فتح القبول للطلبة في الجامعات دون الحصر على المنطقة الإدارية    «مسام» يشارك في ندوة جهود نزع الألغام في جنيف    زوار المسجد النبوي يغرسون أشجار الإيتكس وكف مريم    22.7 % نمو قطاع التأمين في المملكة خلال 2023    أمير جازان يرعى فعاليات مهرجان الحريد في النسخة 20    نائب أمير مكة يقف على غرفة المتابعة الأمنية لمحافظات المنطقة والمشاعر    إيقاف نشاط تطبيق لنقل الركاب لعدم التزامه بالأنظمة والاشتراطات    إطلاق اختبارات "نافس" في المدارس الابتدائية والمتوسطة    «الجوازات»: 41 مليون عملية إلكترونية لخدمة المستفيدين داخل السعودية وخارجها.. في 2023    مناقشة أثر بدائل العقوبات السالبة للحرية على ظاهرتي الاكتظاظ السجني    جراحة ناجحة تٌعيد الحركة لطفل مُصاب بالشلل الرباعي ببريدة    سعود بن طلال يرعى الاحتفال بانضمام الأحساء للشبكة العالمية لمدن التعلم باليونسكو    هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبدالعزيز الملكية بحائل تنظم حملة للإصحاح البيئي    أمير تبوك يستقبل أبناء علي بن رفاده البلوي    نائب أمير حائل يزور "مركز انتماء"للرعاية النهارية ويطلع على تقارير أعمال الأمانة    إيقاف 166 متهماً بقضايا فساد في 7 وزارات    حظر تكبيل المتهم عند القبض عليه    أمطار الرياض تروي أراضيها لليوم الثاني    ارتفاع أرباح مصرف الإنماء إلى 1.3 مليار    الذهبان الأصفر والأسود يواصلان التراجع    سمو محافظ الخرج يكرم المعلمة الدليمي بمناسبة فوزها بجائزة الأمير فيصل بن بندر للتميز والإبداع في دورتها الثانية 1445ه    «العالم الإسلامي»: بيان «كبار العلماء» يؤصل شرعاً لمعالجة سلوكيات مؤسفة    النصر والخليج.. صراع على بطاقة نهائي كأس الملك    سعود عبدالحميد: الطرد زاد من دوافعنا.. وهذا سر احتفالي    تغريم ترامب لازدرائه المحكمة والقاضي يهدّد بسجنه إن لم يرتدع    مصر: استدعاء داعية بعد اتهامه الفنانة ميار الببلاوي ب«الزنا»    نائب أمير مكة: مضامين بيان «كبار العلماء» تعظيم لاحترام الأنظمة    انهيار صفقة الاستحواذ على «التلغراف» و«سبيكتاتور»    5 فواكه تمنع انسداد الشرايين    خسرت 400 كلغ .. فأصبحت «عروسة بحر»    النشاط البدني يقلل خطر الاكتئاب بنسبة 23 %    أمير الرياض يستقبل ممثل الجامعات السعودية في سيجما    الأمم المتحدة تشيد بالدعم السعودي لمكافحة الإرهاب    فيصل بن نواف: دعم القيادة وراء كل نجاح    حق التعويض عن التسمّم الغذائي    نتانياهو: سندخل رفح «مع أو بدون» هدنة    طلاب تعليم جازان يستكشفون الأطباق الوطنية السعودية في معرض الطهي المتنقل    مجلس الوزراء: التحول الاقتصادي التاريخي رسخ مكانة المملكة كوجهة عالمية للاستثمار    في موسم واحد.. الهلال يُقصي الاتحاد من 4 بطولات    جيسوس يعلن سر غياب سلمان الفرج    بحث مع عباس وبلينكن تطورات غزة.. ولي العهد يؤكد وقوف المملكة الدائم إلى جانب الشعب الفلسطيني    في ختام الجولة من دوري" يلو".. ديربي ساخن في الشمال.. والباطن يستضيف النجمة    مرسم حر في «أسبوع البيئة»    الأساطير الحديثة.. نظريات المؤامرة    الانتماء والتعايش.. والوطن الذي يجمعنا    محمد عبده الأول.. فمن العاشر؟    في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.. حلم باريس سان جيرمان يصطدم بقوة دورتموند    السعودية تنضم للتحالف العالمي للذكاء الاصطناعي    ازدواجية الغرب مرة أخرى    «جوجل» تطلق شبكة تعقب الهواتف    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج    ينجو من فكي دب بفضل احترافه الكاراتيه    تعزيز الأمن المائي والغذائي    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة "37 بحرية"    الهلال والأهلي في قمة مبكرة والاتحاد يلتقي الابتسام    إنقاذ حياة معتمر عراقي من جلطة قلبية حادة    أمير منطقة الباحة يشهد اتفاقية تعاون بين تجمع الباحة الصحي والجمعية السعودية الخيرية لمرضى ( كبدك )    وزير الدفاع يحتفي بخريجي كلية الملك فهد البحرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإنسان يتبرمج: جسداً وعقلاً ووجداناً
نشر في الرياض يوم 12 - 07 - 2009

لا يكون الأداء سريعاً ودقيقاً إلا إذا كانت الاستجابة تتدفق تلقائياً من أعماق الذات انسياباً من البرمجة الطبيعية أو ما احتشدت له بالبرمجة الثقافة أو مما امتلأت به قصداً برغبة عميقة وجهد منظم وممارسة موصولة إن مختلف العلوم تتضمن كشوفاً علمية كثيرة تقدم شواهد متعاضدة تؤكد تلقائية الإنسان لكنها كشوف مبعثرة ومغمورة في آلاف المصادر فالساعة البيولوجية مثلاً شاهد واضح على أن الإنسان كائن تلقائي: جسداً وعقلاً ووجداناً إن علم الأحياء والتحليل النفسي وعلم النفس وعلوماً اجتماعية وإنسانية أخرى بتحليلاتها الدقيقة وكشوفها المذهلة تقدم أدلة كثيرة على أن الإنسان مبرمج فيما لا إرادة له فيه كعمليات الهضم ونحوها وأنه قابل لإعادة البرمجة فيما هو خاضع لإرادته وتحت تصرف وعيه كالمعارف والمهارات وهذا هو الذي يجعل الاستجابة المنظمة من ذوي الاهتمام التلقائي القوي المستغرق فورية ومتدفقة وشديدة الفاعلية وزاخرة بالمهارة والإشراق إن استجابات العقل والعاطفة والجسد قائمة على قابلياتها للتعبئة والتنظيم الذاتي التلقائي إن بعض الناس يقرأون أو يسمعون عن الساعة البيولوجية لكنهم في الغالب يظنون بأن قابلية الإنسان للتبرمج الدقيق مقصورة على النوم والاستيقاظ لأنهم يلاحظونه في أنفسهم بشكل واضح لذلك لا يأتي غالباً الحديث عن التبرمج إلا عند الكلام عن الأرق أو غيره من المشاكل المتعلقة بالنوم..
ولو عرف الناس بأنهم قادرون على برمجة أنفسهم بأدق المعارف وأنصع الأفكار وأعلى القيم وأنجع العادات وأرفع المهارات لكانت حياتهم أنجح وأيسر ولكانت مليئة بالتعاطف والإيثار والسعادة والانسجام فليس بين الفرد وما يريد من ذاته سوى أن يبرمجها بما يتطلع إلى إيجاده في نفسه فبجهد مقنن ومنتظم وممارسة موصولة يتبرمج وبذلك يصير كما يريد: عقلاً ومعرفة ومهارة وذوقاً وتعاملاً وسلوكاً إن التبرمج شامل لكل قابليات الإنسان الجسدية والعقلية والوجدانية والذوقية والأخلاقية إنه يحصل بالامتصاص التلقائي من البيئة أو بالجهد المقصود المدفوع برغبة متأججة يتحقق بها التشبع والامتلاء والامتزاج فيفيض الأداء تلقائياً: معرفة أو مهارة أو تذوقاً أو سلوكاً فالتفكير السليم والسلوك المنضبط والأداء المتقن والمهارات الفائقة والمعرفة المنسابة والتذوق الرفيع ليست من إملاءات اللحظة ولا هي مكونات طبيعية يولد بها الفرد وإنما هي برمجة تتعبأ بها الذات بالجهد الموصول والعمل الجاد والرغبة الدافقة فتمتلئ بها الخافية إلى درجة الفيضان التلقائي فتنساب تلقائياً بتدفق ولولا قابلية التعبئة في الإنسان لما كان تهذيب الأذواق واكتساب المهارات وهضم المعارف والانضباط الأخلاقي ممكناً فالذوق الرفيع والمهارات المذهلة والمعارف الفياضة والأخلاق العالية لا تكون ضمن العتاد الشخصي للفرد إلا بمقدار تبرمجه بها لتنساب تلقائياً..
ولكن الإعضال الأكبر في الحياة الإنسانية أن قابليات الفرد الفارغة المفتوحة عند الولادة تمتلئ تلقائياً بواسطة الامتصاص التلقائي بما هو سائد في البيئة الاجتماعية والثقافية من طريقة تفكير وتصورات وقيم وعادات واهتمامات ومعايير وأخلاق ويبقى الفرد مأسوراً بما امتصته قابليته في طفولته لأنه بعد كبره لا يرى الأمور إلا من خلال هذه البرمجة التي احتلت عقله وحددت معاييره وشكلت عواطفه وطبعت ذوقه فيعتقد أنها تمثل الكمال المطلق وإذا قدر له أن يكتشف طبيعة البرمجة التي صاغت ذوقه وعقله وعواطفه وحددت قيمه واهتماماته ورسمت معاييره ورؤاه ومواقفه وأراد استبدال التصورات التي تشربتها قابلياته في الطفولة بتصورات ممحصة فإن ذلك يتطلب جهداً استثنائياً لأنه سيواجه بحواجز نفسية صلبة وعنيدة وشديدة الممانعة فيأتي جهده معاقاً بما لا حد له من العوائق إلا إذا انهارت البرمجة بجارف مزلزل وكاسح وتحققت القطيعة تلقائياً فصار لا خيار للفرد إلا بأن يعيد تشكيل ذاته أو إذا جاءت إعادة البرمجة ضمن توجه عام في المجتمع من غير ممانعة الفئات المؤثرة فإن التغيير للفرد والمجتمع يكون سريعاً وجارفاً..
إن تلقائية الإنسان قد جعلته لا يتأثر في الحالات العادية إلا بما كان متهيئاً للتأثر به ومبرمجاً على الاستجابة له أما الأفكار والمناهج والمعارف الجديدة التي ليست من جنس ما تبرمج به فإنها لا تملك مفتاح الدخول فتبقى مرفوضة تلقائياً ذهنياً وعاطفياً فتظل خارج البنية الذهنية والوجدانية بسبب أنها غير متوائمة مع برمجة الطفولة أما فاعليات الفرد الفكرية والعلمية والعملية وتصرفاته فتتوقف على مقدار امتلائه وتلقائيته فعاداته في الفكر والسلوك تفيض من البرمجة الطبيعية ومن البرمجة الثقافية إنهما تتحكمان بردود فعله واستجاباته وتفكيره ونمط سلوكه وقد أمدتنا العلوم المختلفة بشروح مثيرة ومذهلة عن الكيفية التي يحصل بها هذا التحكم وكمثال على ذلك نشير إلى تجربة عالم الأحياء الأمريكي جون د. بالمر الذي أمضى أربعين عاماً وهو يراقب الأداء التلقائي الدقيق لظواهر الحياة يتابع ويستمتع بمشاهدة الإيقاع المدهش والانضباط الشديد والتجاوب الدقيق الذي يحركه المتحكم الحيوي في الإنسان وفي غيره من الأحياء إن (بالمر) واحد من العلماء الذين أسهموا في ملاحظة الظواهر الدالة على التنظيم الذاتي التلقائي وبعد أربعين عاماً من العمل الجاد والمتابعة الدقيقة ألَّف كتابه (الساعة الحية) وقد كتب يقول: "يدين المجتمع بالكثير للمئات من العلماء الذين عملوا سنين طويلة لإنتاج هذا الفهم للساعة الحية. إن الإيقاعات العضوية صفة أساسية للأشياء الحية (وقد كشَفَتْها) جهودٌ مكثفة من الأبحاث المضنية" وكغيره من الاكتشافات العلمية فإن العلماء الذين اكتشفوا هذا التنظيم الذاتي التلقائي المذهل قد واجهوا في المراحل الأولى صعوبات بالغة في إقناع العلماء الآخرين ثم تضافرت الحقائق فجذبت اهتمام المزيد من علماء الأحياء وعلماء الطبيعة الحيوية واهتمام فروع علمية أخرى وأُجريتْ اختبارات مقنعة فتحقَّق العلماءُ من وجود هذا التنظيم الذاتي التلقائي المدهش وتأكدوا أنه منظّم عام لكل فاعليات الإنسان الجسدية والعقلية والعاطفية والذوقية والأخلاقية كما تأكدوا أنه يعمل بدقة مذهلة وأنه يتكيف طبقاً للظروف وأنه هو الذي يضمن انتظام الحياة للأحياء ويقول (بالمر): "لقد لاحقنا الساعة عبر أنظمة الأعضاء إلى الخلايا الفردية وأخيراً إلى دنا الجينات. إن البحث عن هذه الساعة الحية كان طويلاً وصعباً" وكانت الملاحظات الدقيقة هي نقطة البداية في هذه الرحلة العلمية المدهشة. إن (بالمر) يؤكد أنه ما زال بعد كل هذه السنين مأخوذاً بروعة هذا المنظّم الذاتي التلقائي المذهل الذي ينسق الإيقاع الحيوي في الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان. إنه يؤكد أنه ما زال على نفس المستوى من الدهشة والمتعة والحماس.
إن هذا المنظّم الصارم يتحكم بدقة مذهلة وكما يقول بالمر: "إن قسماً كبيراً من حياة البشر موجَّهٌ بساعاتنا هذه مما يجعلها مرتبطة شخصياً بعمق بكل منا" لقد توصل هو وغيره من علماء الأحياء إلى أن هذه الساعة الحية أساسية لانتظام الحياة وأنها تعمل بصورة تلقائية وأنها هي التي تضبط وتنسق وتحدد الكثير من العمليات الضرورية في أجسامنا وأنها تتحكم في التفكير والسلوك إيجاباً وسلباً طبقاً لما تبرمجت به ويكرر التأكيد بأن سيطرة الساعة الحية شاملة وأن فهم الطبيعة الإنسانية يستوجب أن نتعرف على هذا المتحكم العجيب الذي يكمن في كل خلية من خلايانا وأن نتدرب على كيفية استثماره إلى أقصى المدى لما فيه الخير لنا والنفع لغيرنا فهو المفتاح لفهم الإنسان وفهم الحياة وهو سبيلنا لكي نكون كما نريد فكل خلية لها ساعة دقيقة موجودة في عمق البروتوبلازما.
إنه يتحدث عن روعة هذا المنظّم العجيب بدقة العالم واندهاش الفيلسوف وانجذاب العاشق لقد عاش عمره العلمي المديد مبهوراً من الإيقاعات التلقائية المتناغمة التي تنظمها هذه الساعة الحية المذهلة. لقد قضى حياته وهو يشهد روعة الانتظام ودقة الأداء وصرامة التوقيت. إن الظواهر الحية تستجيب لإشارات هذه الساعة في انسياب تلقائي دقيق باهر.
أما تلقائية أداء أجهزة جسم الإنسان فهي من أروع حقائق الوجود. إن هذه التلقائية المدهشة تبدأ في عمليات إنتاج البويضة في الأم والحيوان المنوي في الأب ثم حفلة التقاء هذا الحيوان بالبويضة فهو يندفع إليها تلقائياً وهي تنتظره وتتهيأ له تلقائياً فيخترقها وينفذ إلى جوفها فتحيطه بالحنان ثم يمتزجان ويَتَّحدان في خلية واحدة تجمع موروثات الأبوين ثم تبدأ تلقائياً عملية انقسام هذه الخلية وتكاثرها في استهداف بناء إنسان سوي في أحسن تقويم فتؤدي الخلايا مهمتها بمنتهى التلقائية فلولا صرامة تلقائية الأداء وفق النظام الصارم الدقيق الذي وضعه الخالق سبحانه لرأيتم العجب في أشكال الأحياء.
تأمل أصابعك إنها متفاوتة في الطول والشكل وفي الوظيفة والأداء بحيث يكمل كل منها الآخر. إن بناء كل أصبع قد أنجزته بتلقائية عجيبة خلايا معينة وهي تتوقف تلقائياً عن النمو والتكاثر متى وصل الإصبع إلى كماله ولو استمرت الخلايا في النمو أو توقفت عن التكاثر قبل أن يبلغ الجسم تمامه لحدثت تشويهات مروِّعة وهذه الخلايا الهائلة في الكثرة والمتنوعة في الوظيفة قد انبثقت تلقائياً من خلية واحدة جامعة ثم توزعت تلقائياً لتبني الجسم بدقة لا تعرف الخطأ وبصرامة لا يعتريها التقديم ولا التأخير ولا الانحراف فتصور لو أن الخلايا المكلفة بتكوين الأنف أو العين أخطأت في الاتجاه فجاءت العين مكان الأنف أو الأنف مكان العين أو جاء الرأس مكان القدم أو جاء القدم مكان الرأس ولكن التلقائية الدقيقة الصارمة المحكومة بالنظام التلقائي المدهش الذي وضعه الخالق سبحانه لنمو الخلايا واتجاهها: قد تكفل بعدم حصول مثل هذا الاضطراب.
إن هذا الشبه الملحوظ بين الأقارب وبين الأباء والأبناء قد انتقل تلقائياً بواسطة خلية شديدة الصغر لا تراها العين ولا تحسها اليد ثم تكاثرت تلقائياً بالانقسام وتوزعت عوامل الوراثة تلقائياً على هذه المجموعة الهائلة من الخلايا المتكاثرة بحيث تأخذ كل خلية ما يخصها من وجوه الشبه أو وجوه الاختلاف حتى نبرة الصوت وطريقة المشي تنتقل من الأب إلى الأبناء!! ولولا هذه التلقائية المدهشة الملتزمة بالنظام المحكم الدقيق الصارم لما حصل هذا.
وحين تنفلت الخلية من تلقائية الأداء الصارمة تتحول إلى خلية سرطانية لأنها فَقَدَتْ تلقائية التوقَّف بعد إنجاز المهمة فالأورام السرطانية الخبيثة ما هي إلا نوع من فقدان تلقائية التوقف وفق النظام الذي وضعه الله سبحانه للحياة والأحياء فتستمر في النمو لأنها خرجتْ عن النظام التلقائي الدقيق فتحصل الأورام الخبيثة ويختل نظام الجسم وهذا يؤكد أن تلقائية الأداء في الفعل والكف هي التي تبني وهي التي تحرس وهي التي تعيد بناء الجسم وتقوم بترميمه كلما تهدَّم شيء منه فما أن يصاب الإنسان بأي جرح حتى تبادر الخلايا تلقائياً لترميمه وما أن يلتئم الجرح حتى تتوقف تلقائياً عن التكاثر، أما تلقائية جهاز المناعة فهي من أروع مظاهر الحياة إن هذا الجهاز متأهب دائماً بأقصى درجات التأهب وحاسة الشم هي أسرع الأجهزة استجابة وليس العطاس سوى أحد أجراس الإنذار ولا ينقضي العجب من مظاهر الأداء التلقائي المدهش فالإنسان يأكل خليطاً من المأكولات فتبادر الأعضاء الهاضمة بالإفرازات تلقائياً لتجعله جاهزاً لدخول الدورة الدموية تلقائياً ويتدفق الأنسولين تلقائياً ليضمن انسياب الغذاء إلى باطن كل خلية وليست هذه سوى أمثلة على تلقائية الأداء داخل جسم الإنسان...
لكن الذي يعنينا هو تلقائية أداء العقل والعواطف والأذواق والأخلاق إنها في كل مولود تأتي فارغة ومفتوحة وقابلة لأية برمجة لتصبح بما تتبرمج به من البيئة ذات أداء آلي تلقائي أما ما يتعلمه الفرد قصداً ولا يبلغ به مرحلة تلقائية الانسياب فإنه يظل خارج بنيته الذهنية والعاطفية. إن الإنسان في الغالب لا يفطن لطبيعته التلقائية ويغفل عن أن السلاسة في سلوكه والتلقائية في أدائه إذا تحققت فإنها ليست إلا فيضان البرمجة إنها سلسلة من العادات الراسخة التي يفيض عنها السلوك تلقائياً إن الفاعليات الذهنية والسلوكية المنسابة هي نتاج البرمجة والاعتياد الراسخ وهي تزداد يُسراً وانسياباً وتدفقاً إذا بلغت درجة الامتلاء والاكتناز والفيضان إنها تتأسس على الطبيعة التلقائية للإنسان، إن الجسم والعقل والوجدان تتفاعل تلقائياً وتتبادل التأثير والتأثر، فالفاعلية المتدفقة في كل مظاهر النشاط الذهني والجسدي والوجداني هي نتاج الطبيعة التلقائية للكائن الحي..
إن العادات الذهنية والحركية والمعارف والمهارات وكافة صور الأداء تتحول بالتكرار والتشبع والهضم والامتزاج إلى غرائز مكتسبة لكنها غرائز قابلة للتعديل بإعادة البرمجة فإذا كانت الحيوانات مبرمجة غريزياً قبل الولادة فإن الإنسان يتبرمج بعد ولادته بما يمتصه تلقائياً من البيئة ولكن الله سبحانه قد أعطى الإنسان إمكانية أن يتحقق من محتوى ذهنه وأن يفحص تصوراته وأن يراجع الأسس التي قامت عليها عواطفه وأن يعيد برمجة ذاته وأن يغيِّر عاداته وأن يعمل على إعادة ترتيب منظومة قيمه وأن يستبدل الاهتمامات التلقائية البدائية الساذجة باهتمامات حضارية ناضجة وأن يبلغ بها درجة الامتزاج والامتلاء لتفيض تلقائياً ولكنه من النادر أن يفعل ذلك لأنه محكوم تلقائياً بقانون القصور الذاتي فلا يخرج عن ذلك إلا بمؤثر قوي جارف وأقوى المؤثرات أن تحصل تغيرات ثقافية عامة جذرية في المجتمع فالمهم أن ندرك أنه في كل الحالات لا تتحقق فاعلية المعرفة والمهارة والتعاليم الأخلاقية إلا إذا بلغت في الفرد درجة التشبع والانسياب التلقائي..
إن تفهم طبيعتنا التلقائية يفتح للفرد والمجتمع وللإنسانية كلها آفاقاً جديدة في بناء قدرات الإنسان وإعادة بنائها كلما استدعت الأوضاع هذه الإعادة، إن التعامل مع الإنسان في تربيته وتعليمه وفي تدريبه وعمله وفي لعبه وجده وفي تقييم آرائه ومواقفه وفي الحكم على ما يقبله أو يرفضه وفي النظر إلى استجاباته وفي إعادة تأهيله إن كل هذا يجب أن يتأسس على حقيقة أنه كائن تلقائي وأن فاعلياته وكفاياته متوقفة على درجة تلقائيته إن فهمنا لهذه الطبيعة الإنسانية الأساسية سوف يتيح تنمية طاقات الإنسان إلى حدها الأقصى فتتدفق عطاء وإبداعاً بأقل جهد وأقصر وقت ولن يكون تعليمه بحاجة إلى كل هذه الأعوام الطويلة بل سوف يملك المربون مفاتيح قابلياته ويساعدونه ليستخدم هذه المفاتيح فيجعل قابلياته زاخرة بالمعارف متوقدة بالأفكار متدفقة بالمهارات من دون أن يواجهوا معه هذا العناء ومن غير أن يكابد هو ما يراد منه استساغته قسراً كما أنه بفهم طبيعة الإنسان التلقائية سيكون ميسوراً إعادة تأهيل الأجيال في مجالات متنوعة كلما تغيرت الظروف..
إن القابليات الفارغة المفتوحة في الطفولة قد جعلت تلقائياً كل ثقافة تبرمج أفرادها بما هو سائد فيها، لكن إذا اكتشف الفرد طبيعة البرمجة التي احتلت عقله وحددت طريقة تفكيره وشكلت عواطفه وصاغت اهتماماته وبرمجته بمعايير تلقائية للتقييم فإنه يستطيع أن يعيد برمجة قابلياته بما يحقق به ذاته ويرفع شأن نفسه ويرتقي بكفاياته وينمي قدراته إلى حدها الأقصى، ولكن الأهم من ذلك أنه إذا استيقظ أي مجتمع وأدرك واقعه المتخلف وأراد أن ينهض وأن يستدرك فإنه يستطيع ذلك بالعمل الجماعي الجاد فقابليات الناس تتيح إمكانات عظيمة لإعادة البرمجة فبالتوجه العام في المجتمع يمكن أن تتغير مكوِّنات الأذهان واتجاهات العواطف وأن تتبدل الاهتمامات وتسمو القيم وهي رغم صعوبتها فإنها ممكنة ويتوقف على نجاحها نجاح خطط التنمية لأن التغيرات في العالم صارت سريعة ومتلاحقة وكثيفة، إن هذه القابلية تتيح إعادة برمجة المجتمع وكل فرد ليكون عظيم النفع رائع الأداء دقيق المعارف تلقائي الاستجابة إن إعادة البرمجة إذا استخدمت أقصى إمكانات القابليات ستجعل الإنسان آية في تهذيب الأخلاق وغزارة الإنتاج ودقة الأداء وعظمة الفاعلية، إن أداءه الذهني والسلوكي سينتظم كانتظام وظائف الجسد وأجهزته المذهلة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.