ليس البديل عن التفاهم عن طريق المحاججة والإقناع، الدخول في صراع جسدي عنيف. فقد يتوسط السجال العقلي وأعمال العنف مستوى يتجلى فيه عنف من غير أن يتبلور في أعمال عنف، عنف لعله أشد عنفا من العنف المادي، وأعني العنف الرمزي. ذلك أن توقّف السجال العقلي يعني سيادة الفكر الوثوقي، أي بداية عنف يسبق العنف الذي يتجسد في أفعال. فالفكر الوثوقي لا يكون فقط عنيفا بما يترتب عليه من أفعال وما يصدر عنه من أقوال، وإنما بما هو ينْشدّ، أو لنقل بما هو يُشدّ إلى ما يَعتقد أنه طبيعة مسلم بها."البداهة عنف"كما قال بارت. في البداهة والمباشرة نكون أمام منفذ واحد ما علينا إلا أن نأخذه، أو على الأصح هو الذي يأخذنا، أما في الاستدلال واللامباشرة، حيث لا تظهر الأمور طبيعية، فنحن أمام تعدد المنافذ، وعلينا أن نراجع حساباتنا، علينا أن"نضرب ألف حساب"، ونعمل حسنا النقدي، كي نأخذ أسلم السبل. في الوثوق نكون أمام وحدة الحقيقة، أما في النقد فأمام تعدد المسالك. في الوثوق نكون"في"التطابق، أما في النقد فأمام الاختلاف. في المباشرة والوثوق نحن مأخوذون، أما في اللامباشرة والنقد فنحن الذين نؤاخذ ونحاسب ونعمل الفكر. في الوثوق نكون تحت قهر البداهة وعنفها، أما في النقد والمراجعة فنحن نحتار فنختار. الفكر الوثوقي إذاً عنيف بما هو وثوقي. وعنفه عنف بنيوي. انه نسيج الفكر الدوغمائي، وهو مبدأ و ليس نتيجة. وغالبا ما يتقوى ويتضاعف حينما ترتبط الوثوقية أيضا بالتشنج واحتكار الحقيقة وقمع الآراء المخالفة. إلا أن الوثوقي، قبل أن يرفض الاختلاف مع غيره، يبدأ بالامتناع عن الاختلاف مع نفسه، أو على الأصح، بالخضوع لاستحالة الاختلاف مع الذات والتسامح معها. فقبل أن يسد الوثوقي الأبواب على الغير، يسدها على نفسه، أو على الأصح إنها"تنسد"عليه. قبل أن يمارس عنفه على الآخرين، يرزح هو نفسه تحت ضغط البداهة وعنفها. * كاتب وجامعي مغربي.