كلمة "صح" اختصارا لكلمة "صحيح"، ولكنها أشد حدّة وأقوى وقعًا على الأذن بسبب صوت حرف الحاء المشدّد الذي يأتي بعد حرف الصاد. وهذه مجرد إيحاءات أرجو ألا ننشغل بها لأن بعض السامعين يمكن أن يشعر بها وقد لايشعر بها آخرون لأن دلالة الكلمتين تكاد تكون واحدة. والكلام الصحيح الذي نتفوّه به رغم صعوبته إلا أنه لايكفي وحده لنجاح المهمّة، إذ يحتاج أن يسير في سياق زماني صحيح، لكي تتحقق المعادلة في إيصال الرسالة واضحة. ولكي تتضح الفكرة نحتاج إلى ضرب بعض الأمثلة، فكثيرًا ما نواجه صعوبات في إدراك المراد وربما تشويشا في الفهم بسبب أن الكلام الذي يقال لنا غير دقيق. وبسبب احتكاكي بطلاب متخصصين في اللغة العربية وآدابها أثناء تدريسي لهم سواء في مرحلة البكالوريوس أو في مرحلة الماجستير، فإني أتوقف معهم عند كثير من تعبيراتهم غير الدقيقة التي تصبح غير موفّقة في أغلب الأحيان. ومن ذلك، أن يهاتفني أحدهم على جوالي في الصباح، ويبدأ بالسؤال: "عفوًا يادكتور، عسى ماإنت بنائم؟"، ويأتيه الرد بأنني لو كنت نائمًا لما أجبت على الاتصال. ثم يردف قائلا: "إنت بالمكتب أو لا؟"، فأجيبه: وهل يهمك هذا؟، فيعقّب: "حبّيت أعرف"، فقلت: ولماذا تريد أن تعرف تحركاتي؟. فيحاول تغيير مسار الحديث دون أن يشعر فيقول: "أتمنى ما أكون أزعجتك"، فأرد عليه: إلى هذه اللحظة لم تزعجني. ثم يضيف: "عساك فاضي يادكتور". فأجيبه: أبدًا، لست فاضيًا. فيرتبك، ثم يقول: "هل أقدر أكلمك؟"، فأرد عليه: ها أنت تكلمني ولم أمنعك. فيقاطع قائلا: "قصدي، عندي موضوع أبغى أكلمك فيه". فأرد عليه: تفضل. فيجيب: "يعني أتكلم؟"، فأضحك وأقول: نعم، ولكن بدون صراخ!. ويشعر حينذاك أنه أخطأ لكنه لايدرك أين الخطأ، فيسألني وقد نشف ريقه بأنه "لايعرف كيف يتكلم". فأخبرته بأن السبب هو أنك أدخلت نفسك في متاهة افتراضات، كأن تعتقد أني نائم أو موجود في المكتب أو خلافه، وهذا يوحي أنك مسؤول عني وعن تحركاتي بصرف النظر عن نواياك؛ أما الافتراض بأني فاضي فهذه لاتليق لأن الفاضي هو الشخص الذي ليس لديه عمل سوى فرقعة أصابعه..إلخ. ولو قلت: "أرجو أن يكون الوقت مناسبًا للحديث معك" لأدّى الهدف المراد بلباقة واحترام دون الوقوع في منزلق تناول المسائل الشخصية. أما الأمثلة لاختيار توقيت غير مناسب، فما أكثر ما نجدها، كأن يصادفك شخص في المصعد أو عند باب المسجد أو في مستشفى أو في مقبرة ثم يفتح معك موضوعًا مهمًا وأنت ذاهل عنه، كأن يريد البحث عن وظيفة، أو التوسط له في حل مشكلة، أو طلب زواج..إلخ. وبعضهم يكلمك وأنت تتكلم مع غيره، أو منشغل بأمر ما. وحينما دخل الجوال في حياتنا، صار البعض لايتورع أن يهاتفك في أي وقت ويطيل الحديث معك في أي موضوع سخيف. وإذا فكّرنا في أهمية التوقيت الصحيح للكلام، سنجد أنه يلعب دورًا مهمًا في علاقتنا. فقد ذكر أحد الاستشاريين النفسيين في مجال الأسرة والمجتمع بالرياض، أن زوجة جاءته وكلها حنق على زوجها الذي لم يمضِ على زواجهما سوى بضعة أشهر، وكانت قد عادت إلى أهلها منذ أسابيع تطلب الطلاق. ولكنها قرأت في الإنترنت وجود من يساعد الأسر التي تمرّ بمشكلات في بداية الزواج، واتصلت بالعيادة وجاءت تريد أن تجرّب آخر فرصة إن كانت ستستمر مع هذا الزوج الذي تصفه بأنه منحرف. يفيد الاستشاري بأنّ مشكلتها تكمن في أنها لاتتلقّى التعاطف المناسب من زوجها ولاتشعر بأنه يحبّها أو يقدّرها، وتجد أنه رجل غامض مما دفعها للشك في سلوكه وتصرفاته والتكهّن بأنه مغصوب عليها، وأنه ربما تكون له علاقات سابقة أو لاحقة مع غيرها. وحينما سألها عن الأدلة على ذلك، ذكرت أنها يوميًا تنتظره طوال اليوم وتتزين له وتعتني بالمنزل وتجهّز الغداء حتى إذا عاد من العمل استقبلته بشوق وقد أعدّت له كلامًا عاطفيًا كبيرًا، وتركت وردة هنا وأخرى هناك، وكتبت كروتًا عاطفية على الطاولة، وبذلت مجهودًا في لفت انتباهه. ولكنه يأتي ويرمي نفسه على الكنبة، ويطلب الغداء ويرد عليها ردودًا مختصرة، وما أن ينتهي من الأكل حتى ينام كالفطيسة. فتبقى وحيدة متحسّرة على حالها، وتقذف بها الظنون في كل اتّجاه حتى أنها شكّت أنه متزوّج عليها بأخرى، لكنها استبعدت الفكرة لأن زواجهما جديد، ثم قررت أن لزوجها علاقة عاطفية مع غيرها. ولهذا خلصت إلى أنه من المهانة عليها أن تستمر مع زوج لا يحبها ولايهتم بها ويتركها فريسة للإهمال. فطلب منها الاستشاري طلبًا واحدًا فقط، وهو أن تغيّر في توقيت كلامها مع زوجها، فالكلام المناسب للرجل حينما يعود مرهقًا من عمله هو سؤاله عن العمل أو عن يومه أو غيرهما من الأسئلة التي لاتتطلب إجابات مطولة. أما الكلام العاطفي الضخم فيجب تأجيله إلى وقت مناسب، وليكن بعد المغرب حينما يرتاح ويصحو من نومه. بعد أسبوعين، جاءته شاكرة وممتنة لأنه عالج زوجها، فقد صار رجلا رومانسيًا ولطيفًا وأثبت أنه يحبّها ويخلص لها. ومع أنه لم يتكلم مع زوجها إطلاقًا،إلا أنها أحسنت الآن توقيت كلامها، فوصلت الرسالة سليمة، فكسبت الجولة. وهناك كتاب بعنوان "الكلام الصحيح في التوقيت الصحيح"، لمارلوس ثوماس وآخرين، يضع الثقل في نجاح العلاقات الاجتماعية وتحقيق التواصل الناجح على هذه المعادلة. وتقول بعض كلمات الأغنية الأمريكية الشهيرة "عذرًا": "آسف": هل هذه كل ما لا تستطيع أن تتفوّه به مضت السنين، وبقيت كلمات لاتأتي بسهولة كلمات مثل: آسف، سامحني.. لكنك تستطيع أن تقول: طفلتي.. هل يمكن أن أمسك بيدك الليلة ربما.. لو أنني قلت الكلمات الصح في الوقت الصح، ستكون لي. وهي أغنية شهيرة لقيت رواجًا، وغناها أكثر من مغنٍ ومغنية لعل أشهرهم تريس شابمان، وتبقى كلماتها الصادقة في ذاكرة كل شخص يقول الكلام الصحيح لكنه يختار الوقت الخطأ، فيخسر.