طالما كانت الأغنية حالة إلهام ورافدًا لنقل ثقافة الشعوب إلى آفاق وأقطار بعيدة، كغيرها من الفنون التي تجمع تخصصات الأدب والابتكار والإبداع، كل هذه الخطوط التي يجمعها فن الغناء في غالب الأحيان عندما ساهمت في مداعبة العقل والروح والوجدان لكنها كانت أحايين كثيرة بلا هوية.!، قد تعود إلى أسباب عدة، أهمها أساليب صناعتها. يقول آخرون: إن الأغنية هي ذاتها لم تتغير في الأساس، لكن هناك عوامل "نهشت" في أساساتها واخترقت قيمتها وبالتالي هو أمرُ خطير ساهم في إفسادها ذوقياً، وما اختفاء الأعمال المنتجة بسرعة البرق عن المسمع إلا مؤشر على الحالة وأن واقع الأغنية تردى، بينما آخرون يرونها تميزت في الفترة الأخيرة كون الفنانين يستفيدون من التطور التكنلوجي والتوزيع الموسيقي وقدرة التسويق في مواقع التواصل الاجتماعي. الأعمال الحالية لا ترضي الأذواق.. يقول الكاتب والصحافي عثمان الشلاش: إن الأغنية الحالية فقدت هيبتها ولا ترضي الذوق في المنطقة والمستوى العربي، فقد لوثت بما يسمي "بالشيلات" والأجواء الفنية الجميلة والتي أسسها كبار العمالقة أمثال أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفيروز وملحم بركات وإلياس خضر وطلال مداح ومحمد سندي وفوزي محسون ومحمد عبده وعبدالكريم عبدالقادر ورباب وعوض الدوخي ومحمد زويد، هم ذاتهم الجيل الذي أثرى الساحة الفنية بالكلمة المعبرة واللحن العذب، الذي لم يعد موجودًا بسبب "اختلاط الحابل بالنابل". ومن هنا بدأت تتغير المفاهيم وأصبح جيل الشباب يسمع الأغنية ب"الأرجل" ويدعم أصوات النشاز بما يسمي بالمنشدين، وهو ما يعني أن الساحة الفنية أصبحت خالية بسبب أن بعض الفنانين من هذا الجيل يسيرون على موجه"الغثاء/الشيلات"، رغم وجود جيل جديد من الفنانين المميزين. الأمثلة كثيرة على جودة الغناء كما يقول الشلاش، عندما تذهب إلى عاصمة الفن القاهرة وتسير في الشوارع فى الصباح المبكر وتسمع صوت العمالقة، هناك تشعر بنشوة الجمال أن ينطلق يومك في سماع أغانٍ مازالت تتصدر المشهد الفني، تخيل أن أغنية فنان العرب "ابعاد كُنتُم" رغم أنه مضى عليها أكثر من أربعين عاماً، إلا أنها مازلت تردد وكأنه غناها قبل أيّام معدودة.!، هل يستطيع الجيل الحالي أن ينجب أغنية كرائعة صوت الأرض "لاتقول خل العيون عنك".. صعب جداً، حتى على مستوى الفن الشعبي في الوطن العربي مازالت أغاني الفنانين الشعبيين رغم بساطتها تردد وتجد رواجاً بل أن بعض فناني الجيل الحالي أصبحوا يرددونها نأخذ أحمد عدوية والذي يستمد أعماله من واقع الحياة اليومية، كمثل أغاني بشير شنان وبن سعيد وعيسي الأحسائي والجيل الذي أتى بعدهم مزعل فرحان وسعد جمعة وبدر الحبيش التي تردد حتى الآن. أغاني خالدة بقيت في الذاكرة لجودتها ولأنها خرجت من معاناة شركاء العمل الشاعر والملحن والفنان، ومن وجهة نظري إن الفن أصيب"بعقم" ولم يعد ينجب مبدعين. الأغنية الحالية لها بعد آخر وتتميز عن السابق.. بينما يرى الفنان خالد راشد عكس ذلك، حيث إن الأغنية الحالية وكل من يمثلها من عناصر وإخراج موسيقي "التوزيع" أعطاها بعداً آخر، وصارت أجمل من ناحية الجودة "الكوالتي"، ويرى أن الأصوات الحالية مبهرة، إذا ما عرفنا أن ثقافة الصوت في الأداء تميزت بشكل احترافي، ثم لا ننسى أن دور الكلمة هي القوة التي لم تتغير بل زادت جمالاً ومواكبة لعصرنا الحالي. يقول خالد راشد: إن كل هذه الجودة لا تمنع أن هناك اغاني تافهة ولا ترتكز على أي عنصر من العناصر الإبداعية، بل أغاني "تسالي" ورقص وتضييع الوقت، مبيناً أن الأغنية الحالية هي امتداد من الأعمال القديمة التي "لها مالها وعليها ما عليها" وهي المنبع والإساس الذي استمدت منها الأغنية الحالية كل مقوماتها لكن الفرق هو الجودة الحالية في التقنيات الحديثة التي صاحبت وقتنا الحالي، ويرى خالد راشد أن الرجوع لسماع الأغنية القديمة هو مجرد ذكرى لكل عمر واكبها مجرد حنين وتذكر فقط، مع وجود أغانٍ خالدة وقمة الجمال لكن كل عصر وله وقته وتقنياته ومتطلباته فأعتقد أننا نسير في الطريق الصحيح بالنسبة لجودة الأغنية وأصبحت أكثر متعة وإبهاراً من السابق. الأغنية الحالية فارغة المحتوى.. بينما يقول الإعلامي السعودي سلمان العصيمي: إن واقع الأغنية الحالية لايمكن أن يلبي حاجة المستمع "الذوّيق" كونها فارغة من حيث المحتوى، وهي أقرب لأن تكون "صفقة" من أن تكون أغنية، بمعنى أنها صفقة مصالح متبادلة بين ثلاثة أطراف "شاعر، ملحن، فنان" كما يرى بأن الشاعر المُنتج ساهم في إنحدار الأغنية بشكل كبير، وغير صحيح مايردده بعض الفنانين بأن مايُقدّم من أعمال في السنوات الأخيرة هو مايتناسب مع ذوق المستمع في هذا الزمن، لاسيما في زمن السرعة، ومن بين هؤلاء الذين يرددون مثل هذه الكذبة الفنان عبدالمجيد عبدالله.!، وقد سقطت هذه الكذبة وانكشف قناعها عندما قدم الفنان راشد الماجد أغنية "المسافر" وقدم محمد عبده أغنية "الأماكن" حيث حققت هاتان الاغنيتان نجاحاً باهراً وانتشرت كانتشار النار في الهشيم، بل حتى لو تأملنا في برامج المسابقات التي تُقدّم حالياً لوجدنا بأن كثيراً من المتسابقين الشباب بل وحتى الأطفال يشاركون بأعمال قديمة لعبدالحليم وأم كلثوم ونجاة وطلال إلخ.!، وهذا يدل على إحساسهم بتلك الأعمال لما فيها من قيمة فنية عالية المستوى من حيث الكلمة واللحن، وهذا لأن الفنان سابقاً كان يقاتل من أجل الحصول على كلمة جميلة سهلة ذات مضمون جميل ورسالة واضحة وتخاطب جميع الشرائح، بالإضافة للحن المناسب الذي يتهادى لأذن المستمع بكل سلاسة، بعيداً عن التكلف في الإنتاج وطول فترة التحضير. الإثبات خير وسيلة للإقناع، كما يعتقد العصيمي، عندما قال لكم أن تتخيلوا بأن الأغنية الخالدة "ليلة خميس" تم إنجازها في دقائق، ولم تحقق هذا النجاح الكبير إلا لأنها احتوت على كل عناصر النجاح. حالياً لا يوجد نموذج متكامل للأغنية.. بينما يرى الفنان بسَّام السلامة أن الأغنية طالما كانت من مجالات التعبير، والمتلقي يبحث دائماً عن مستوى التعبير الذي يناسب ذوقه وحاجاته، وهذه الرؤية تفسر التفاوت في الحكم على نجاح العمل عند الجمهور، كون الاختلاف في الذائقة يأتي بحسب البيئة والثقافة أيضاً. يقول بسام سلامة أن في البلدان التي لديها جانب أكاديمي، يكون الاهتمام ومستوى القياس من خلال النغم مثال "اغنيات صباح فخري في الشام والاغنيات المشابهة في مصر والعراق وحتى الكويت"، وفي البلدان غير الأكاديمية يتجة القياس لمستوى الكلمة كما في السعودية واليمن والامارات، وبالتالي يكون الأنموذج المتكامل هو الصورة المثالية مثل "ليلة خميس، تصدق وإلا أحلفلك، قالوا ترى...إلخ"، وبسبب ابتعاد كثير من الفنانين عن هذه النماذج المتكاملة في سبيل تحقيق الربح المادي من الشعراء، فقد افتقد الكثيرون هذه الأغنية الإبداعية.!، وبحثوا عن صِيغ تعبيرية أخرى تهتم بجانب الكلمة مما أدى لانتشار فن "الشيلات" بشكل غير متوقّع!؟، وبالتالي انخفض مستوى الأغنية ولم تعد كالسابق. لو بدلنا زمن الفنانين سيفشلون جميعاً.. وتعتقد الإعلامية فاطمة سعيد أن لكل زمن لونه الخاص وطريقته بالتعبير، منها الأغنية الحالية التي ترى فيها من الجمال والروح التي يأنس بها شباب هذا الجيل، بغض النظر عن مستوى الكلمات أو الألحان في بعض الأغاني، وبذلك اختار صناع الأغنية الكلمات على نمط ألحان الجيل الجديد وبرعوا في ذلك أمثال الفنان حسين الجسمي ورابح صقر، فقد لاحظنا اختلاف أغانيهم من عهد التسعينات إلى اليوم، كون هذه الأغنية تلبي الحاجة في ذوق الجيل الحديث، وهي التي تختلف في جرئتها وطرحها عن الأجيال السابقة الذين مازالوا يستمتعون بأغانيهم القديمة لتميزها نغمة وحرفاً عن الأغاني الحالية. وتستمد مكانتها من جمال الكلمة مع تناغم جرسها بالألحان كأغاني فيروز التي مازلنا نستمتع بأغانيها كل صباح لهدوئها وإحساسها بعيدة عن الصخب و"القعقعة" التي نسمعها بالأغنية الحالية. وتعلق فاطمة على هذا الاختلاف أن لو قدم الفنانون الكبار أغنية ما بسياق الأغنية القديمة فإنها لا تنجح وكذلك الأغنية الحالية لو كانت بالزمن الماضي ستفشل، لذا فإن كل زمن له جمالياته وأنغامه. الأغنية الحالية استعراضية وإثارة إلكترونية.. ويبرهن الفنان فيصل العمري أن الأغنية الحالية "غالبها" استعراضي أكثر من كونها أغنية تداعب العقل والروح والوجدان. وقال إن أبعد ما ينظر إليه صانعوها - باستثناء أسماء معينة - إثارة أرقام إلكترونية فقط، أو إثارة جدل ولغط يحسبونه انتصاراً للأغنية، وهو بعيد عن ذلك، ويرى العمري أن الإنتاج الحالي مدته الزمنية لا تتعدى شهراً ونصف الشهر ثم تختفي. بينما يضيف فيصل العمري أن طريقة توزيع الأغنية موسيقياً تعتبر مستوردة لاتمتّ لموسيقانا وآلاتنا بأي صلة والحجة كما يعتقدون تطوير للأغنية، ويعني أن التطوير هو الإضافة إلى الأساس وليس استيراد ونقل قوالب موسيقية من العالم وإلغاء الهوية. لذلك الأغنية الحالية ربما لا تلبي الأذواق في الغالب. أما لماذا يعود الناس للقديم.!، فاستحضر كلمة ذكرها الفنان القدير حسن دردير "مشقاص" في إحدى ليالية تكريمه، عندما قال: الفرق بيننا وبينكم - يقصد الجيل الحالي - أنه رغم إمكاناتنا الأقل إلا أننا كنّا نعمل لأجل أن يبقى طول الزمن ولَم نكن نعمله لنحقق نجاحاً وقتياً قصيراً وهذا سر بقاء أعمال الرواد وفناء أغلب الأعمال الحالية. ويؤكد العمري أن توزيع الأغنية القديمة يعتمد على آلات النفخ والوتريات الحقيقية التي تجعلها أقرب للروح من كل الأصوات الإلكترونية المستحدثة التي لاتتمتع بذات العمق. سلمان العصيمي: الأغاني الحالية «صفقات» متبادلة بين ثلاثة أطراف بسام سلامة: الاختلاف في الذائقة الفنية بحسب البيئة والثقافة عثمان الشلاش: الساحة الفنية خالية والجيل الحالي يسير على موجة «الغثاء» خالد راشد: يسمعون الأغاني القديمة لأنها تذكرهم بمرحلة عمرية فقط.! Your browser does not support the video tag.
