لديّ عدة حكايات صغيرة كنت قد قرأتها هنا وهناك منذ مدة طويلة في كتب متعددة، من تلك الحكايات ما رواه عالم الاجتماع الأشهر جيمس فريزر في كتابه الموسوعي "الغصن الذهبي" - هذا كتاب بالغ الأهمية أنصح كل الأصدقاء بقراءته إن وجدوا وسيلة للحصول على ترجمته العربية التي صدرت بمصر في أواسط الستينيات - يقول فريزر عن جماعة كانت تقدس الشجرة ان أحداً لو قطع غصناً صغيراً - عامداً أو غير عامد - من شجرة فلابد ان تعمل الجماعة على استرضاء تلك الشجرة، والوسيلة المتبعة في ذلك ان تأتي بالجاني الذي أغضب روحها المقدسة، يرسمون دائرة حول "سرته" ثم يقطعون جلد البطن على الدائرة ويشدونه إلى ساق الشجرة ويثبتونه جيداً، ويحملون الجاني ويدورون به حول الشجرة إلى ان تلتف كل أمعائه حول ساقها، ويظنون أنهم هكذا قد مدوا في حياة الشجرة التي قطع جزءاً منها الجاني بحياته كلها والغريب ان هذه العملية كانت تتم في شكل طقسي يبتهج فيه الجميع ويشعرون بالرضا بمن فيهم أقرب الأقارب للضحية ممن يشاركون في حمله والدوران به حول الشجرة، قد يكون أباً له أو ابناً. ومن تلك الحكايات ما ذكره العبقري آرنست فيشر في كتابه الفريد "ضرورة الفن" (ونصيحة أخرى باقتناء هذا الكتاب لا مجرد قراءته) من ان أحد الفلاحين في طريق عودته إلى بيته وجد جرواً صغيراً أعجبه شكله، فحمله إلى زوجته وطلب إليها ان ترضع الكلب، وعندما قالت انها لا تستطيع ان ترضعه مع صغيريها التوأمين، تخير من طفليه واحداً وقتله ثم ألقاه لتتمكن من إرضاع الكلب. ومن تلك الحكايات ما يتصل بأعراف وتقاليد للزواج عند شعوب بدائية قديمة حيث كان على زوج المستقبل ان يخطف العروس من بين أهلها وينطلق إلى إحدى الأشجار يصعدها بعروسه بينما يوسعه أهل العروس ضرباً - ربما حتى يشارف على الموت - فإن سقط أو سقطت عروسه خرج من "المولد" صفر اليدين ولا تقبل به عروس أخرى. حكايات كثيرة لا يتسع لها مكان ولكنها كلها تشير إلى "رخص" الإنسان وعلاقات الدم، حيث جرو صغير تعطى له فرصة الحياة بدلاً من طفل صغير من دم ولحم قاتله، وحيث حياة إنسان لا تساوى ورقة من شجرة يمكن ان تسقط وحدها وحيث بناء أسرة لا يبدأ بشكل محترم بل بمهانة وإذلال لمن أقدم على المغامرة. وتروي الأساطير التي ربما لها أصول تاريخية قديمة عن أناس يأكلون البشر مثلما يحكي التاريخ عن مجتمعات أجازت زواج الأخ بأخته ليكون الأب هو الخال والأم عمة في ذات الوقت ومعروفة قصص زواج نفرتاري بأخيها عند الفراعنة وارسينوي من أخيها فيلادلفيوس ثاني البطالمة وغيرهما. لو سألنا ألف رجل أياً كانت ديانته، ما هي في نظرك أهم نعمة وهبها لنا الله لأجاب واحد بأنها نعمة البصر التي تقود خطواتنا، وأجاب آخر بل نعمة السمع وإلاّ كان الكون أخرسَ صامتاً كصمت الموت وأجاب آخر نعمة الرزق الذي يحفظ الحياة من مأكل ومشرب وهواء، ومن زرع وضرع ومن طير وأسماك. هؤلاء كلهم صادقون، ومصداقيتهم من الآية الكريمة "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" صدق الله العظيم، ووسط فيض هذه النعم لا نستطيع ان نسأل ما هي أهم النعم، فكل واحدة على حدة هي الأكثر أهمية، بدليل ان أحداً لا يستطيع ان يتخلى عن واحدة أو ان يجحد أهميتها، مع ذلك لو ان للسؤال ضرورة لأجبت على الفور "الهداية" التي ركزت عليها كل الكتب السماوية، المقترنة بنعمة الضمير والعقل تلك الهداية التي أرشدت العقل إلى البارئ الخالق، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وأعطاه أعلى القيم، فلا يقارن بكلب أو غصن شجرة، فإن كان العقل هو أول النعم ألا يكون غريباً ان لا نستخدمه؟