عودنا تاريخ الفلسفة التقليدي ألا نرى في النزعات الوثوقية والفكر الدوغمائي إلا جانبه المعرفي. فهو كان يعرض لهذه النزعات ضمن تصنيفه لنظريات المعرفة ليقابلها بما يدعوه فلسفات نقدية. على هذا النحو فالوثوقيات هي كل المواقف التي ترفض رفضاً باتاً الشك منهجاً، وتتشبث بالحقائق المطلقة معتبرة إياها في غنى عن كل نقد. صحيح أن البعض كان يتوقف عما يتمخض عن اعتناق الفكر الدوغمائي من نتائج عملية، فلا يقف عند الوجه المعرفي الصرف، إلا أنه كان يقتصر على النظر إلى هذا الوجه العملي باعتباره مجرد مفعول ونتيجة تترتب عن المعرفة والنظر. وفي هذا الإطار كان يتحدث عما يتمخض عن اعتناق الوثوقيات من مواقف متشنجة تدفع صاحبها إلى إلغاء الآخر، بل إلى قمعه وتعنيفه. لكن، لو أننا حددنا الوثوقية منذ البداية، لا على أنها موقف نظري، و"نظرية في المعرفة"، بل على أنها موقف أخلاقي- سياسي بالأساس، لتبين لنا أن الوثوقية عنيفة لا بما يصدر عنها من أقوال وأفعال، بل بما تنطوي عليه هي من آلية توحيدية ترفض كل تعدد للآراء واختلاف للمواقف، وتردد بين شك ويقين. الأمر الذي يدفعها إلى أن تدخل كل الأمور في دائرتها فتجبرها على الخضوع لمنطقها، مع ما يقتضيه ذلك من آلية إكراهية. وقد سبق لنيتشه أن بين أن كل آلية توحيدية، لا تكون كذلك إلا بما هي تنظيم وإكراه وإقحام، وإلا بما هي مقاومة فوضى الكثرة وسن منطق الهيمنة والإخضاع والقهر. هذه الآلية التوحيدية تمنع الوثوقي من أن يقبل بتعدد الآراء، وبالأحرى اختلافها. لكن، قبل أن يرفض الوثوقي الاختلاف مع غيره، يبدأ أولاً بالامتناع عن الاختلاف مع نفسه، أو، على الأصح، بالخضوع لاستحالة الاختلاف مع الذات. قبل أن يسد الوثوقي الأبواب على الغير، يسدها على نفسه، وقبل أن يمارس عنفه على الآخرين، يرزح هو نفسه تحت ضغط البداهة وعنفها. فالوثوقي لا يخضع فكره للمنطق، بل إنه يخضع كل شيء لمنطقه هو. من هنا ذلك الادعاء بالإحاطة بكل شاذة وفاذة، إذ أن أي تحفظ أو تردد من شأنه أن يحطّ من مكانته ويضعف سلطته وهيبته. ومن هنا الطابع الكلياني للوثوقية وتوتاليتاريتها. في هذا السياق كان أبو حامد الغزالي يتهم خصومه من الباطنية ويعترف أن لا سبيل إلى إقناعهم، لا لقوة آرائهم، ومتانة حججهم، وإنما لأنهم"لا يصغون". * كاتب مغربي