يُعد المجتمع بجميع أطيافه ، ومُختلف انتماءاته، وتعدَّد مشاربه أُسرة واحدة، تحتاج إلى حمايةٍ وحصانةٍ حتى نضمن له التكاتف والتآلف، وعدم التَّصدُّع والتفكك بالحفاظ على لبناته التي يتكون منها، وهي الأُسر الصغيرة التي تُكوِّن في مجموعها الأُسرة المجتمعية الممتدة. لكن ما نراه اليوم من انتشار موضة الاستشارات الأُسرية، التي يدَّعي القائمون بها أنَّ هدفهم هو حماية الأُسر، عن طريق نشر التوعية وتقديم الاستشارات والنصائح لأفرادها. لاشك أنَّ الهدف نبيل والغاية سامية، لكن الوسيلة والآلية لا تُحقق هذا الهدف، بل، على العكس من ذلك، إذ نراها تُفرز نتائج سلبية في كثير من الأحيان . بسبب انتشار المدَّعين للعلم والمعرفة، والرَّافعين لشعار الخبرة المُزيفة، وهُواة جمع الشهادات الوهمية، حتى أصبح مجال الاستشارات الأُسرية مهنة من لا مهنة له . فهناك صغار السِّن الذين حصلوا على عددٍ من الدَّورات لعددٍ من الأيام، وأصبحوا يتصدَّرون المجالس والنَّدوات، يَعِظُون من فراغ، ويجتهدون بلا علمٍ، مع الجهل التام بالآليات. وهناك وُعَّاظ استغلوا سمعتهم وصيتهم في الوعظ الدِّيني، وخاضوا المجال بهذا الرَّصيد الذي يثق فيه كلُ الناس . في حين أنَّه ليس كل محاضرٍ ولا واعظٍ ديني يُمكنه أن يكون مستشاراً أُسرياً. ومن المُؤلِم سيطرة الفكر التِّجاري والرِّبح المادِّي على الموضوع، برفع أسعار الدَّورات، واستغلال حاجة النَّاس إلى من يُعينهم على حل مشكلاتهم، في ظل ما تمُرُّ به كل المجتمعات من ضغوط وتغيرات. ومن الغريب، ما تقوم به بعض الجمعيات الخيرية من إعداد وتأهيل المستشارين الأسريين عن طريق بعض الدَّورات التي تشتمل على مختلف المواد، وهذه وإن كانت بعض موادها تُعطى من قبل بعض المتخصصين، لكنَّها لا تقوم وفق دراسة علمية، بل هي في معظمها نتيجة فكرٍ اجتهادي لمجموعةٍ غير متخصصة تقوم بالتخطيط والتجهيز لها، إلى جانب أنَّ المجموعات المختارة للتدريب، قد لا تكون صالحة للتَّلقي والعطاء. أضف إلى ذلك أنَّ كثيراً من هؤلاء المُدرِّبين ليسوا بقدوة تُحتذى في حياتهم الأسرية المليئة بالمشكلات والعُنف ضد الزوجة والأولاد وأهل الزوج أو الزوجة. والأعجب ممَّا سبق السَّماح لبعض من حصلوا على دورات بفتح مكاتب استشارية رسمية !! إنَّ الاستشارات الأُسرية من المهام الدَّقيقة والحسَّاسة جداً التي تحتاج إليها المجتمعات الإنسانية، لأنَّها ترتبط بالأُسرة التي هي اللبنة الأولى للمجتمع، وأي خطأ في تلك الاستشارة يؤدِّي إلى هدم الأسرة، وبالتالي إلى تقويض أركان المجتمع. إنَّ الاستشارات الأُسرية هي علمٌ وتخصصٌ له مبادئه وآلياته، وليست حقلاً للتجارب ونادياً لممارسة الهوايات الفردية. ينبغي على الجامعات فتح أقسامٍ علمية تُخرِّج للمجتمع كوادر علمية مُؤَّهلة ومتخصصة يُمكنها معالجة المشكلات وتقديم الاستشارات الواعية التي تحمي الأُسرة من الانشقاق والتَّفكك وتعمل على الارتقاء بالمجتمع. كما ينبغي للجهات المسؤولة أن تمنع أولئك الهُوَاة من العبث بالأمن الأُسري. [email protected]