في عام 2010 زرتُ آخر محل فيديو في حي المربع بالرياض، كان صاحبه العجوز يجلس يائساً أمام أشرطة "الأفلام" التي عرضها للبيع بتخفيض كبير وصل إلى تسعين بالمئة من قيمتها الأصلية؛ سألته عن سبب هذه التصفية الكبيرة فأجاب بنبرة حزينة: لم يعد هناك زبائن.. لا أدري أين اختفوا!. يمتلك هذا العجوز واحداً من أكبر محلات الفيديو في سوق السينما بالرياض، المجاورة لسوق السمك بحي المربع، والتي كانت سوقاً سينمائية عامرة تموج بالزبائن في سبعينيات القرن الماضي، كان أهل الرياض -ومنسوبو الأندية الرياضية- يستأجرون منها أجهزة العرض السينمائي و"بكرات" الأفلام المصرية وأفلام الكاوبوي الأميركية، ثم بعد انتشار جهاز الفيديو وسهولة اقتنائه في المنازل انتشرت محلات الفيديو في بقية أحياء الرياض، لكن سوق المربع احتفظت ببهائها وكان صاحبنا العجوز سلطاناً متوجاً فيها إلى أن جاء الإنترنت ليجرفه وبقية ملاك محلات الفيديو. لم يكن صاحبنا يدري عن سبب إحجام الناس عن الحضور لمحله، لم يسمع بالتورنت ولم يدرك حجم التأثير الهائل الذي أحدثه الإنترنت في عملية تبادل المنتجات الفنية عبر الفضاء الإلكتروني، عرض أفلامه للبيع بتخفيض كبير، ومع ذلك لم يهتم أحد بشرائها، أفلام أصلية كان واحدها يباع بخمسين أو ستين ريالاً في العصر الذهبي لمحلات الفيديو، والآن لا تجد من يشتريها بريال واحد، كيف حصل هذا التغير السريع، وكيف سقط أباطرة محلات الفيديو من عليائهم خلال سنوات معدودات؟. بدأت مسيرة محلات الفيديو في بداية الثمانينيات بفضل انتشار أجهزة العرض المنزلية، رأى تجار سوق السينما في المربع في أجهزة الفيديو فرصة لتوسيع نشاطهم ليشمل بقية أحياء الرياض وليصبحوا أقرب للزبون، وهكذا ضجت الأحياء بالمحلات التي تبيع الشريط الأسود الحديث حينها -شريط الفيديو بنوعيه الصغير والكبير- حتى أصبح في كل حي ما لا يقل عن أربع أو خمس محلات تضج جميعها بالزبائن وتمتلئ أرففها بالأشرطة من كل صنف ولون. حينها كان استيراد الأفلام يتم بشكل فردي من قبل أصحاب المحلات، فكان مالك المحل يذهب بنفسه إلى مصر أو لبنان ليأخذ الأفلام التي تعجبه ويدفع قيمة رخصة التوزيع والنسخ، ويعود إلى المملكة ليبيع هذه الأفلام وينسخ ما شاء من نسخ، ولم يعتدل هذا النظام إلا مطلع التسعينيات الميلادية حيث أصبح لكل شركة إنتاج أجنبية أو عربية موزع حصري داخل المملكة لا يسمح لأي محل بتوزيع الأفلام إلا من خلال الاتفاق معه. هكذا رأينا شركة "فيديو ماستر" توزع لمحلات الفيديو أفلام أستوديوهات يونيفيرسال وبارامونت ووارنر برذرز، وشركة "ميغا ستار" توزع أفلام أستوديوهات "كولومبيا والقرن العشرين" وغيرها، وأصبحت سوق الأفلام منظمة وتخضع لرقابة وزارة الإعلام، بأسعار شبه ثابتة، حيث يتراوح سعر شراء الفيلم الواحد بين 50 و60 ريالاً أما قيمة استئجاره ليوم واحد تصل إلى عشرة ريالات مع غرامات في حالات التأخير. كانت محلات الفيديو منارات إشعاع "فني" بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يأتي لها الزبون متلهفاً للترفيه والاطلاع على آخر منتجات الفنون في أميركا والهند والعالم العربي، فيتصفح "الكاتالوج" مقلباً البوسترات لساعات طويلة، باحثاً من بين مئات الأفلام والمسرحيات عن شريط واحد فقط يستأجره لسهرة الليلة، كانت المحلات في عصرها الذهبي في منتصف تسعينيات القرن الماضي تطرح بالكاد فيلمين أو ثلاثة أفلام نهاية كل أسبوع، وبعدد محدود من النسخ لكل فيلم، فيبدأ التنافس المحموم بين الزبائن لضمان الحصول على نسخة، وتكون الأفضلية دائماً للزبون صاحب العلاقة الجيدة بصاحب المحل. في تلك الفترة كان صاحب محل الفيديو ملك زمانه؛ يتحكم في زبائنه ويقلبهم كيف يشاء، يرفع السعر ويساوم، حتى أنه في بعض الأحيان يرفع قيمة استئجار الفيلم إلى أكثر من عشرين ريالاً، خاصة للأفلام الجديدة ذات الميزانيات المرتفعة، وكأنه شريك في إنتاج الفيلم!، ولم يكن أمام الزبائن سوى الرضوخ لمزاج هذا الشخص الذي يقف حائلاً بينهم وبين أفلامهم المفضلة. قصة محلات الفيديو واسعة متشعبة، وهي قصة تكيّف المجتمع مع منتجات الحضارة وتطورات التقنية، مواقف وذكريات ولحظات جميلة عشناها في هذه المحلات، نتصفح كاتالوجاتها وعقولنا مشغولة ب"كارت" الاشتراك الذي يوشك على الامتلاء!. مع هذه المواقف سنكمل الحديث الأسبوع المقبل بإذن الله.