لم تكن العلوم في منازعها البينية مقتصرة على تواشج الإنساني والعلمي، أو الأدبي والفلسفي، بل وجدنا ذلك أيضاً في العلوم الإنسانية المتواصلة فيما بينها، فهناك علائق مهمة تجمع الأدب بالانثربولوجيا، والسيسيولوجيا، والابستمولوجيا ونحوها، غير أن الجغرافيا الأدبية لم تحظ -للأسف- بانتشار كبير، سوى ما كان عند حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس -رحمهما الله-، ونزر قليل من بعض البلدانيين. ويعد أستاذنا القدير الدكتور عبد العزيز بن محمد الفيصل -حفظه الله- رائداً من أهم النقاد الذين حملوا راية الاهتمام بهذا المجال، وشيخنا -رعاه الله- اسم مهم في خارطة أدبنا السعودي والعربي، يذكرني -في خطه التأليفي أحياناً- بالروسي (كراتشكوفسكي 1951م)، وبخاصة عندما يعقد بين الأدب والجغرافيا والتاريخ بخيط (التفكير البيني)، وقد بدا ذلك جلياً في مؤلفاته المعمقة حول شعر الشخصيات، والقبائل، والأمكنة، ك(شعراء بني قشير) و(شعراء بني عقيل) و(شعر بني عبس) و(ديوان الصمة القشيري) و(الأدب العربي وتاريخه) و(عودة سدير) وغيرها. وقد حظيتُ بشرف الدراسة على يديه، وكان كتابه (المعلقات العشر) من أمتع وأيسر وأحدث ما قرأته في شروح المعلقات، وزاد من قيمته الأدبية و(البينية) أنه كان يسترسل في أثناء المحاضرة حين يقف على مكان، أو يمر بجبل، أو موضع، فنعيش معه (بانوراما) المكان، وجمالياته. فكان حريصاً على أن يرسم الصورة الدقيقة للمكان، كحديثه لنا عن مسقط رأس الأعشى، و(عالية نجد)، وتفصيله الجميل لجبل (حضن) و(طويق) وغيرهما. وكانت له رؤيته النقدية في استعراض المكان، وما آل إليه اليوم، كقوله عن الحيرة: "مدينة في جنوبي العراق، وهي قاعدة مُلك النعمان، والحيرة اليوم (1421ه) جزء من النجف.."؛ وكنت ذات يوم أعلّق معه في المحاضرة، فلما مررنا ب(طخفة) و(نفي) قال: "وطخفة هي المكان الذي حصلت فيه المعارك بين خالد بن الوليد، ومالك بن نويرة"، كما كان مهتما بالتحديد الجغرافي والإداري، كقوله عن (فيد): "قرية قديمة، وهي باقية على حالها في وقتنا الحاضر، وتقع شرقي جبل سلمى، منقطعة عنه، وهي تابعة اليوم لإمارة حائل في شمالي المملكة العربية السعودية، وتبعد عن حائل بأكثر من مئة ميل". والحق أنني لم أجد من كان يتعرض للمكان بهذه الدقة، يفصّل فيه تفصيل النقاد والجغرافيين، والمؤرخين إلا نادراً، حتى أولئك الذين تعمقوا في دراسة جماليات المكان اليوم في الحقل السردي هم في الحقيقة لم يصلوا إلى مثل هذا العمق.