في كل عام تصدر وزارة التربية والتعليم حركة نقل المعلمين، حين تنشر الأسماء في الصحف يسارع المعلمون للبحث عن أسمائهم، وحده هذا المعلم ليس معنيًّا بهذه الحركة، ولكنه يسأل بعض زملائه: هل وجدوا اسمه ضمن الأسماء؟ فيضحك الجميع؛ لأنهم عرفوا أنه لم يطلب النقل إلاّ مرة واحدة، ثم عدل عن ذلك قبل صدور الحركة؛ كان يقول لزملائه الذين جاءوا بعده إلى مدارس المحافظة، ويتحدثون عن الغربة، والبُعد عن الأهل، كان يقول: إن الغربة غربة الروح، والدنيا واسعة، بإمكان الإنسان أن يعيد صياغة المكان وعلاقاته مع مَن حوله ليشعر بالأمن النفسي والاجتماعي، والسعادة شيء في داخلنا.. من أجل هذا أطلقوا عليه الفيلسوف، وكان يستمتع بعرض تجاربه على زملائه المعلمين، خاصة بعد أن صار مديرًا للمدرسة، وأصبح يحظى بتقدير واحترام أهل المنطقة، وأخذ يسهم في حل المشكلات، وإصلاح ذات البين، والسعي لتنمية المنطقة وتطويرها، وجذب الخدمات لقراها التي لم يغادرها إلاّ إلى المحافظات القريبة، أو زيارات خاطفة للأهل ليوم أو يومين خلال الصيف، لكن بعد عشر سنوات قضاها المعلم (س) بعيدًا عن ضجيج المدن، وازدحام الشوارع والأبنية رأى أن يقضي فترة أطول في مرابع الصبا، ومع الأهل وزملاء الدراسة، حين عاد كان يشعر بأن عجلة التغير كانت سريعة، والتبدل كان واضحًا، توسعت المدن الصغيرة، وارتفعت العمارات كثيرًا، كثرت السيارات، حتى الناس تغيّروا، في إيقاع حركتهم السريعة، وعلاقاتهم الهشة، وممارساتهم الغريبة، حتى الوجوه لم تعد الوجوه التي ألفها من قبل، كان يحدّق ويفكّر ويتأمّل، يبحث عن الطيبة والبساطة والعفوية، وروح الأخوة والمودة التي ظهر له أنها غادرت الأمكنة القديمة، أحاديث الناس عن العقار والأسهم والتجارة والملايين كان يحدث دويًّا في أذنيه، وضحكات الشباب وأساليب الحياة الجديدة كانت تثير استغرابه، يا إلهي عشر سنوات وحدث كل هذا، حينها قرر العودة سريعًا إلى القرية التي بها مدرسته، ويقال إن أحدهم شاهده بعد أربع سنوات يقود سيارته الداتسون وهو يرفع صوته بالغناء متّجهًا إلى مستشفى القرية، وبجواره زوجته وابنته، وفي حوض الونيت الداتسون كان يجلس طفلان في فروة.