لم أكن مُستوعبا لمفهوم "التوافق الاجتماعي" حتى زُرت بعض المجتمعات الأجنبية، وعشت سنوات قليلة في إحدى البلدان الغربية المتقدمة حضاريا، فهناك، يبدو مُعظم أفراد المجتمع، وقد توافقوا على تنفيذ بنود اتفاق ينظّم تعاملاتهم، ويُلزمهم باحترام أنفسهم وغيرهم، في ظل قوانين وأنظمة اجتماعية يتم صياغتها وفقا لمبادئ المُواطَنة وحُرّية الإنسان، واحترام خصوصية الفرد، والتوقف عند حُقوق الآخرين، ورصد المخالفين ومعاقبتهم حسْب النظام، وليس حسْب أمزجة بعضهم، وذلك بعد التأكد من إيصال كيفية عمل الأنظمة للناس على اختلاف ثقافاتهم وأخلاقهم، بشكل واضح ودقيق، لينتفي العُذر، ويتأكّد التقصير والإهمال. لكن الأمر - في تلك المجتمعات - لا يقف عند هذا الحد، بل يتعدّاه إلى مراجعة تلك القوانين بصورة دورية، ونقْد الأنظمة بشكل مدروس، لتحسينها وتطويرها، إلا أن أهم ما يُميّز تلك المجتمعات المتقدمة حضاريا وتقْنياً وإدارياً، تفعيل دور المراقبة النظامية، وتساوي الأفراد أمام القانون، بغض النظر عن مرجعياتهم العِرقية أو الدينية أو الاجتماعية، وانحسار دور الواسطة، فالعدالة في مفهوم تلك المجتمعات "عمياء"، لا تُفرّق بين "خِيار و فقُّوس"، مما حفظ للأنظمة الحكومية هيبَتها، وأعطى القانون مكانته المرموقة. ولا يعني هذا انتفاء المخالفات، أو انتهاء التعدّيات، فأنظمة تلك المجتمعات ليست مثالية، وأفرادها ليسوا ملائكة، لكنهم نجحوا في تقليص عدد المخالفين، وتوصّلوا إلى آلية للحد من التعدّيات، نتيجة اقتناع غالبيتهم بجدوى مبادئ العدل الفئوي، التي يُحمد عُقباها، وتحفظ لهم مُقدّراتهم وكرامتهم، وكينونتهم الإنسانية، بعيدا عن إضفاء قدسية لأحد من المتنفذين، أو أصحاب المناصب والسُّلْطة، أيا كان نوعها. لذلك، من النادر أن يتأفّف أحدهم في انتظار دوره في الطابور، أو يتكدّر خاطره لدى محاولة إيجاد موقف لسيارته دون تنغيص، ولايتجرأ غالبهم على رفع الصوت في الدوائر الحكومية، وأماكن التسوّق أو غيرها، كما لا تصدُر - في تلك المجتمعات - السلوكيات غير الآدمية في الشوارع والأماكن المزدحمة إلا من بعض الشواذ، فغالب أفرادها، مُطمئنون إلى التزام الناس بالذوق العام وفق سلوكيات رشيدة، يتعلَّمها أطفالهم في المدارس، واثقون في قدرة الأنظمة على تقويم الخارجين عن النهج الاجتماعي الحكيم الذي اتفق عليه سوادهم الأعظم، فهو يحفظ للناس حقوقهم، ويُلْزمهم بأداء واجباتهم. [email protected]