الميل من قبل الشعراء مؤخراً إلى تقديم الفكرة والبوح بأقل كلمات و أبيات وأقصر مدة وأقل العبارات، بدأ مع سباق تحدوه الرغبة من قبل الشعراء أنفسهم غير مفروض عليهم، في تنافس للوصول إلى المتلقي بأكبر عدد من مرات الحضور والإطلالات، حتى ولو كان بأقل عدد من الأبيات. ويبدو أن دائرة الضوء تجذبهم، ومن تجذبه دائرة الضوء فقد يحترق، حتى إن القصيدة التي تستحق أن يقال عنها قصيدة، تكاد تختفي، مع هذا الاختصار والتقزيم والتلاشي والكم والتدفق، والذي يعلو هو صوت التغريد وإن وجد فهي قصيدة يتيمة وغريبة، أو قصيدة جاءت من عصر سابق استجلبت منه للحضور تشريفاً. ما نفتقده اليوم هو المساحة الواسعة التي تستقبل العطاء بلا حدود، وما نعاني منه هو طغيان النوافذ التي لا تلائم سوى الأبيات المختصرة، والتغريد اللذين لا يرويان عطشاً ولا يبنيان ثقافة، وأخشى أن يكون ذلك مما يقضي على الإبداع. فالشعر ليس بيتاً يلمع كالبرق ثم يختفي، أو تغريداً قصير النفس لا تكاد ترى ملامحه حتى يغيب في أفق النسيان. الشعر سبك وحبك وبيان وبلاغة وصور فنية وجماليات وأسلوب ونظم، وعمق خيال، يمنحه طول القصيدة وإبحار الشاعر في مسافة من فضاءات التعبير فرصة الإبداع، ولا يحقق ذلك تغريد قصير، محجم بعدد حروف وحيز ضيق، حتى صار إشارات موجزة مبتورة أحياناً من خيال الشاعر إلى حد ضحالة ذلك الخيال. نعم نحن نقول هذا بيت عن قصيدة، ينوب عن عدد من الأبيات لجماله وتمامه، وربما سايرنا هذا القول بتعبير آخر، فنقول قصيدة عبر عنها بيت القصيد الواحد، باعتبار هذا البيت ضم كل معاني القصيدة وما أراد الشاعر الوصول إليه وأوجز الفكرة، أو أنه تضمن معاني فريدة غابت بعده ملامح الأبيات الأخرى مع وهج مضامينه. بيت القصيد لا يعني أنه قصيدة ولا يغنينا عن الأخيلة والصور الفنية والجماليات حتى ولو كان غاية في الجمال والتمام. وفي مقابل القصائد الطويلة والمتوسطة جاء ما يسمى التغريد، وهو فكرة جديدة لا يوجد في الماضي ما يماثلها، تغريد يحاكي تغريد العصافير في تقديم الجميل في صوت هادئ قليل المدة، ليس بالطويل الممل في عصر السرعة. فهل هذا التغريد بعدد محدود وحروف معدودة يحقق ما تحققه القصيدة الطويلة التي جعل الشاعر من براحها ومدها وطول النفس فيها ميداناً لتقديم موهبته الشعرية وقدرته اللغوية وبراعته في التصوير وتقديم ثقافته وخبراته؟ إن لطول القصيدة دلالة على قدرة، ومجالاً لإشباع الفكرة ومنافسة الشاعر بها غيره، بينما التغريد يتقارب الشعراء في تغريدهم فعملاقهم لا يبتعد كثيراً عن المبتدئ حيث محدودية النفس وضيق المساحة والمجال. يقول الشاعر غزاي نومان الحربي، معبراً في قصيدة عن الدنيا والمعاناة: لاضاق صدرك عالي الصوت جره لو كان قلبك ما يطاوعك مسرور دنياك لو تسوى من الحِزن ذرّه ما كان تاليها توابيت وقبور وما كان للكافر بعمره مسرة وما شفت في ملكه ملايين وقصور العمر يمضي بين حلوه ومره والموت حق وقابض الروح مأمور دام الحياة الفانية مستقرة ورزقك يجيك وبين الأجواد مستور لا تنشغل بالوقت برده وحره واحذر تصير بقسمة الناس مقهور وحكم القدر لاجاك خيره وشره واشكر عظيم الشان والذنب مغفور والمجلس اللي يزعجك لا تمره خله تراك بشوفته ماانت مجبور والرجل سقها في صحاصيح بره ومد النظر مابين ريضان وزهور لا صار وجه القاع ما فيه جرة و المشي حافي والثرى تو ممطور ساعات صمتٍ ما وراها مضرة تسوى الكلام اللي به ذنوب وشرور أطلق خيالك وأترك النفس حرة وخل الطبيعة في حياتك لها دور وبالليل لا بانت نجوم المجّرة أذكر بديع الخلق بِإحساس وشعور واسجد لرب الكُون مرة ومرة واحفظ لسانك واترك الكذب والزور وفروض ربك خلها مستمرة وطاعتك لا يدخل بها نقص وقصور الشعر ليس بيتاً يلمع كالبرق في تغريدة