في زمن لاحق، بعد أن تكون اللحى السياسية قد قصّت وعادت النضارة الى الوجوه، بعد أن يكون العالمان العربي والإسلامي قد كفا عن أن يكونا مسرح القتل والموت «السعيد» والدماء، بعد أن تكون المرأة استعادت حضورها وكرامتها، بعد أن يكون هذان العالمان استعادا ارتباطهما الوثيق بالعصر المتحرك والعالم المندفع دوماً الى الأمام، بعد أن يكون الماضي أصبح جزءاً من الذكريات، لا قوة مهيمنة على الحاضر وعلى المستقبل... في ذلك الزمن اللاحق، ستجلس صبية حسناء من غزة، مشرقة الوجه من دون وجل، مبتسمة من دون حذر أو خوف، في مواجهة أمها وتسألها: «ماما... لقد رويت لي كثيراً ومن دون توقف حكاية ذلك العرس الجماعي الذي كنتِ فيه واحدة من العرائس قبل سنوات طويلة، وقلت لي انك كنت سعيدة جداً فيه، وانه أتى ليبلسم الجراح بعد دمار لأرضنا وعمراننا وانساننا، مارسه الإسرائيليون، رداً - كما قالوا - على ما كان يفعله بهم بعض أبناء بلدتنا...». تبتسم الأم ابتسامة لا تقل، هنا، عن اشراقة ابتسامة ابنها، وتدمع عيناها في حنان وحب وتهز رأسها موافقة بكل طيبة، وهي تنظر الى ابنتها راغبة في ان تعرف ما الذي دفع المناسبة الى حديث ابنتها. فتقول هذه وقد أدركت سؤال أمها الذي لم يطرح: «... أمس وجدت في خزانة الكتب، شريطاً قديماً، مكتوب عليه «تفاصيل العرس الجماعي للعام 2009»... تقول الأم: «أجل لقد حصلنا على هذه النسخة من التلفزة التي صورت العرس الجماعي يومها، لكنني نسيته مع مرور الزمن... هل أعجبك؟». «نعم أعجبني بالتأكيد... لكنّ فيه شيئاً غريباً»، تقول الفتاة وهي تحدق في أمها، فيما هذه توسع ابتسامتها وقد بدا عليها أنها فهمت ما الذي ستقوله الابنة التي تواصل: «... لاحظت أن في الفيلم كل شيء: العرسان الرجال والموسيقى والأطفال الراقصون والأسهم النارية، والفرحة تعم الجميع... لكنني، ان كنت عرفت أبي بين مئات العرسان الفرحين لم أتمكن من العثور عليك... بل ولا على أي من العرائس، وكأن يداً سحرية أخفتكن جميعاً عن الصورة... فكيف حدث هذا؟». تبتسم الأم مجدداً، ولكن هذه المرة في حسرة وتتمتم وكأنها تود لو أن ابنتها لا تسمع الجواب: «أجل يا حبيبتي، كنا كلنا غائبات... مئات العرائس، بل كل النساء اللواتي حضرن الحفل، أمهات وحموات وجارات وقريبات. لكن المسألة ليست سحراً. كل ما في الأمر اننا، نحن النساء، كنا نعتبر عورة من المعيب تصويرنا، وربما ككناية عن العيب الكامن في وجودنا أصلاً. من هنا كان هذا الغياب وكأننا مُحينا من الذاكرة، من الوجود، في زمن تكاد فيه الذاكرة تصبح الصورة والصورة الذاكرة...