تأسس «السينتوجرافي» على دراسة وتحليل علاقة (الإنسان، الفنان، المتلقي) وأماكنه داخل الفضاء المسرحي، مع عناصر ثانوية مرتبطة مثل الملابس والخلفيات المعمارية، وتوزيع الإضاءة وإيماءات الممثل، لتهدف السينوغرافيا إلى تطويع حركة الفنون البصرية بما تتضمنه من فنون المعمار والمنظر والأزياء المسرحية وطرق توظيفها في الفضاء المسرحي، ومدى ترابطه مع الكلمة والعبارة والمونولوج والديالوج والحوار ودراما العمل، لإضفاء معنى على هذا الفضاء وتحقيق أهداف العرض. ليسهم استلهام الرؤية السينتوجرافية على تخصيب مدخلات العمل المفاهيمية والبنائية، والاستعانة بالإشارات الاستعارية والكنائية كامتداد مذهبي أثر في تغيير الهيئة التعبيرية والمفاهيمية للعمل، وتبديل موضوعاته وأسلوبيته التقنية، ودعم أيديولوجياته، وتدشين مدخلات مفاهيمية ترتكز على إعلاء النزعة الشاعرية، فيتم تنظيم المحسوس باللغة التي تتوافق مع ما ينبغى التعبير عنه في صورة مجموعة من الألوان والمساحات، ليعبر الفنان عن شعوره نحو الناس والأشياء الأخرى بالطريقة التي تعبر بها الموسيقى، باستخدام البدائل المجردة، فيترجم عواطفه وانطباعاته بألوان وأشكال مقصودة لمغزاها لا لما فيها من محاكاة. وارتكن عدد من تجارب «عبدالله إدريس» في توجهها المفاهيمي لمنظور البعد السينتوجرافي، واستلهام القيم البصرية في المسرح، وتوزيع الشخوص الرئيسية في دقة وبراعة تعبيراً عن الخفة والرشاقة، ثم ترتيب «الكورس»، وتحول البعد الثالث إلى بعد «سيكولوجي» أكثر منه بعداً بصرياً، فأتت أعماله لتقترب عناصرها وحركتها داخل الفراغ التصويري لتصبح شديدة الشبه بالتصميمات المسرحية، لشحذ القريحة الإبداعية واستحداث مدخلات تستعرض الرسائل بشكل مخالف، وتنقب عن زوايا محورية تبلور التجربة المفاهيمية للفنان. حيث دأب «إدريس» على تقديم عدد من التجارب الفنية التي تتجه ناحية النزعة اللاموضوعية، والاستخدام الخالص للشكل واللون، لتقترب العناصر وحركتها داخل الفراغ بالتصاميم السينتوجرافية المسرحية، وتوزيع الشخوص الرئيسية في المقدمة بحجم كبير (وضع البناء في صدارة العمل) منفردة أو في جماعات أو داخل متتاليات أمام خلفيات خاصة لتوجيه حركة العين على السطح وفق أولويات بصرية وتعبيرية وكأنها حقائق مادية لا يمكن إختزالها، وتنحصر دلالاتها في تأكيد حقيقة وجودها المادي البحت فقط، تبعاً لقوة تأثير اتجاهات الخطوط والعناصر، وتحقيق نوع من العمق الديناميكي الفاعل. فاتسمت عناصر «إدريس» بحركة دؤوبة وتلميحات تراثية ومستقبلية في آن واحد، وشخوص محلقة حالمة تنفرد بالمناطق الأمامية للعمل وتحتل صدارته التشكيلية، تليها في الخلفية الفراغية والتي استدعى خلالها تنويعات تتدرج من المستويات التقنية إلى المستويات السردية إلى المستويات الدلالية واستحضار أنساق بصرية من طبيعة سينتوجرافية تدشن حواراً وجدانياً بين (الجمهور والفنان). وثمة بعد سينتوجرافي آخر يمثل أحد أركان القدرة الإبداعية، وهو «الإضاءة المسرحية» التي تكثف التباين الضوئي واللوني في أعماله، فإمعاناً في أن أهمية الفنان لا تنحصر فى تسجيل ما يراه فقط وإنما تلحين بنائياته كما يفعل الموسيقي مع عبارات الأغنية التي يعيد صياغتها من جديد في قالب فني، قام «أدريس» باستلهام وتوظيف ذلك البعد من خلال عدة زوايا وطرق أسلوبية متنوعة، كالاستعانة بالإضاءات القوية ذات الدرجات اللونية المتعددة المنعكسة على وجوه وأجساد الشخصيات، حتى بدت أعماله وكأنها غارقة في النور. فلم تقتصر شخوصه على توزيع مناطق الإضاءة والإعتام بغرض تجسيمها، وإنما اكتست بتمويهات لونية، وكأن هذه الإضاءات قد تابعت تحركاتها وعكست تلك التفصيليات فوق تضاريسها المصقولة بشكل يتسق ويؤكد حركاتها الإيقاعية، وتطويع تلك الإضاءات لتحدث نوعاً من التعضيد للعناصر البنائية المرسومة، مع التعبير عن الاستدارة والتجسيم والحركة، وشحن تلك العناصر بعواطفه وانفعالاته، لتفجير شعور خاص يدشن صدى بصرياً يعلق في الأذهان ويترك الأثر النفسي والوجداني بشكل صيروي، وأحياناً ما تتوارى هذه المعالجات والحلول ذات البلاغة البصرية التلقائية إلى الخلفية لتصبح وراء هذه المفردات كأحد الحلول الفراغية التي تبرز الشكل وتؤكده. ولم يطرح الفنان تراكيبه مباشرة على السطح، بل جاءت عبر تقدم مساحي لتبدو وكأنها معلقة على مسافة ما مع بعضها البعض ومع فراغها الغامض الذي يكتنفها، وحتى يحصل على أقصى درجات الفعل الحركي من خلال فاعلية تخليق البقع وتوتراتها على السطح، لمتتابعات صورية من أشكال لشخوص وحيوانات وطيور من عوالم أخرى، واستطالات في أجساد الشخوص تهيم سابحة محلقة واقفة راسخة داخل أزمنة مطلسمة غير محددة المعالم، مع تقسيمات رأسية في الخلفية لتحصر مساحات، ونوافذ تطل على عوالم خاصة، ليجد المشاهد نفسه كالواقف أمام زوايا مختلفة من الحدث، والارتكال للتبقيعية والخطوط الإفعوانية ذات الإيقاعات الموسيقية الصداحة مندمجين معاً في تكوين واحد ليعبرا عن ما يشبه تدفق الحمم البركانية، والحصول على أقصى درجات الفعل الحركي من خلال فاعلية تخليق البقع وتوتراتها على السطح، والألوان المتباينة الصاخبة، ذلك التوجه نحو التمرد التجريبي الذي يهدف إلى إثراء العلاقات البصرية عبر إمكانات الخامة كوسيط تعبيري، وشاحذ قوي في إلهاب خيال الفنان وتعبيره المتحرر دونما قيود أو مراقبة عقلانية. * الأستاذ في كلية التصاميم والفنون المساعد - جامعة أم القرى عبدالله إدريس.. ألوان وأشكال تترجم العواطف والانفعالات