضطربين عقلياً.. زادت فرص إصابتك !    سفير خادم الحرمين لدى كوت ديفوار: خدمة ضيوف الرحمن مبدأ ثابت في سياسة المملكة    محاصرة سيارة إسعاف !    المثقف والمفكر والفيلسوف    الاغتيال المعنوي للمثقف    نهاية حزينة لحب بين جنية وإنسان    « شاهد على وطني » .. الفال يرسم شمس المستقبل    محمد بن سلمان.. الجانب الآخر    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    «سناب شات» تضيف عدسات الواقع المعزز    منفذ حالة عمار يواصل خدماته لضيوف الرحمن    القرار    أمير عسير يفتتح مقر" رعاية أسر الشهداء"    محافظ بيش يرأس لجنة السلامة المرورية الفرعية بالشخوص ميدانياً    الحركة و التقدم    السكر الحملى: العلاج    أكدت ضرورة أخذ التطعيمات.. إخصائية تغذية: هذه أبرز الأطعمة المفيدة للحوامل في الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالتلقائية أنجز الإنسان مالا يستطيع إنجازه قصداً
نشر في الرياض يوم 26 - 09 - 2010

إن من يمعن النظر في افتراق الأمم ويتأمل التفاوت الشديد بين الشعوب سوف يكون أمام ظواهر كثيرة تشهد بوضوح شديد بأن الإنسان كائن تلقائي في الاكتساب وفي السلوك وفي الأداء على المستوى الفردي وفي التشبع بطباع التخلف أو بطباع التحضر على المستوى الاجتماعي ، ومن أبرز الظواهر التي تؤكد تلقائية الإنسان أنه قد تمكن قبل ظهور العلوم من الابتكار التلقائي لآلاف اللغات بتعقيداتها الشديدة وتنوعها العجيب والتكوين التلقائي للثقافات بتبايناتها الفارزة وثرائها الهائل كما أن الأطفال يتمكنون في كل الأجيال من التبرمج بلغات وثقافات بيئاتهم قبل امتلاك القدرة على التعلّم المنظّم ولكن هذا التشرُّب التلقائي ينقلب إلى صعوبات شديدة في التعلم الاضطراري أو القسري وذلك بسبب غياب أو ضعف الاندفاع التلقائي...
وهذا التعدد الهائل في اللغات يؤكد أن الإنسان كائن تلقائي فاللغة هي أهم الظواهر الاجتماعية والإنسانية وأعقدها ومع هذه الأهمية الأساسية ومع تعقيداتها البالغة فإنها نتاج تلقائي
وبهذا فإن نظرية التلقائية تقدم تعليلاً لتلقائية تبرُمج الطفل باللغة وبالثقافة من غير وعي منه وبدون جهد ممن حوله وإنما يتشربهما تشرباً تلقائياً مقابل ما يجده الدارسون من صعوبات في التعليم النظامي ومثل ذلك يقال عن كلال الأداء إذا جاء من غير رغبة تلقائية ومن دون تشبع به مقابل روعته إذا كان الإنسان يستمتع فيه ويجد ذاته به ، كما تجيب هذه النظرية عن الكثير من الاشكالات في نظرية المعرفة ونشأة اللغات وفلسفة الحضارة كما تتوصل هذه النظرية إلى السبب الرئيسي لعجز بعض المجتمعات عن الافلات من قبضة التخلف رغم كل ما تزخر به الدنيا من عوامل التقدم كما تتأكد بها قيمة الحدس العلمي الناتج عن الاهتمام التلقائي القوي المستغرق وبالمقابل تتضاءل بها قيمة حدس المشترك الذي لا يكون مسبوقاً بالتحقق الدقيق فهذه النظرية إذن تجيب عن الكثير من الاشكالات المعرفية والسلوكية على المستوى الفردي كما تجيب عن اشكالات معقدة على المستوى الثقافي والاجتماعي والحضاري..
إن الجميع يعرفون بأن الشعوب والأمم والجماعات والقوميات لا تتكلم لغة واحدة وإنما لكل قوم لغته الخاصة المختلفة عن لغات الأقوام الأخرى وهذه الحقيقة تستبعد أن يقال بأن اللغة وُجدت مع الإنسان فمادام أن الناس في مختلف بقاع الأرض يتكلمون آلاف اللغات وأن هذه اللغات متباينة في نُظمها وقواعدها وألفاظها وطرائقها فإن هذا يؤكد أن اللغات ظواهر اجتماعية أبدعتها الجماعات الإنسانية ولأن وجود اللغات سابق لكل العلوم وسابق لابتكار الكتابة فإنه يتحتم القول بأنها قد تكوَّنت تلقائياً بواسطة التفاعل المباشر بين الناس وهذا يعني أن الإنسان وجَدَ نفسه محتاجاً إلى لغة يتفاهم بها بعد أن اتسعت حاجاته وأجهده التخاطب بالإشارة والأصوات العشوائية فاندفع تلقائياً لابداع اللغة بإلحاح الحاجة الضاغطة والمتنامية وكان دماغه وجهازه العصبي وتكوينه العضوي يتيح له هذه الوثبة الابداعية المدهشة..
إن الفكرة تستولدها الحاجة الشديدة والرغبة الملحة ، وإن الحاجة والرغبة تدفعان الإنسان إلى المحاولة بجد والبحث بإصرار عن أي مخرج عملي فينبثق الحل تلقائياً بضغط الحاجة فليست اللغات سوى الحل العملي الذي أبدعه الإنسان بشكل جماعي وتلقائي لتحقيق التفاهم بين أفراده وفئاته...
ومادام أن اللغات الإنسانية نشأت وتكوَّنت تلقائياً فإنها من أقوى الأدلة على أن الإنسان كائن تلقائي إنها بهذه النُظم المعقدة تعد من أعجب وأعظم الانجازات التلقائية فمع أنها تكوّنت أثناء المعايشة اليومية فإنها رغم كل هذه التلقائية صارت نظاماً شديد التعقيد والتركيب تتعبُ الأجيال المتعاقبة في دراسة قواعدها والاحاطة بتفاصيل نظامها واكتساب المهارات اللازمة لها ولكن الأعجب أن هذه الظاهرة المذهلة ليست فريدة في الوجود فنجد أيضاً في الطبيعة ما يماثلها من حيث الانتظام بعد الفوضى ، والاطراد بعد العشوائية فمن يتابع الذرات الرملية الدقيقة وهي تنحل وتنفصل عن الصخور ثم وهي تتجمع وتلتئم لتتكوّن بها تكوينات منتظمة عجيبة ذات كثافة بالغة سوف يرى العَجَب وهو يتأملها ويتابع مسيرتها في منشئها وحركتها واضطرابها ثم ميلها إلى الانتظام والاستقرار والثبات فمن أعماق الاضطراب والفوضى قد ينبثق النظام ويتوطد الثبات ففي المناطق الصحراوية يشاهد الناس كيف أن عوامل التعرية تنحت الصخور فتنحل منها ذرَّات الرمل فتعصف الرياح بهذه الذرات ثم تتجمع على مهل وتتراكم ببطء شديد ومع الزمن تصير تلالاً ثابتة وتكوينات مستقرة لا تكاد تتغيَّر إلا إذا تدخل الإنسان بإقامة الحواجز أو تغيير الوضع فأخل بثباتها وانتظامها...
إن الرمال تتجمَّع وتتراكم وتنبني في تلال رملية منتظمة متفاوتة الارتفاع وفي أحيان كثيرة تكون ذات ارتفاعات شاهقة ومع أن حبَّات الرمل غير متماسكة ومع شدة الرياح في المناطق الصحراوية وكثرة تقلبها في الاتجاه فإن التلال تبقى واقفة صامدة مستقرة من دون تغيير عشرات أو ربما مئات السنين وتنبت الشجيرات على جانبي التل وفوق ظهره فلا تندفن أبداً مما يشهد بثبات التل واستقراره ليس هذا فحسب بل تظل بين التلال فراغات واسعة تسمح بأن تقام فيها القرى وتُنشأ فيها المزارع ويظل السالكون للمناطق الرملية يعرفون المسالك والطرق عبر المناطق الرملية الشاسعة لأن التلال والفراغات وكافة التكوينات تبقى مستقرة وهكذا ينبثق الانتظام من الفوضى...
إن ظاهرة الانتظام التلقائي للرمال بعد التناثر والاضطراب ليست ظاهرة فريدة معزولة وإنما هي ذات دلالة عامة إنني حين أتأمل هذه الصورة العجيبة لانتظام الرمال في تكوينات جميلة دائمة وتلال شاهقة ثابتة وفراغات واسعة مستقرة تردُ إلى ذهني صورة تكوين اللغات الكثيرة المختلفة بنظمها المعقدة فهي تبدأ عشوائياً بدوافع الحاجة إلى التفاهم كظاهرة اجتماعية وتتكون تلقائياً ولكنها تنمو وتتبلور فتصبح كيانات هائلة عظيمة منتظمة ممتدة في الزمان والمكان ومع اتساعها الهائل ورغم عشوائية بنائها فإنها تبقى كيانات مؤطرة تأطيرات صارمة بما تشتمل عليه من نظم دقيقة وقواعد محكمة وما تنهض به في الحياة الإنسانية من وظائف أساسية ومع أنها نتاج تلقائي فإنها ذات تعقيد شديد وثبات متين ومع هذه الصرامة في النظام والقواعد فإنها مرنة ومفتوحة لما لا حدود له من الأساليب وتركيبات الجُمل وفي نفس الوقت فإن اللغات الإنسانية كثيرة كثرة بالغة ومتنوعة تنوعاً هائلاً فمسوحُ منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) تؤكد بأن عدد اللغات في العالم الآن يتراوح ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف لغة ولابد أن آلافاً أخرى من اللغات قد انقرضت واختفت ..
إن الكيانات اللغوية الباهرة قد أذهلت السابقين فاستبعدوا أن تكون من انتاج الإنسان واعتبروها إلهاماً توقيفياً من الخالق سبحانه وليست وضعاً بشرياً...
وهذا التعدد الهائل في اللغات يؤكد أن الإنسان كائن تلقائي فاللغة هي أهم الظواهر الاجتماعية والإنسانية وأعقدها ومع هذه الأهمية الأساسية ومع تعقيداتها البالغة فإنها نتاج تلقائي فالإنسان أمام ضغط الحاجة وانعدام البديل الأسهل يستطيع أن يجد له مخرجاً فيتدبر أمره ويتوصل إلى حل فيصنع المعجزات فاللغات هي الأوضح والأبلغ من معجزاته التلقائية...
إن الكائنات الحية إذا وَجَدَت الأسهل فإنها تكتفي به ولا تُقحم نفسها في الأصعب لكنها إذا لم تجد أمامها مخرجاً سوى الأصعب فإنها تقاومه بإصرار شديد ومثابرة لا تنتهي حتى تتغلب عليه مهما بلغت صعوبته فقد لاحظتُ من اهتمامي الشديد بالحياة النباتية أن الشجرة إذا نبتت في منطقة صخرية فإن جذورها الغضة الرقيقة تفرز مواد تخترق بها الصخر الصلد لكن الشجرة الأخرى القريبة منها التي تجد حولها تربة سطحية فوق الصخر تمد جذورها أفقياً في التربة السطحية وتحيد عن الصخر فتبقى معرضة للسقوط لأن جذورها وجدت بديلاً سهلاً فلم تنغرز في الصخر الذي تحتها وهكذا الإنسان إذا ضغطته الحاجة التي ليس له عنها محيص فإنه يبدع الروائع تلقائياً كما هو حين أبدع اللغة ولكنه ما أن يجد الأسهل حتى يستسلم له ويكتفي به كما هو في عجزه الذريع عن تطوير اللغات التي أبدعها تلقائياً!!...
إن الإنسان يتحرك تلقائياً بدوافع الحاجات والرغبات وبدافع الخوف أو الحب أو الكُره أو الملل أو الأمل وبهذه الحركة التلقائية المتلهفة قد يصنع المعجزات ويُعد إبداع اللغة من أعظم منجزات الإنسان التلقائية.. إن الإنسان إذا حاصرته الحاجة ولم يجد مخرجاً فإنه يبتكر ما يتيح له الخروج من المأزق فاللغة انجاز تلقائي وهي نظام شديد التركيب والتعقيد إن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ والمفردات وإنما المفردات مجرد لبنات في البناء اللغوي الهائل العجيب فاللغة نظام ومع ذلك فإن هذا النظام مفتوح إلى ما لا نهاية ولكنه انفتاح ضمن إطار وقواعده فلا يوجد أي حد لتكوين الجُمل ولا نهاية لتعدد الأساليب ضمن الإطار الذي تحدد تلقائياً...
ومن أوضح الأدلة على أن المهم في اللغة هو نظامها وليس مفرداتها أن الطفل يستطيع التفاهم مع غيره والتعبير عن حاجاته ورغباته وشكواه وطلباته حتى لو كان مجموع المفردات التي يحفظها قليلاً لأنه قد تشبّع تلقائياً بالنظام اللغوي الذي نشأ عليه وتبرمج به وبالمقابل فإن الإنسان البالغ الذي يحفظ محصولاً كبيراً من المفردات من لغة أجنبية لا يستطيع التحدث ولا أن يفهم ما يقال حتى يتعلم نظام اللغة فالمعوَّل عليه هو النظام اللغوي أما المفردات فهي تفاصيل داخل النظام فاللغة ليست مجموعة من الكلمات وإنما هي نظام شديد الصرامة ومع ذلك فإن هذا النظام قد تكوَّن تلقائياً.. إن الأميين من مختلف الأمم يستخدمون هذا النظام بكفاءة تلقائية وأحياناً بكفاءة عالية من غير أن يعرفوه لأنهم تبرمجوا به تلقائياً ومثل ذلك يقال عن الشعراء الذين أبدعوا الأشعار قبل ابتكار علم العروض وحتى بعد ابتكاره فإنهم يُبدعون الشعر من غير أن يتعلموا العروض فالشعر إبداع لغوي تلقائي لذلك يجيده الأميون فالشعر محكوم بصرامة في أوزان محددة ولكنه ينساب تلقائياً بأوزانه الدقيقة من غير أن يحاول الشاعر أن يتحقق من الأوزان فرغم أن بحور الشعر متعددة فإن القصيدة حتى من الشاعر الأمي تأتي ملتزمة تلقائياً ببحر من هذه البحور فالشاعر يتدفق تلقائياً بنفس الأوزان رغم اختلاف الكلمات طولاً وتركيباً فلو زادت كلمات البيت بل لو زادت الحروف لاختل الوزن وخرج عن نظام الشعر ومع هذه الدقة المتناهية فإن الشاعر يظل ملتزماً تلقائياً ببحر واحد مهما طالت القصيدة ودون أن يبذل أي جهد مقصود من أجل هذا الالتزام فالأبيات بوزنها المحدَّد من أول بيت في القصيدة إلى آخر بيت فيها تنساب انسياباً تلقائياً وكأنها تخرج من قالب واحد وتتدفق مع مسار واحد لا مجال للخروج عنه!!...
ومما يجب الإشارة إليه أنه مع أن اللغات تكتسب بعد تكوينها التلقائي انتظاماً بالغ الدقة وتتحكم بها قواعد صارمة فإن اختيار الكلمات أثناء تكوين اللغة للتعبير عن الأشياء والمسميات يأتي عشوائياً ولا يخضع لأي منطق فالشيء الواحد تتعدد أسماؤه بتعدد اللغات ولا يمكن أن يقال بأن التسمية في هذه اللغة هي الأقرب للعقل أو الأفضل لأن كل التسميات غير عقلانية ولا يمكن تخريجها منطقياً وهذه قضية معروفة علمياً لذلك فهي قد أشبعت بحثاً وعلى سبيل المثال فإن أحمد حاطوم قد ألف كتاباً يحمل عنوان (اللغة ليست عقلاً) أكد فيه أن دراسة اللغات والمقارنة بينها تؤكد: (بوضوح لا لبس فيه أن اللغة بجوهرها هي لغة تستمد حقيقتها من ذاتها وتقوم بذاتها قبل أن تستمدها من أي شيء آخر أو تقوم بأي شيء آخر أن اللغة ليست عقلاً) كما يؤكد أن العقل يدخلُ في اللغة لكنه لا يتدخل بها إلا كمستخدم لها، إنه يعوق نموها ويُربك أداءها ويعطل وظيفتها حين يتدخل فيها فالعقل تتحكم به اللغة ولا يتحكم بها أي أن العقل يستخدم ما تم تكوينه تلقائياً لكنه ليس قادراً على تغييره وإنما التغيير إذا حصل فإنه يأتي تلقائياً أيضاً وكما يقول المفكر الفرنسي الكسيس دي توكفيل في كتابه (الديمقراطية في أمريكا): «إنه لأيسر على العقل الإنساني أن يخترع أشياء جديدة من أن يخترع ألفاظاً جدداً ومن ثم فنحن مضطرون أن نستخدم الكثير من التعبيرات القاصرة غير الصالحة»
وهذه الحقيقة ذات دلالات عميقة حول الطبيعة التلقائية للإنسان فهو حين تضطره الحاجة يستطيع أن يبدع الأروع ويمثل ابداع اللغات أعظم الابداعات التلقائية لكنه ما أن ينجز شيئاً فيشعر بالاكتفاء حتى يستسلم للتأطير الذي وضعه تلقائياً حول نفسه فاللغة التي أبدعها بشكل تلقائي تصير قيداً يكبِّل حركته فيصبح مرتهناً بما وضعه بنفسه فلا يستطيع أن يُعدل في القواعد ولا أن يخترع إضافات ولا أن يبدل في النظام اللغوي بل ولا أن يؤصل مفردات جذرية جديدة وأقصى ما يفعل هو الاشتقاق والاستعارة واستخدام المجاز ليوسع بها اللغة لكنه يبقى محكوماً بالجذور اللغوية الأساسية فيرى نفسه ملزماً تلقائياً إلزاماً صارماً بما تحقق تلقائياً وكأن هذا المتحقق قد اكتسب نوعاً من القداسة ..
إن التلقائية الخلاَّقة أثناء الطلاقة قبل التأطير تكون باهرة القدرة عظيمة الانفتاح مذهلة المرونة لكنها بعد الاحساس بالاكتفاء تصير تلقائية عقيمة عاجزة مستسلمة واجترارية ومتجمدة وكليلة ليس هذا فحسب بل إن العجز ينمو ويستحكم كلما امتد الزمن وتوالت الأجيال هكذا هي التلقائية باهرة في الفاعلية حين تكون طليقة لكنها بائسة وعقيمة حين تصير مؤطّرة...
ولعله من الواضح أن هذا المقال ليس بحثاً في اللغة وإنما هو بحث في الطبيعة البشرية فهو يأتي ضمن رؤية عامة تحاول أن تكشف عن عظمة الفاعلية التلقائية أثناء حرية الحركة كما تكشف عن العقم الشديد التلقائي بعد التأطير لأن الظاهرة اللغوية تشهد بوضوح شديد بأن الإنسان يملك قابليات عظيمة وقدرات مذهلة حين يكون طليقاً وتلقائياً، وأنه يصير كليلاً وعديم الحيلة حين تتحول تلقائية الحاجة والرغبة والاندفاع والفاعلية إلى تلقائية اكتفاء وتقييد واستسلام...
ومثلما أن الإنسان بصفته الجماعية حين كان طليقاً وتلقائياً غير مؤطر ومدفوعاً بالحاجة الملحة قد استطاع أن ينشئ اللغة من العدم فإن الطفل أيضاً بعد ولادته يملك نفس القابلية والطلاقة مما يتيح له أن يتشرَّب اللغة تشرباً تلقائياً بالمحاكاة والمعايشة والتفاعل المباشر فيتطبع بها كنظام وليس كمفردات ومادام أنه قد تبرمج تلقائياً بالنظام اللغوي الخاص ببيئته فإنه يستطيع أن يفهم وأن يُفهم وأن يركّب الجمُل بأشكال لا حصر لها..
إن الطفل يفهم اللغة التي تبرمَجَ بنظامها مهما كان محصوله ضئيلاً من المفردات لأنه يستطيع سد الفجوات وبالمقابل فإن من يعرف من الكبار مفردات كثيرة من لغة أجنبية لن يستطيع تركيبها في جُمل ولن يفهم ما يقال له بها لأنه يعرف معاني المفردات لكنه لا يعرف النظام اللغوي الذي تنتظم به هذه المفردات فاللغة هي بشكل أساسي نظام أما المفردات فهي مادة لاستخدام النظام فالذي يتشرَّب هذا النظام يملك اللغة وتنمو المفردات معه تلقائياً بالمحاكاة وبالمران والقراءة ولكن سهولة التشرب التلقائي للغة في الطفولة تنقلب إلى معاناة حين يحاول أن يتعلَّم قصداً لغة أجنبية بعد أن يكبر لأن الإنسان كائن تلقائي...
إن اللغة يتم اكتسابها تلقائياً عن طريق المحاكاة والتفاعل المباشر وليس عن طريق التعلُّم المقصود أو التلقين المنظم فالطفل الذي يكتسب تلقائياً أكثر من لغة إذا عاش مع أبوين مختلفيْ اللغة ويكتسب لغة ثالثة ورابعة تلقائياً إذا كان أبواه يعيشان أيضاً في بيئة متعددة اللغات ولكن هذه القابلية التلقائية تتلبك وتحرن وتنسد إذا أريد تعليمه قصداً وليس عن طريق المعايشة التلقائية والتفاعل العفوي بل إن الأطفال لا يستطيعون أن يتعلموا لغة أجنبية من التلفزيون أو الفيديو مهما طال جلوسهم أمامه رغم أنهم يكونون مشدودين إليه ومستمتعين به!! لأن اللغة ليست مفردات وإنما هي نظام لابد من أن يتشرّبه الطفل تشرباً تلقائياً...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.