قد لا يمكن الحديث عن السينما الإيرانية بمنأى عن التحولات السياسية، هذه السينما التي حققت إنجازات مهمة في العقدين الأخيرين على المستوى المحلي والعالمي كانت خير تعبير عن المجتمع الإيراني وتحولاته السياسية والاجتماعية. بدأت السينما في إيران حين اكتشف مظفر الدين شاه حاكم فارس، من سلالة القاجار، هذا الاختراع في معرض دولي في باريس عام 1900، فأمر مصوره الخاص بشراء كل المعدّات اللازمة وإحضارها إلى إيران. وحين افتتحت أول دار عرض في البلاد عام 1903 كانت المعارضة الدينية شديدة، ومنعت النساء من التردد عليها إلى أن تم افتتاح دار خاصة بهن ربع قرن بعد ذلك التاريخ. ومع ارتقاء رضا شاه العرش نهاية العشرينات 1929 بدأت مرحلة جديدة من الحداثة الإيرانية ظهرت معها طبقة من البورجوازية كانت في حاجة إلى وسائل ترفيه جديدة «تتجاوز فنون الأداء القديمة». ظهر أول فيلم إيراني عام 1930 وتوالت بعده الأعمال. وبين بداية الثلاثينات ونهاية السبعينات تاريخ قيام الثورة الإسلامية، كان عدد الأفلام قد وصل إلى ألف ومئة من مختلف الأنواع. سينما تحرر المرأة عالجت السينما الإيرانية في الثلاثينات والأربعينات مواضيع اجتماعية راهنة أبرزت تحولات المجتمع الإيراني حينها وتحوله من «أخلاقية العصر الوسيط إلى أخلاقية البورجوازية»، كما لعبت دوراً مهماً في تحرير المرأة الإيرانية. فقد ترافق عرض فيلم «الفتاة المتعالية» مع الحظر الذي فرضه رضا شاه على ارتداء التشادور عام 1936 وكان ظهور نساء في الأفلام «خطوة ايجابية نحو تحريرهن من العزلة، ولم تكن النساء تظهرن محجبات إلا حين يقتضي منهن الدور ذلك، لقد دل هذا على «القدر المتوازي للحداثة والسينما» في إيران بحسب الناقد الإيراني حميد دباشي في كتابه «السينما الإيرانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً» (سلسلة الفن السابع - المؤسسة العامة للسينما في سورية). كما عكست تلك السينما مع مطلع الخمسينات، وبعد الإطاحة بحكومة مصدق المنتخبة وعودة الشاه وظهور سوق النفط، الأفكار القومية التي بدأت تطفو على السطح بتحفيز من الشاه، وتبعت تلك الموجة الأفلام الميلودرامية التي كانت على توافق مع متطلبات المرحلة ومع ظهور بورجوازية تجارية نشأت عن السوق الجديدة التي فتحها النفط، فكانت السينما تلبي حاجة الطبقة الجديدة إلى أعمال «ترفيهية» لم تخرج من أسرها إلا مع فترة الستينات المضطربة سياسياً. تلك المرحلة شهدت ولعقدين متواليين ولادة موجة جديدة من السينمائيين الإيرانيين الذين كانوا يحملون «نظرة جديدة لمجتمعهم» وهم استفادوا من الاطلاع على الأفلام الفنية والمهرجانات العالمية ومعهم كانت البداية الجادة للسينما الإيرانية. واعتبر فيلم «المنزل مظلم» للشاعرة والمخرجة فوروغ فروخزاد أهم فيلم في مطلع الستينات، تبعه آخر لفَروخ غفاري «ليل الأحدب». بيد أن العمل الذي يمكن اعتباره العلامة البارزة في سينما ما قبل الثورة الإيرانية وواحداً من أهم أفلامها هو فيلم «البقرة» الذي حققه داريوش مهرجوي عام 1969 والمأخوذ عن قصة للأديب غلام حسين سعيدي. إن تحولات قروي بعد موت بقرته العزيزة عليه مثّلت كأفضل ما يكون تماهي الإنسان مع النوازع الحيوانية الكامنة في النفس البشرية. هذا العمل بقوة أسلوبه الإخراجي وعمق فكرته وتصويره الفني البديع يعد إحدى تحف السينما الإيرانية حتى يومنا هذا. وبحسب مصدر هنا، فإن اكتشاف الإمام الخميني، بعد عودته الى إيران، لفيلم «البقرة»، كان هو الدافع لأن يغدو الفن السابع معترفاً به وشرعياً من النظام الجديد، لقد كان العمل خير مثال على السينما الجادة التي تحض على إعمال الفكر بتناولها أفكاراً فلسفية، ويحكى أنه قيل حينئذ: «نريد هذا النوع من الأفلام». هكذا عاد الإنتاج السينمائي بعد توقف سنتين، إنما بشروط... فحين بدأت معظم قطاعات الدولة تضع نفسها في خدمة هذا الفن، كان الهدف هو سينما تتمتع أيضاً بالقيم الإسلامية وتخدم متطلبات النظام، ولا سيما خلال الحرب. وفي هذا الإطار نشأ خط رسمي ظهرت معه أفلام «الدفاع المقدس» وأفلام الدعاية للثورة، وسار بموازاته خط آخر كان يتابع مسيرته السابقة مع مخرجين مثل مهرجوي وبهرام بيضائي وعلي حاتمي وأمير نادري وغفاري وكياروستامي، وانضم إليهم آخرون جدد مثل محسن مخملباف الذي حررته الثورة من سجون الشاه، فمشى في ركابها وبات مسؤولاً عن المسرح. بيد أنه سرعان ما تحول عنه الى السينما. وبعد سلسلة من الأفلام الدعائية للحكم، فتح مخملباف صفحة جديدة مع «البائع الجوال» عام 1987. هذه السلسلة التي تضمنت ثلاثة أفلام عن فئات مختلفة في المجتمع الإيراني، كانت البداية الحقيقية لمخملباف ومرحلة جديدة أمسى معها «فناناً حقيقياً» بعيداً من الدعاية السياسية بحسب ناقد سينمائي هنا. ويحكى أنه حين سئل مخملباف إن كان قد قرر الخروج عن الخط بعد الانتقادات التي تعرض لها بسبب أفلامه تلك، أجاب: «لقد اكتشفت السينما، وقد غيرَ هذا نظرتي للعالم». التفاف على الرقابة في الفترة التي تلت الثورة مباشرة، أي ما بين أوائل الثمانينات ومنتصفها لم تنتج سوى خمسة أفلام، توجت بفيلم أمير نادري «العداء» وهو سيرة ذاتية عن طفولة المخرج التي قضاها مشرداً في الشوارع محاولاً كسب قوته بكل ما يملك من جهد وتحد للصعوبات. وكان نادري هو الأول من بين أقرانه الذي أعطى أدوراً رئيسة للأطفال، ما توالى الآخرون على القيام به حتى سنوات قريبة، وقد اعتبر هذا التوجه نوعاً من الالتفاف على الرقابة ومحاذيرها. تلك الرقابة على الأعمال السينمائية التي لم تهبط فجأة، إذ كانت موجودة أيضاً في عهد الشاه مع اختلاف المعايير، كانت حافزاً على شحذ الأذهان وعلى إنتاج أفلام حققت للسينما الإيرانية شهرتها كفيلم بهرام بيضائي «باشو» عام 1986 الذي هو في قراءته الأولى (لكن مع بيضائي لا يمكن التوقف عند القراءة الأولى، فثمة مستويات عدة لأعماله التي تنهل من الأساطير) إدانة للحرب العراقية - الإيرانية ولآثارها المأسوية من خلال سرد حياة طفل. كان لهذه الحرب وما زال دور في إنتاج ما يطلق عليه هنا أفلام «الدفاع المقدس»، أفلام تمجد الشهيد وكل من ساهم في الدفاع عن البلاد. وهي أعمال لم تخرج بعد، باستثناء فيلمين أو ثلاثة، عن النظرة التقليدية الأحادية الجانب للحرب. وتحظى تلك الأعمال بدعم الدولة وتلقى إقبالاً جماهيرياً يتخطى كل التصورات في بعض الأحيان كما حصل مع فيلم «خراجي ها» أو «المستبعدون» بجزءيه (2007-2009) لمسعود ده نمكي (راجع «الحياة» 8-6-2007). لقد ازدهرت السينما الإيرانية في فترة التسعينات وبدايات الألفية الثالثة. وفي منتصف تلك الحقبة ساد اتجاه سياسي يميل إلى تشجيع خروج السينما الإيرانية إلى المهرجانات الدولية، وهكذا بدأت عروضها في العالم وتوالت نجاحاتها لما تتحلى به من تميز في الأسلوب الفني والحكائي. وكان لها أن تلعب في الخارج منذ بداية التسعينات ولغاية اليوم دوراً في فرض نظرة عن المجتمع الإيراني مغايرة لما تفرضه الاعتبارات السياسية. كما تميزت تلك الفترة بظهور مخرجات أضحين علامة بارزة في تاريخ السينما الإيرانية كالمخرجة رخشان بني اعتماد التي كانت الصوت النسوي للحداثة والتي لم تتوقف، سواء بأفلامها الوثائقية أو الروائية، عن رصد مجتمعها بحساسية فريدة والتعبير عن مشاكله وكل ما طرأ عليه من تمدين سريع وهجرات ريفية والحرب. وكان آخر أعمالها قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية فيلم وثائقي بعنوان «نحن نصف الشعب الإيراني»، أرادته توثيقاً لمساهمة النساء في الانتخابات المقبلة ومتطلباتهن من الرئيس التالي. أما تهمينة ميلاني فهي تهتم بوضع المرأة وحقوقها بشكل خاص في الجمهورية الإسلامية وتحاول التعبير عنها من خلال أعمالها الجماهيرية. استلهام تراث ما... لقد استوحت السينما الإيرانية الفنية الواقع ولكن أيضاً الشعر الفارسي والأدب وحكت عن أشياء أساسية كالصداقة، والعلاقات الإنسانية، إنها سينما حارة تمتلئ بالحياة وبالعفوية، شديدة الإحساس بالإنسان. بيد أن هذه السينما لا تمثل سوى 15 في المئة من الإنتاج العام الذي ارتفع من حوالى الثلاثين فيلماً سنوياً قبل الثورة مباشرة إلى المئة حالياً. وساهم اقتصار الشاشات المحلية على عرض الأفلام الإيرانية في هذه الزيادة وفي تطوير النوع الجماهيري والهزلي منه خاصة وذلك تجاوباً مع الطلب والحاجة إلى الترفيه بعد تزايد صعوبات الحياة اليومية. إن تطوير الكم على حساب النوع في الفترة الأخيرة يظهر جلياً في مجموعة الأفلام المختارة الصادرة عن هيئة دار السينما في طهران بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على الثورة الإيرانية، فقد احتوت تلك ستة أفلام من الثمانينات وعشرين من التسعينات وثلاثة من النصف الأول من الألفية الثالثة وواحداً فقط مما أنتج بعد 2005 وهو «احتفالات الأربعاء» لأصغر فرهادي. إن أسماء جديدة قد ظهرت في السينما الفنية في العقدين الأخيرين وكان بعضها موالياً للخط الرسمي وآخر يحاول الانفلات منه. ولكن السينمائيين الإيرانيين، كل حسب انتماءاته، من الذين يبحثون عن سينما فنية يشقون طريقهم على رغم الحواجز ويحاولون كل بأسلوبه متابعة عملهم وطرح التساؤلات حول السينما نفسها وحول المجتمع وما يعصف به، حول الأخلاقيات والتحولات وذلك على رغم الممنوعات...
