لا يكون صاحب القلم كاتباً سياسياً لمجرّد إلمامه بالعلاقات الدولية، بل يجب عليه مع ذلك أن يكون لديه تصوّر صحيح لطبيعة عمل السياسة الدولية، وهذه من الأمور التي انتقد فيها جون ميرشايمر زميله أليكس وندت. لكنني الآن لست بصدد الحديث عن هذا الشأن، أعني: الخلاف بين ميرشايمر ووندت، الذي يمكن لأي متابع للجدل السياسي الدائر حول أوكرانيا أن يطّلع عليه، بل سأعود إلى محيطي القريب، لأتحدّث عن كاتب سياسيّ أزعم أنه يفهم العلاقات الدولية، ويفهم في الوقت نفسه طبيعة عمل السياسة الدولية، وهو الدكتور علي الخشيبان. وقد طبعت المجلة العربية كتاباً للخشيبان بعنوان «الخطاب المزدوج في سوسيولوجيا الإرهاب»، تضمّن مقدّمةً، وثلاثة فصول، وخاتمة، وحاول أن يمزج فيه بين إلمامه بالعلاقات الدولية ومعرفته بطريقة التجاذب السياسي في العالم، ونقَد التطرف والإرهاب في العالم الإسلامي من وجهة نظر اجتماعية، وغاص بقلمه إلى جذور الخلل الكامن في الوعي السياسي الإسلاموي. كان الخشيبان، كما حدّثني شخصياً، وكما قرأت في كتابه قبل ذلك، موجوداً في الولاياتالمتحدة عندما وقعَت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وقد انتابه ما ينتاب أقرانه من القلق في مثل هذه الظروف، ويروي أن امرأة تدعى «نانسي» كانت صديقة لعائلته، وقد قدّمت لهم كل ما في وسعها من أجل رفع الإحساس عنهم بالغربة في هذا الكرب العظيم، وبخاصة عندما بدأت الأنظار تتّجه إلى المسلمين، بعدما تبنّت القاعدة الهجمات، ووضعت المسلمين في أميركا في موقف محرج، وفقاً لنظريّة ابن لادن في «الفسطاطين». كان ابن لادن وأتباعه غافلين عن طبيعة العلاقات الدولية وكيفية عمل السياسة؛ ولذلك خُيِّل إليهم أن هذه الهجمات سوف تقسم العالم إلى فسطاطين، فسطاط حقّ وفسطاط باطل، وسوف تتداعى الأمم وتقتتل في الشام، وبذلك تتحقق الملحمة الكبرى الموعودة بين يدي الساعة، ويخرج المهدي، وينزل المسيح، ويقتل الدجّال. بيد أنّ ما حدث هو أن هذه الهجمات وما قبلها وما بعدها من خطاب إرهابي قاصر في الوعي وفي قراءة الواقع والمستقبل، إنما أدت إلى نهاية القاعدة في شتى أنحاء العالم، واعتراف المجتمع الدولي كله بأنها تنظيم إرهابي، بعدما كانت المملكة العربية السعودية هي وحدها تقريباً من يؤكد ذلك؛ فقد كانت السعودية تسميهم إرهابيين، كما ظل يؤكد ذلك الأمير بندر بن سلطان، وبقية العالم تسمّيهم معارضين منشقّين، حتى وقعت الكارثة، وأفاق الغافلون، وعادت المملكة تذكّر حلفاءها وأصدقاءها الإستراتيجيين بأنها كانت تسمّي هؤلاء إرهابيين، وأنّ الغرب لم يكن يصدّقها حتى ظهرت الحقيقة. ويؤكد الخشيبان في كتابه أن «ماجريّات» العقود الماضية أثبتت أن مجتمعات منطقتنا لم تصل إلى مرحلة النضج السياسي بشكل مقبول، وأن النضج الاجتماعي والاقتصادي لم يكن حاضراً بشكله العمَلي على مدى تاريخنا إلا نادراً، خصوصاً عندما كانت الأمم العربية والإسلامية تحقِّق الانتصارات العسكرية، وظلت أطياف كبيرة من المجتمعات تظنّ أن القوّة والتهافت على الموت هما ما حقّق للمسلمين تفوّقهم العسكري وتقدّمهم الحضاري في الماضي. لقد تعرّض النضج الفكري عند العرب والمسلمين للمشكلة نفسها التي تعرّض لها النضج السياسي، ولم يستطع النضج الاجتماعي أن يخرج بهم من أزمات التكوين القبَلي، الذي عزّز عصبيّات العرق والطائفة والإقليم، وصار بعض المسلمين يفكّرون في أنّ معضلة المسلمين الحضارية، سواء أكان ذلك في العلاقات الدولية، أم في العمل السياسي، إنما جاءت من أن المسلمين لا يستطيعون غزو بلدان العالم وفتحها أو فرض الجزية عليها! ولهذا أضحى بعض المنظّرين الإسلامويين يظنّون أنّ مشكلة المسلمين هي أنهم لا يملكون استعدادات عسكرية ضاربة، أو أنهم، في النهاية، لا يمتلكون السلاح النووي، وتلك هي البؤرة التي يلتقي فيها التصوران المتطرّفان المنسوبان إلى الإسلام في عالم اليوم، وهما: أدبيّات القاعدة وداعش من جهة، ونظرية ولاية الفقيه الخمينية من جهة أخرى. وكلاهما تصوّران لا يملك أيّ منهما مقوّمات البقاء، غير أن أحدهما، وهو القاعدة وداعش، يسارع دائماً إلى إحراق نفسه كعود ثقاب، على حين يحترق الآخر ويذوي ويسيل ببطء شديد، كقالب مصنوع من الشمع. وبهذا يصل الخشيبان إلى أن البناء الفكري الذي يتمتع به المسلمون حالياً لا يخدمهم، بل يُسهم في تشكيل فهم مزدوج غير دقيق، فهم غير دقيق لرسالة الإسلام في التعامل مع الأمم الأخرى، وفهم غير دقيق للواقع السياسي المعاصر. د. علي الخشيبان جون ميرشايمر