أريد التشديد على نقطتين، الأولى: أن مؤسسة «أديان» وسلسلة إصدارات البروفسور عادل خوري، ومنها كتاب «الرحابة الإلهية، لاهوت الآخر في المسيحية والإسلام» للأب الدكتور فادي ضو والدكتورة نايلا طبارة، مما يلتقي مع توجّهي ومسعاي الدائمين في العمل على تأكيد الانفتاح بين الإسلام والمسيحية، وبين المسلمين والمسيحيين، وذلك من منطلق إيمانيّ لا فولكلوري، وعلمي لا شعبي عفوي. ولفتتني خاتمة الكتاب في خلفيته، بأنه كتاب لاهوتي منظم موجّه إلى المؤمن نفسه ليضعه أمام إيمانه، لأن الجهل الذي يلحق الأذى بالعلاقات بين الأديان هو جهل الإيمان الخاص أكثر منه جهل إيمان الآخر. والثانية: أنني طالعت بشغف القسم الإسلامي، أو ما أشير به إلى الإسلام في الكتاب، فوجدته فعلاً مكتوب من منطلق إيمانيّ، تنقيباً في التاريخ الإسلامي والقرآن نفسه، وفي الآيات والمواقف التي تؤكد انفتاح الإسلام وتقبله للآخر وللأديان، لذلك كان فرحي كبيراً. في البداية اسمحوا لي أن أوضّح، مستنداً إلى ما أشار إليه الباحثون العرب والمستشرقون، بأن المسلمين هم من ابتكر «علم مقارنة الأديان» وقالوا إن هذا الأمر منطقي، لأنه قبل الإسلام لم يكن هناك تعدّد لإجراء المقارنة، فكل دين قبل الإسلام اعتبر غيره «ضلالاً»، فاليهودية اعتبرت المسيحية باطلة، ولم تعترف بالسيد المسيح، بل عدّته «خارجاً يستحق الموت»، والمسيحية نفسها هي وريثة اليهودية (التي رفضت النعمة)، فلم تر مع وجودها وجوداً لليهودية (يمكن هنا أن ننظر إلى عمل الرسول بولس لإنقاد اليهود من تحت الناموس) . فالإسلام إذن، هو الحلقة الأخيرة في سلسلة الأديان السماوية، وهو يشمل الشرائع السابقة، مضيفاً إليها ما احتاجته الإنسانية في مسيرتها إلى يوم القيامة (شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى) ( الشورى: 13). فلا يمكن أن يؤمن بالإسلام إلاّ من يؤمن بالأديان كلها، السماوية وغيرها، والآية القرآنية (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (العنكبوت: 46) تؤسس لعلم مقارنة الأديان والحوار العلمي الهادئ والرحيم بين أتباعها. «وطبيعة الإسلام تشهد على أنه يتسع للحرية الفكرية العاقلة، ولا يقف وراء عقائده وأصول تشريعه على لون واحد من التفكير، أو منهج واحد من التشريع، هو دين مرن يساير أنواع الثقافات الصحيحة والحضارات النافعة التي يتفق العقل البشري عليها لصلاح البشرية وتقدمها» (محمود شلتوت، «الاسلام عقيدة وشريعة»، القاهرة لا. ت . ص 260). «لذلك جاء الإسلام معلناً أن الدين واحد والشريعة مختلفة، و «التوحيد» هو رسالة كل نبي ومصدر بعثه، والإسلام جاء ليضع «التوحيد» في أبهى صورة وأكملها، وقرر أن الأنبياء تتابعوا لينقلوا البشرية من طور إلى طور» ( سامي النشار، «نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام»، القاهرة دار المعارف (196 ص 42). من هذه الإضاءة، قرأت الكتاب فوجدت هذا النور فيه. والكتاب ليس كبيراً وموسعاً ومفصلاً ليدّعي أنه يستطيع حلّ المسائل العالقة بين الأديان عقدياً، وبين الإسلام والمسيحية على الخصوص، فهو ينقل نظريات وشروحاً ومواقف ترغِّب بشدة في أن تصل في الخاتمة إلى أن الانفتاح بين الدينين موجود، وسيستمر، وهذا -ولو لوحده- جيد، بل ممتاز، ونحن نعرف في اللغة العربية كلمتين هما: خلاف واختلاف (لا أعرف كيف ترجمت هاتان الكلمتان من الفرنسية)، الخلاف هو تباين وجهات النظر أو الممارسات في موضوع واحد (شكل الصلاة بين المؤمنين)، والاختلاف هو تباين جوهري (شخص السيد المسيح مثلاً بين المسلمين والمسيحيين)، يكوّن مبدأين، أو عقيدتين، وهذا التعريف عرفي لا قاموسي. وقد حاول الكاتبان أن يسيرا بين الألغام. 1- صحيح أن الإسلام دين إبراهيمي، وأن هناك كثيراً من الأمور المشتركة بين الأديان «الإبراهيمية»، وربما الإسلام هو الأقرب منها جميعاً إلى الإبراهيمية «الحنيفيّة»، فهو «تذكرة». لكن هل هو فعلاً تجديد للعهد الإبراهيمي بواسطة وحي جديد (ص 89)؟ هذا سؤال يطرحه الكتاب ويجعله بتصرّف الفقهاء الباحثين. 2- واستطراداً، يحاول الكاتبان التساؤل: هل يمكننا –إذن– ( يقصد المسيحيين)، الاعتراف بالوحي القرآني، وبنبوة محمد؟ هذا إشكال لطالما أثر في الأوساط المسيحية الباحثة عن نقاط تلاقٍ (ص 99-100)، والموضوع هذا يؤسس ل «فخاخ»، كما يقول الكاتبان، وأعجبني تأويلهما بأن بعض هذا السلوك المتعادي هو نتيجة محاولة «تسلّط»، أو هو نتيجة «مرض»، هو تأويل ذكي للشكل، يوضع أيضاً في تصرّف العاملين الباحثين على تدوير الزوايا، أو «إعمال الفطنة» في فهم النصوص، في محاولة لتوسيع دائرة الوجوه الصديقة ذات الملامح الإلهية الموحية بالاحترام، في الأماكن الهادئة، مثل الصلاة المشتركة، كما يقول: de chergé (ص 103) . 3- ثم كان هناك تخريج للاعتراف المسيحي بالإسلام، لاهوتياً ، يُفصّل في صفحات كثيرة، فيها نشاط فكري إبداعي، يتابعه الكاتبان –بعد فصل الإسلام– في مخاطبة المسيحيين المتشددين، لا المسلمين الذي يعترفون صراحة بالمسيحية وبالسيد المسيح، وسأضيف هنا إلى الآيات التي أشار إليها الكاتبان حديثاً لمحمد، الذي قال: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة» قالوا: كيف؟ قال: «الأنبياء إخوة علاّت» (أي من أب واحد) «أمهاتهم شتى ودينهم واحد»، مع الإقرار الواضح بأن الاختلاف بين الإسلام والمسيحية هو حول شخص السيد المسيح (ألوهية، إنسانية، موت، قيامة...) لتنتهي الصفحات هذه (ص121) بأن الحب هو مفتاح لشرح العلاقة بالعالم والبشر. ونعِم هذه النتيجة الطيبة. 4- وجاء فصل «الإسلام وأهل الكتاب» ليقسم التاريخ العقدي إلى حقبة مكية (ص 131) فيها (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) (العنكبوت: 46)، وحقبة مدنية فيها التشريع الإسلامي، من التفاوض مع الآخرين لبناء دولة: «أنا أقول إنها دولة مدنية بُنيت على عقود واضحة بين الأطراف–المواطنين) وتأسيس أمة الإسلام، والدعوة إلى توحيد الجميع في دين واحد وتجاوز الاختلافات، والتوصل أخيراً إلى أن الناس سيبقون في «شقاق»، أي اختلاف عقدي لم يحل (ص 137)، وعلى رغم ذلك بلّغت الآيات القرآنية ضرورة قبول الاختلافات والعمل دائماً على «استباق الخيرات». وفي هذا السياق، أي وجود «شقاق»، تنبّه الكاتبان إلى أن مخاصمة الآخرين ليست مطلقة وضدّ الجميع، بل هي ضد أفراد من الذين (يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء) (آل عمران 112) (ص 114). والكفار قد يكونون من المسلمين أو من أصحاب الكتاب، والكافر لغة هو الرافض، قبل أن تستخدم المفردة في أبعاد أخرى. فكثيرة هي الآيات التي تتوجّه إلى «البعض» في عبارات متنوّعة: «وفي هذا السياق، ليت الكاتبين عادا إلى كتب «أسباب النزول» لتثبيت مكان نزول الآيات وتأريخها). 5- وهنا، أسجل للكاتبين جرأة في طرح إمكان تسمية حقبة ثالثة بعد المكية والمدنية، تتمثل في «سورة المائدة» (وهي اجتهاد يُترك للفقهاء في دراسات مستقبلية)، ولأن «المائدة» -كما رأياها- هي «الضيافة الإلهية»، فهي تتحدث عن «الجود الإلهي» ، فتستأنف الانفتاح من دون التغاضي عن الفروق العقائدية، لتصل إلى أن «الله لا ينفرد به أحد، وهو على مسافة من الجميع، فلا أحد يدّعي أنه يملك القرب الإلهي وحده، إذن لنترك التعجرف الروحي الذي يخالف الدعوة القرآنية» (ص 161 – 162).