لماذا تتعثر مشاريعنا ولماذا نجد بين كل شارع وآخر حفرة تبتلع الرجال والأطفال، ولماذا تسقط الجسور من المطر؟ لماذا يوجد هذا الخلل الذي يدل على فقر واضح في المتابعة وفقر أكبر في الشعور بالمسؤولية؟ لماذا يتصاعد هذا الخلل ولا نرى ضوءاً في نهاية النفق ولماذا يحاول أن يتبرأ المسؤولون من تبعات كل هذه المشاكل، ويبحثون عن شماعات تحمل أوزارهم أو يلقون بالمسؤولية خارج دوائرهم؟ لماذا هناك عدم رضا من الناس على الرغم من كل ما يعمل ومن كل تفاصيل المشهد العمراني الذي صار يملؤ سماء كل مدينة سعودية. في اعتقادي أن الشق الذي صار "يتغول" لم يعد باستطاعة أحد أن يرقعه لأن مقومات اتساعه قائمة ومستمرة. الخلل يكمن في الإدارة المترهلة التي تضيع المسؤولية وتدخلها في أنفاق مظلمة لا تخرج منها أبدا، لذلك يجب أن نقف مع أنفسنا لأن بلداً بحجم المملكة العربية السعودية وبالتسارع التنموي الذي تعيشه في الفترة الحالية لا يمكن أن تبقى على نفس النظام الإداري المركزي الذي يجعل من وزارات تتحكم في التنمية وفي تسيير النمو وهي بعيدة ولا تملك الموارد البشرية على المستوى المحلي التي تمكنها من من المتابعة، ففي وزارة الشؤون البلدية والقروية فقط يوجد 14000 مشروع حسب آخر إحصائية وصلتني، ولو حاولنا أن نضع إحصاء لعدد المشاريع التي تعمل في المملكة في كافة وزارات ومؤسسات الدولة لتجاوزت ال 100 ألف مشروع بقيمة إجمالية تزيد عن 400 مليار ريال تديرها مؤسسات مركزية وتتحكم في تمويلها وزارة واحدة وكثير منها متعثر. أنا أتحدث هنا عن "المشاريع" وليس تسيير الحياة، فهذه قصة أخرى. المشكلة أن نظامنا الإداري يكرس "أبوية الدولة" بحيث تعتمد كل القطاعات على ما تنفقه الحكومة بل إن الاقتصاد برمته أصبح اقتصاداً غير منتج وينتظر ما تقدمه الدولة من رواتب شهرية أو مخصصات لمشاريع حكومية مع غياب كامل للتنافس وثقافة الإنتاج. مناطق كاملة تعتمد في اقتصادها على الوظائف الحكومية وهذا في حد ذاته يمثل خطراً اقتصادياً مستقبلياً ويشير إلى أن مفهوم التنمية في بلادنا بحاجة إلى مراجعة جادة، ولعل البداية تكمن في إعادة النظر بشكل شامل في نظام الصرف الحكومي الذي أشار نائب رئيس نزاهة قبل عدة أيام أنه قديم وبوابة للفساد المالي، ولن أقول أننا أكدنا ذلك عدة مرات ومنذ سنوات ولكن دون جدوى. أحد الحلول الناجعة والمجربة هي "اإلإدارة المحلية" بحيث يكون هناك صلاحيات واسعة للحاكم المحلي، ولكن قبل ذلك يجب زيادة عدد المناطق في المملكة إلى 20 أو 25 منطقة وهذا عدد طبيعي لبلد كبير ومتشعب جغرافياً واجتماعياً وثقافياً، حتى لا يكون التركيز على مدن محددة وتهمش أطراف المناطق الحالية. تبدأ الإدارة المحلية من مجلس المنطقة الذي يجب أن يتكون من مسؤولي الدوائر الحكومية وبعض رجال الأعمال والفكر ويصبح هو المجلس التنسيقي الذي يدير التنمية ويعمل على التناغم بين جميع الجهات. ويمكن أن نعتبر المجلس البلدي كمؤسسة رقابية مع استمرار المؤسسات المركزية كجهات محاسبة. الهدف هنا هو أن يتم توزيع ميزانية الدولة على المناطق المختلفة ويتم الصرف مباشرة من قبل مجلس المنطقة حسب الخطط التنموية والامكانات التي تملكها كل منطقة وحسب مواردها المحلية والفرص المستقبلية التي تملكها. الانتقال من الإنفاق المركزي إلى الإنفاق المناطقي سيحقق تركيزاً واضحاً على المشاريع التي تنفذ في كل منطقة وسيجعل الرقابة لصيقة ومباشرة بحيث يتم تطوير جهاز محاسبي مركزي يحاسب مجالس المناطق. الميزة المهمة هنا هي أن كل مجلس منطقة يمكن أن يؤسس جهازاً هندسياً فنياً وإدارياً يشرف على كل المشاريع في المنطقة البلدية منها والصحية والتعليمية بدلا من التشرذم الحاصل الآن في الوزارات والادارات التابعة لها في المنطقة والتي صنعت أجهزة هندسية ضعيفة تتضارب مع بعضها البعض. كما أنه لن يأتي أمين أو رئيس بلدية ليقول إن هذه الحفرة ليست مسؤولية البلدية لأن المسؤولية ستقع على مجلس المنطقة وسيكون دور الحاكم الإداري تنموي كما أنه أمني وبشكل فعال وتنافسي. في واقع الأمر لسنا بحاجة إلى وزارات كبيرة مترهلة تعمل عن بعد، لكننا بحاجة إلى مجموعة مفكرة وعملية وليست شرفية تعمل على مستوى المنطقة وتتحمل المسؤولية كاملة ويكون دور الوزارات في هذه الحالة مرتبطاً بوضع السياسات ومتابعة المشاريع الخاصة بالوزارة في المناطق دون تدخل مباشر، وما نقصد بالمتابعة هو أن يكون هناك تقييم للوضع ورفعه للجهات الرقابية. الهدف هنا هو استثمار الإنفاق الحكومي لإحداث تنمية حقيقية وتطوير القدرة التنافسية بين المناطق لأن جزءاً من ميزانية المنطقة يجب أن يكون من الدخل المحلي. عندما أقول إن الإدارة المحلية هي الحل، فأنا على يقين أن الاستمرار في الحلول الإدارية الحالية سيؤدي إلى مزيد من الهدر المالي وسيُرفع عدد المشاريع المتعثرة وستبطئ التنمية أكثر في وقت العالم يتحول بسرعة كبيرة. لدينا فرص وموارد كثيرة وكبيرة ويجب أن نستغلها بشكل يسمح لنا في المستقبل بالاستمرار وهذا يتطلب تنوع مصادر الدخل على المستوى المحلي لأن الاعتماد فقط على الدخل الحكومي المعتمد أصلا على مورد واحد هو النفط يعني إغلاق نوافذ المستقبل. إطلاق القدرات المحلية سوف تجعلنا ننظر إلى ما نملك فعلا ونتريث في استثماره وتوظيفه. ربما يكون الوقت مناسباً الآن أن نخطو هذه الخطوة، فنحن في عصر الأسرع يأكل فيه الأبطأ، وقد تباطأنا بما فيه الكفاية، وقد لا نستطيع تحمل المزيد من البطء. معالجة النظام الإداري الحالي أصبحت مسألة ملحة ولا تتحمل التردد لأن المشاكل المتفاقمة لم تنتج من إهمال ولا مبالاة فقط بل نتيجة بنية النظام الإداري نفسه الذي يصعب معالجته والتعامل معه مع تزايد الحراك التنموي والحاجة إلى تلبية الضغوط السكانية والتوسع العمراني على مستوى المناطق، فكل هذه التحولات تتطلب تحولاً حقيقياً في بنية النظام الإداري وإلا يجب أن نستعد لمزيد من التباطؤ ومزيد من الأزمات. لمراسلة الكاتب: [email protected]