في الثاني عشر من شهر ذي القعدة عام 1441ه توفي الزميل فهد بن راشد العبدالكريم -رئيس تحرير صحيفة الرياض سابقاً-، ولم أتشرف بمقابلته إلاّ مرة واحدة قبل وفاته بعام تقريباً، لعله في صيف 1440ه عندما أُسند إليّ إعداد صفحة «سطور المشاهير» وكان المُعد لها قبلي الصديق -طيب الذكر- منصور العساف، وهو الذي رشّح اسمي لإعداد هذه الصفحة بدلاً منه، سمعت بمرض الأستاذ فهد المفاجئ، والذي هجم بدون استئذان، وهذا من قدر الله عز وجل، حرصت بعدها أكثر على الالتقاء به والتعرف على شخصه، ومع مرور الأيام وبالأخص في مرحلة العلاج التي قضاها، وبعد تحسن حالته الصحية نوعاً ما وأصبح له فرصة أن يباشر عمله، حظيت بشرف اللقاء به، وكان اللقاء لم يتجاوز نصف ساعة، احتفى بي وتهلل وجهه وابتسم محياه طيلة اللقاء، وأثنى على عملي في إعداد «سطور المشاهير» التي أصبح لها ذيوعاً وانتشاراً، قال لي: «أي اقتراح تراه في تطوير صحيفة الرياض ويصب في الارتقاء بها فبادر بعرضه عليّ، مكتبي مفتوح لك». كان منصور العساف قد هاتفني حينما نشرت أول شخصية في الصفحة بعد عدة أيام ناقلاً لي ثناء وإطراء فهد العبد الكريم، وذلك قبل اللقاء به، مما سرني كثيراً وشجعني على مواصلة الإعداد والعناية والاهتمام والبحث والتقصي لأجل أن تكون مفيدة للقراء، بل وتجسد هذا الثناء باللقاء مع الأستاذ فهد لكنه كان للأسف اللقاء الأول والأخير حتى سمعت خبر وفاته. وفهد العبد الكريم أمضى في الصحافة ما يقارب أربعة عقود تقريباً، وكانت بدايته في مجلة الدعوة كما ذكر ذلك الزميل حمد القاضي في مقالته الرثائية عنه، كانت المحطة الصحافية التي برز فيها فهد العبد الكريم هي مجلة اليمامة، حيث نشأ فيها وعاش بين أحضانها وأحبها وتعلق بها وتعلم منها الدروس الصحافية المهنية.أمانة القلم انضم فهد العبد الكريم -رحمه الله- إلى اليمامة وهو لتوّه صحفي صغير يتعلم ممن هم أكبر منه مزاولة الصحافة وفنونها، كان لديه الاستعداد الفطري لأن يتعلم كل جديد ويسأل ويستفهم عما يواجهه أثناء عمله الصحافي، فقد دخل جامعة الصحافة برغبة وحب وعشق لذاتها وليس لتحقيق أغراض في النفس ومكاسب، وعقد العزم أن القلم أمانة كبرى وعظمى، وأن مهنة الصحافة رسالة يجب تأديتها بكل تفانٍ وتسخير كل الإمكانات الذاتية لها، وكل الذين عرفوا شخصية العبد الكريم يعلمون منه هذا الشيء، والذي جعله نصب عينيه منذ أن أمسك القلم الصحافي مشاركاً بمشاركات كتابية. انتسب إلى اليمامة الكثير من الكُتاب والصحافيين، وقد غادرها البعض إلى قنوات أخرى منها المقروء وبعضها المرئي، لكنه آثر البقاء في اليمامة طيلة هذه المدة الطويلة حتى غادرها إلى جريدة «الرياض»، وهو مع ذلك لم ينتقل إلى خارج هذه المؤسسة بل انتقل في محيط دائرتها، وعاصر نخبة من رؤساء التحرير في اليمامة وأفاد منهم خبرة وتجربة ومهارات صحافية ارتقت به إلى أن يكون في أعلى منصب وهو رئاسة تحرير اليمامة. جودة وإتقان وتحدث إدريس الدريس -زميل فهد العبد الكريم وصديقه والكاتب الصحفي الشهير- عن مرحلة انضمام الأستاذ فهد -رحمه الله- إلى صالة تحرير اليمامة في مقالته التي رثى بها شخصيتنا في اليمامة، قائلاً: «بدأت علاقتي بفهد العبد الكريم زميلاً وأخاً وصديقاً لاحقاً عندما كنت مسؤولاً في مجلة اليمامة عن تحرير وإعداد صفحات القراء، وكان الأخ فهد يرسل للمجلة مشاركات كثيرة كغيره من القراء لكن كانت مشاركاته على قدر من الجودة والإتقان وتتميز بمسحة دينية وبُعد ديني عميق، ويذكر الدريس أنه دعا فهد العبد الكريم والصحفي الكاتب عبدالله الصيخان إلى زيارة اليمامة، وفعلاً حضر هو وكلف بعد ذلك بزاوية الفتاوى والقضايا الإسلامية». وقال زميله وصديق الدراسة قصي البدران: «إن الصحافة السعودية فقدت واحداً من المثابرين الذي خاض غمار المهنة بكفاءة وقدرة من خلال مجلة اليمامة في وقت كانت تلعب دوراً رائداً في نشر الوعي شرقاً وغرباً»، مضيفاً: «لقد كان أبو يزيد يؤدي عمله بهدوء ودقة رغم الضجيج اليومي الذي تشهده المجلة في إعداد العدد الأسبوعي التي كانت تتميز به». رؤية شاملة وقال فهد العبد الكريم -رحمه الله- عبر لقاء أجرته معه إحدى الصحف عندما سُئل عن الصحافة: «الصحافة في مجملها وبعيداً عن دورها في الضبط المجتمعي تكشف الحقائق، وتطور في مستويات مختلفة فيما يتعلق بالإصلاح، والتي ليست في مقال أو في تحقيق صحفي، بل في رؤية شاملة تأخذ في اعتبارها مصلحة الوطن والمواطن». والعبد الكريم تعلم على يديه الكثير من الصحفيين سواء كانوا من طلبة التدريب الجامعي أو من الصحفيين المتفرغين وكذلك الهواة، كان -رحمه الله- يوجّه ويعلم هؤلاء بكل أدب وتواضع وسلاسة وطيبة وتعامل راقي، لا يشعرهم بالأستاذية ولا الفوقية، بل يشعرهم بأنه الأخ الأكبر والصديق الناصح، وإذا أخطأ أحدهم تعامل معه بمنتهى الحكمة، بحيث تكون النتيجة هي الاستفادة من هذا الخطأ للوصول إلى مرحلة الصواب، وقبل هذا تعلم منه هؤلاء التلاميذ الخُلق، فالمعلم الماهر الناجح هو الذي يجمع بين العلم والخُلق، وحاز فهد العبد الكريم على هاتين الخصلتين: العلم بالصحافة والأخلاق التي تقطر دماثة وعذوبة ورقة، فإذا كان الخطيب أو الكاتب يسحر الناس ببيانه، فإن العبدالكريم سحر من تعامل معه بأخلاقه، وهذا كما قيل هو السحر الحلال ألا وهو الأخلاق الكريمة التي تميز بها وفاق بها أقرانه وأصدقاءه وزملاءه. والخلق الكريم مع الناس ليس بالأمر السهل ويحسبه بعض الناس هيناً وهو عند الله عظيم لعظم مكانته ومنزلته في ميزان الأعمال عند الله عز وجل، وكما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إن أكثر ما يثقل الموازين تقوى الله وحسن الخلق، ونرجو من الله العلي أن يكون خلقه في ميزان حسناته، والأستاذ فهد لم يكن ذا خلق حسن بل هو من أولئك الذين يسارعون إلى الشفاعات للناس عند المسؤولين، ويبذل شفاعته الحسنة خاصةً إذا كانت حالة المشفوع له حالة مرضية. فهم عميق وكتب قلم الصحافي هاني الحجي كلمات وجمل رثائية، حيث تعلّم من شخصيتنا الكثير من خلال العمل الصحفي، لذلك يقول: «وجدت منه الدعم والمؤازرة فهو الرجل الذي يعمل في الخفاء ويساعدنا بأريحية، كان منتجاً ويعمل بطاقة واقتدار، وكان قادراً على مواجهة الأمواج في بحور الصحافة ومحيطاتها والغوص في أعماقها». ووصف سعود بن فالح الغربي شخصيتنا قائلاً: «يملك الفهم العميق للعمل الصحفي ورسالته الإعلامية ويؤديها بهدوء وأمانة، فكان قائداً حقيقياً في دعم فريقه وتقديم التسهيلات له ويتجنب الصدامات ويحاول ينجز العمل بأقل الاضرار الجانبية التي عادةً ليس له علاقة بها، هو يملك روح الثقة والتفاؤل حتى في أصعب المراحل، ولم يكن رجلاً تسلقياً أو انتهازياً يبني تقدمه المهني أو الوظيفي على إقصاء الآخرين أو الاضرار بهم»، انتهى كلامه. روح التعاون والقائد من أهم صفاته بث روح التعاون بين الفريق الذي يقوده ونشر الألفة، مع زرع التنافس فيما بينهم لأجل الوصول إلى إتقان العمل، وهذا مما عُرف عن فهد العبد الكريم -رحمه الله- دائماً، فكلمات التشجيع على لسانه، رافعاً معنويات الصحافي المبتدئ، وكذا إذا أنجز أحدهم سبقاً صحافياً فإن شخصيتنا يدعم هذا السبق بكل معاني الدعم المعنوي، وإذا وصف أحداً بأنه إنسان فشخصيتنا هو ذلك الإنسان الذي حباه الله الخلق القويم وطهارة النفس وطيب الكلام وطلاقة الوجه. وتحدث سعود القحطاني عن جانب فهد العبد الكريم الخلقي قائلاً: «الأستاذ فهد -رحمه الله- كان شخصية مُحببة لكل من كان قريباً منه، سواء على مستوى العمل أو الصداقة، كان عنصر جذب عاطفي نادراً ما تجده لدى كثير ممن يجلسون على الكراسي القيادية، وأتذكر وأنا أخطو خطواتي الأولى في الصحافة قبل 17 عاماً كمحرر في مجلة اليمامة وكان مديراً للتحرير فيها، كنت أجد نفسي عنده كابن مدلل في تعامله معي ومع زملائي الشباب، بل إنه عندما يصدر مني خطأ أو تجاوز لا يعاتبني بقدر ما يهوّن علي من الأمر، ويحاول المزاح معي بما يشعرني فيه بحب العمل والنظر لمستقبل أفضل». رجل استثنائي وذكر الصحافي حسين القحطاني عن فهد العبد الكريم -رحمه الله- هذا الأمر المهم في حياة شخصيتنا، والذي عمل من أجله طيلة حياته قائلاً: «بوفاته فقدنا قلباً يطوقه الحب والطيبة، قلباً يغمره الأمل والتفاؤل ويسكنه الوفاء، قلباً لم يغيره المنصب بل ظل كما عرفناه، كان أبو يزيد رجلاً مخلصاً لوطنه ولرسالته وقد تميز بالمعرفة والتواضع وحسن الخلق، وكان مثالاً وقدوة يحتذى بها، وسيظل نوراً يشع في سماء الصحافة، وشعاعاً يضيء الطريق بصدقه ووفائه وأمانته ونزاهته واحترامه لنفسه وللآخرين». وتحدثت الإعلامية فداء البديوي -صانعة محتوى رقمي في مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني عن شخصيتنا قائلةً: «كان رجلاً استثنائياً في شخصه ومهنيته وإنسانيته ورقيه، عرفته مسؤولاً ومعلماً منذ بداياتي الصحافية، منحني الثقة وتوسم بي في المهنية التي غذّاها بثقته وتوجيهاته ودعمه وتحفيزه غير المنتهي، أتاح لي ولزميلاتي مساحات للإبداع الصحافي حتى عندما أردت الانتقال من الصحافة الأسبوعية إلى الصحافة اليومية لم يبخل بمشورته الصائبة، شجعني وواصل دعمه لي، كان حاضراً من بعيد في كل عمل ينجح وينتشر صداه، فأجده مبادراً بالتهنئة والتشجيع؛ لأنه يدرك أهمية الدعم المهني للشباب من قامة مثله، حتى وإن كان مسؤولاً في وسيلة إعلامية أخرى، لم نقصده في أمر إلاّ وكان داعماً منصفاً ووفياً لن نفيه حقه أبداً». أبو يزيد كان ومازال نِعم الرجل في حياته وبعد وفاته، وهذه سطور كتبها محبوه وتلامذته وأصدقاؤه، أحسبها خرجت من القلب في شخصيتنا حينما رحل عن دنيانا، وكانت هذه الكلمات تجسيداً لشخصيتنا التي اتسمت بالأستاذية في الصحافة والريادة، مع الخلق الراقي الكريم والتعامل السامي، فرحمة الله عليه وأكرمه بالفردوس الأعلى. تكريم يؤكد محبة الإعلاميين له الصحافة السعودية فقدت واحداً من المثابرين فهد العبد الكريم امتلك فهماً عميقاً للعمل الصحافي فهد العبد الكريم بعد عودته من رحلة العلاج تميزت كتاباته في بداياته الصحافية بالجودة والإتقان العبد الكريم في إحدى المناسبات ويظهر رئيس التحرير هاني وفا