الملك وولي العهد يعزيان رئيس الإمارات في وفاة هزاع بن سلطان بن زايد آل نهيان    طائرة ركاب تابعة للوفتهانزا تعود إلى فرانكفورت بعد إقلاعها    انعقاد الدورة الثالثة للجنة السعودية - البيلاروسية المشتركة في الرياض    أمريكا: هيكل حكم جديد بغزة بديل أفضل من عملية إسرائيلية كبيرة في رفح    خوسيلو يتحول من لاعب مهمش إلى بطل سانتياغو برنابيو في دوري أبطال أوروبا    مستشار أمير منطقة مكة يرأس الأجتماع الدوري لمحافظي المنطقة    تحت رعاية أمير تبوك يطلق شارة البدء لِ رالي تبوك تويوتا ٢٠٢٤    الأمير محمد بن ناصر يكرم 20 متميزًا ومتميزة من تعليم جازان في مبادرة "منافس"2023م    وزير الشؤون الإسلامية يدشّن مبادرات "الفرص التطوعية" في جازان    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تطلق بوابة القبول الإلكترونية للعام الجامعي القادم    "إعادة" تُسجّل أداءً قوياً في الربع الأول من 2024 بارتفاع الأرباح إلى 31.8 مليون ريال بزيادة 184%    دله البركة توقع عقد إنشاء شركة مع يوروبا بارك لتنمية قطاع الترفيه في المملكة    جوازات مطار المدينة المنورة تستقبل أولى رحلات ضيوف الرحمن القادمين من تركيا لأداء مناسك حج 1445ه    حرس الحدود: القبض على 3 مخالفين بجازان لتهريبهم 100 كيلوجرام من نبات القات المخدر    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من تركيا متجهة إلى المملكة    أوليفر كان يعرب عن تعاطفه مع نوير    الجمعية السعودية لطب الأسرة تطلق ندوة "نحو حج صحي وآمن"    لجنة الصداقة البرلمانية السعودية العراقية بمجلس الشورى تجتمع مع سفيرة العراق لدى المملكة    تحت رعاية خادم الحرمين .. المملكة تعرض فرصاً استثمارية خلال مؤتمر مستقبل الطيران    مجلس الحرب يناقشها اليوم.. تعليق واشنطن شحنة الأسلحة يثير غضب إسرائيل    أمير الرياض يستقبل رؤساء المراكز ومديري القطاعات الحكومية بمحافظة المجمعة    نائب أمير عسير يتوّج فريق الدفاع المدني بكأس بطولة أجاوييد 2    النفط يرتفع مع سحب المخزونات الأمريكية وارتفاع واردات الصين    العزلة الدولية تحاصر إسرائيل.. 4 دول أوروبية تدرس الاعتراف بفلسطين    الزلفي تحتفي بعام الإبل بفعاليات منوعة وورش عمل وعروض ضوئية    عقود ب3.5 مليار لتأهيل وتشغيل محطات معالجة بالشرقية    مفتي عام المملكة يستقبل نائب الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي    أمير الحدود الشمالية يتسلّم تقريرًا عن الصناديق العائلية والوقفية بالمنطقة    فيصل بن خالد بن سلطان يطلع على مشروع ربط حي المساعدية بحي الناصرية بمدينة عرعر    جمعية البر بالشرقية توقع اتفاقية لتنمية الغطاء النباتي ومكافحة التصحر    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    «تقييم» تبدأ بتصحيح أوضاع القائمين بتقدير أضرار المركبات في عددٍ من المناطق والمحافظات    حساب المواطن يودع 3.4 مليار ريال مخصص دعم مايو    توقع بهطول أمطار رعدية    إطلاق مبادرة SPT الاستثنائية لتكريم رواد صناعة الأفلام تحت خط الإنتاج    طرح تذاكر مباراة النصر والهلال في "الديريي"    تاليسكا: جيسوس سر تطوري.. و"روشن" ضمن الأفضل عالمياً    "واتساب" يجرب ميزة جديدة للتحكم بالصور والفيديو    جدة التاريخية.. «الأنسنة» بجودة حياة وعُمران اقتصاد    عبدالله بن سعد ل «عكاظ»: الزعيم سيحصد «الدوري والكأس»    دجاجة مدللة تعيش في منزل فخم وتملك حساباً في «فيسبوك» !    الاتحاد يتحدى الهلال في نهائي كأس النخبة لكرة الطائرة    أشباح الروح    بحّارٌ مستكشف    منها الطبيب والإعلامي والمعلم .. وظائف تحميك من الخرف !    النوم.. علاج مناسب للاضطراب العاطفي    احذر.. الغضب يضيق الأوعية ويدمر القلب    القيادة تعزي رئيس البرازيل    " الحمض" يكشف جريمة قتل بعد 6 عقود    يسرق من حساب خطيبته لشراء خاتم الزفاف    الوعي وتقدير الجار كفيلان بتجنب المشاكل.. مواقف السيارات.. أزمات متجددة داخل الأحياء    روح المدينة    خلال المعرض الدولي للاختراعات في جنيف.. الطالب عبدالعزيزالحربي يحصد ذهبية تبريد بطاريات الليثيوم    فهيم يحتفل بزواج عبدالله    سعود بن جلوي يرعى حفل تخريج 470 من طلبة البكالوريوس والماجستير من كلية جدة العالمية الأهلية    لقاح لفيروسات" كورونا" غير المكتشفة    الاتصال بالوزير أسهل من المدير !    استقبل مواطنين ومسؤولين.. أمير تبوك ينوه بدور المستشفيات العسكرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هدنة 48 ساعة ثم يدور الدولاب على البشر من جديد . سوق الكرادة وحديقة الصنائع والرواية العربية : أي مستقبل للنازحين ؟ أي مستقبل للأدب ؟
نشر في الحياة يوم 01 - 08 - 2012

هدنة. 24 ساعة أو 48، من يعلم؟ هدنة ثم يدور الدولاب على البشر من جديد. عجلة التاريخ تطحن الكائنات. البشر برغش. أين نهرب؟ هل ترى تماثيل الغبار؟ هؤلاء كانوا من قبل أطفالاً. سقطت عليهم قنابل وحيطان. أتربة وسقوف. نسحبهم من تحت الركام وننظر اليهم. من بطن الأرض نسحبهم وننظر. لماذا ننظر؟ الهروب صعب. ليس سهلاً.
سيارات تنفجر في بغداد. أجسام البشر تتناثر أشلاء في سوق الكرادة. ماذا صنعوا؟ لماذا يُقتلون؟ المدرعات تجتاح مرة أخرى جنين. ناس في بيوتها تُقصف. أين يأخذنا العنف البشري؟ عنف يجرّ عنفاً. الدائرة مقفلة. نذهب الى أسفل، الى أسفل. ألا يوجد لهذا السقوط نهاية؟ ولدنا في الحرب. ونموت في الحرب. بين رصاصة ورصاصة، بين قنبلة وقنبلة، كيف نتنفس وكيف نعيش؟ كافكا عثر على التوازن في دوامة الحرب العالمية الأولى: عثر على التوازن وهو يؤلف قصصاً. أندريتش - مثل كافكا، مثل بورخيس - كرر الإنجاز ذاته أثناء الحرب العالمية الثانية. كيف يكتب كاتب في قلب الحرب؟ هل يتحرك الأدب في قلب التاريخ أم على هامش التاريخ؟ كويتزي أرسل مايكل ك في ساعة الحرب من المدينة الى الأرياف. لكن الحرب طاردت مايكل ك الى الريف البعيد.
دانتي لم يهرب من حربٍ وعنف. فعل عكس ذلك: هبط الى أعماق الجحيم. كسينغيان فرّ من الجحيم الى قمة"جبل الروح"ثم الى باريس. فلوبير تضايق من باريس العادية. باريس الطبقة الوسطى والنميمة والعلاقات المملة والسهرات الراقصة. هرب منها الى حروبٍ خيالية في قرطاجة. في رسائله يستعيد تاريخ هيرودوتس، حوليات تاسيتوس، و"إلياذة"هوميروس. كان يكتب بصعوبة. هل كان فلوبير كاتباً موهوباً؟ ماذا يكتب كاتب في زمن الحرب؟ عاش فلوبير السنوات الأخيرة من حياته حزين القلب. جاءت الحرب الى بيته. اجتاح البروسيون فرنسا، اجتاحوا بيته، أفسدوا عيشه. تولستوي استرجع التاريخ: عاد الى موسكو يحرقها الفرنسيون وكتب"الحرب والسلم". العنف يُحرك الأدب أحياناً. يُرسل فيه طاقة. ماذا تكون الحرب؟ الحرب وقت سريع يحرق الأشياء حرقاً. في ساعة يقع برج. في ساعة تنزل قرية الى بطن التراب. برمشة عين يعبر دهر على مدينة كاملة. هل ننسى هيروشيما؟
الحدود الجنوبية
الحدود الجنوبية للبلاد تكاد تفرغ من أهلها. بنت جبيل تُضرب. النبطية تُضرب. صور تُضرب. الخيام تُضرب. بيروت تعجّ بالنازحين. عمال التنظيفات هربوا مع الأجانب من العاصمة. الشوارع لا يكنسها أحد. شاحنات سوكلين ما زالت تفرغ صناديق النفايات لكن لا أحد يكنس الطريق. على رصيف شارع الحمرا أكياس وعلب طون فارغة وجرايد ومحارم وأوراق... قاذورات كثيرة متناثرة. كليما الخائف أن تجف روحه في البيت المراقَب، كليما الممنوع من الكتابة في نظامٍ شمولي، انضم الى عمال التنظيفات في بلدية براغ وحمل مكنسة وسطلاً ونزل الى الشارع. مَنْ بين كتاب بلادنا يُقلد كليما هذه الأيام؟ إيفان كليما ليس عربياً. لم يُترجم الى العربية حتى الساعة. هل يُترجم يوماً؟ أعضاء المجلس البلدي في بيروت لبسوا أوفرأولات سوكلين وحاولوا كنس الشوارع. دعوا الأهالي للاقتداء بهم. لم يقتدِ أحد.
أهل المدن لا يستسهلون حمل المكانس خارج البيوت. العمال الأجانب غادروا. والمدينة تعاني. العمال القاطنون تحت جسر فؤاد شهاب لم يغادروا. ألا يخافون؟ الجسر مكان خطر. لكن ماذا يصنع الإنسان؟ مكاتب الDHL مقفلة في اللعازارية. أمامها سيارات صفراء مصفوفة. الى متى يظلّ المطار مقفلاً؟"ملك البطاطا"في شارع الحمرا علق لافتة يطلب معلمي شاورما وسناك وفلافل.
على درج دومتكس قبالة الويمبي تجلس امرأة نازحة من الضاحية الجنوبية مع ولدين. ولد أشقر والآخر أسمر لكنهما أخوان. تقسم بينهما لفة خبز، لقمة لهذا ثم لقمة لذاك. تقول انها المرة الثانية، المرة الأولى تهجّرت من الجنوب الى الضاحية. والآن تتهجّر من الضاحية الى هنا. تنام في مدرسة الآن، ناس فوق ناس، ولا تدري أين تذهب غداً. بيتها في حارة حريك، أين بيتها الآن؟ قصفوا البناية.
ياقوت الحموي الرومي ذكر في"معجم البلدان"مدناً يحرقها التتر. ذكر مكتبات يحرقها التتر. ذكر بساتين يقطعها التتر. أبو حامد الغرناطي الأندلسي وصف زيتونة تُنبت زيتوناً عجيباً كلّما فارت مياه النبع. أين زيتونة الغرناطي؟ يبحث الإنسان عن ظل شجرة. يبحث عن لحظة هدوء. أين الهدوء في عالم يفور ناراً وموتاً؟
سنة 1912 قصفت البوارج بيروت. كان قصفاً عابراً، لكن قتلى سقطوا، ومدرسة الصنائع العثمانية في بيروت أصيبت. ثمة صور فوتوغرافية من تلك الحقبة تُظهر فجوات في حائط المدرسة. أين قصف تلك الأيام من قصف هذه الأيام؟ تعاقبت الأعوام على بلادنا وذهبت مدرسة الصنائع. حديقة الصنائع لم تذهب. ما زالت في بيروت. قبل أيام ازدحمة بالناس. ليلاً توقظهم الانفجارات. الصواريخ تزعق في السماء. البوارج تقصف الضاحية. الأطفال يفزعون من نومهم. الطفل يعمل تحته. الفزع يفرط المعدة. حرام الإنسان. ينامون في العراء. تحت مصابيح البلدية. تهجّروا وصاروا بلا بيوت. عند الصباح تدخل شاحنة سوكلين وتجمع النفايات من البراميل. هنا وهناك تتوزع الفرش ويتباعد نائمون. الشاحنة تعبر بين النيام والمستيقظين.
الإنسان هش، شديد الهشاشة. كيف يبقى على قيد الحياة؟ الرجل النازح من حبوش الى الضاحية الى هنا قال ان اخته التي تهجّرت أثناء"عناقيد الغضب"1996 تزوجت وسافرت الى استراليا مع زوجها سنة التحرير 2000. يلبس تي - شيرت رمادية مبقعة، يحكّ ذراعه ويقول انه طفح جلدي. حساسية بسبب النبات والعشب. ينام بلا اسفنجة.
فتاة تكتب
تحت صفصافة، على كرتونة، تقعد فتاة في ثوب أزرق. شعرها ملفوف بإيشارب أبيض. تسند ظهرها الى حائط الحديقة وتكتب على دفتر صغير على ركبتها. ماذا تكتب؟ إذا انتبهت أن أحداً يراقبها كفّت عن الكتابة وانتظرت حتى يبتعد. رموشها سوداء طويلة، نظرتها ذكية، عيناها تلمعان. جنبها أكياس وصناديق وفرشات مطوية وبوتاغاز وأكواب زجاج فارغة. ماذا تكتب؟ ما زالت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة. ماذا تكتب هذه الفتاة النازحة؟ أغوتا كريستوف كتبت في"الدفتر"عن قصف ونزوح وعن توأمين يصارعان في عالم الكبار العنيف، يصارعان للبقاء على قيد الحياة. هل تكتب هذه الفتاة يوماً رواية كروايات أغوتا كريستوف؟"الدفتر"لم تترجم الى العربية بعد.
خارج سور الحديقة امرأة مرتبة الثياب، نظيفة الوجه والشعر، تُنزه كلبها الفرنجي. ألم تجد مكاناً آخر؟ عند زاوية السور الى جهة شارع مدحت باشا رجل يبيع ثياباً. عند الزاوية الأخرى هاتف عمومي ونازح عجوز يتكلم في الهاتف غاضباً. معه عصا ويضرب بعصاه الأرض. يدق الرصيف وهو يتكلم عن الإسهال الذي استحكم عليه. يطلب ناساً الى الهاتف ثم يقول: أما زالوا نائمين؟
البيروتيون سمّوا 2005 أسماء كثيرة. سنة الاستقلال إسم. سنة السيارات إسم آخر. سيارات كثيرة انفجرت في المدينة أثناء 2005. سنة 2006 سنة قنابل وغارات ونزوح وبوارج وصواريخ. هل تمحو سنة الصواريخ سنة السيارات؟ هذه بلاد غريبة. هل نبقى أحياء الى غدٍ؟ هل نبلغ 2007؟ كيف نحفظ للبلاد تاريخاً وذاكرة؟ هل الأدب ذاكرة؟ هل هذه وظيفة الأدب؟ أن يحفظ تاريخ العالم؟ أن يمنع ممحاة الوقت من محو الأشياء، اللحظة الهاربة، البشر، العمارات، الحياة؟
لكن من يقرأ بالعربية أدباً؟ تقارير التنمية البشرية دليلنا الى الأمية المتفشية. من يقرأ أدباً؟ لعل أحداً لا يقرأ. حتى الجريدة لا نقرأ. أي مستقبل لهذه البلاد؟ أي مستقبل للإنسان؟ وأي مستقبل للأدب؟ أين الأمل؟ هل الأمل موجود؟ كيف تواجه الرواية العربية كل هذا العنف؟ ماذا يصنع بها؟ هل لها دور أو وظيفة؟ تعكس الرواية العالم. تصنع عالماً خيالياً يوازي هذا العالم. أي عوالم خيالية ستصنع الرواية العربية في سنوات آتية؟
الحديقة المسكونة
الجمعة 28 تموز يوليو 2006. حديقة الصنائع مملوءة نازحين. مستطيل فسيح من الأشجار الخضراء ومروج العشب والتراب الأحمر. مستطيل مسور بحائط حجر ارتفاعه متر. وتعلو الحائط الحجري قضبان حديد سوداء بعلو متر أيضاً. رؤوس القضبان مثلثات مذهبة. درابزين الحديقة معتنى به. قبل شهور طلي بالطلاء الأسود من جديد. ساعة الظهيرة تلمع المثلثات المذهبة في رؤوس القضبان الحديد. الناس لا يهتمون بدرابزين الحديقة الآن. الحديقة لم تعد حديقة. تحولت مخيماً للنازحين. ناس هربوا من النار والدم. هربوا من الحدود الجنوبية للبلاد. وهربوا من الضاحية الجنوبية للمدينة. المدينة عاصمة هذه البلاد. عدد سكانها يقارب مليون ونصف مليون. لكن في هذه الأيام لا أحد يعلم عدد سكان المدينة. كثر نزحوا الى وراء البحر. لكن هذا لم يُفرغ المدينة. ملأتها قطعان بشرية فرّت من الموت - من بيوت تُدمر - الى مدارس وجوامع وساحات لم تهدمها القنابل بعد. نهرب الى حيث نبقى على قيد الحياة. حديقة الصنائع مدينة الأحزان.
هذا ليس صيف 2004 المزدحم بالسياح. أهل المنطقة لا يأتون الى هنا للنزهة الآن. لا يحملون الأولاد والدراجات وكعكات الزعتر والسمّاق للجلوس في هذه الأفياء والاستراحة من صخب المدينة ومن ضيق الشقق. الحديقة أصلاً ليست بعيدة من صخب المدينة. الشارع الذي يفصلها عن مبنى الإذاعة وعن الجامعة اللبنانية فرع الحقوق يزدحم بالسيارات طوال النهار. شارع طويل يصل جسر فؤاد شهاب بالحمرا. الحديقة تقع على تخوم الحمرا في رمل الظريف. المعمرون سكان هذه الأحياء يخبرونك انها كانت رملاً أحمر في زمن الأجداد. الحاج النصولي المقيم في الملاّ يذكر الشارع المتاخم للحديقة من جهة سجن بيروت. يذكر الشارع قبل أن يُفرش بالإسفلت. يذكر بيوتاً متباعدة ورملاً أحمر يتحول الى بلاطة حمراء ووحول حمراء في الشتاء، وإلى أمواج من الغبار الأحمر الفظيع في فصل الصيف.
السجن المجاور لم يعد سجناً. أُقفل قبل سنين بعيدة. في جوار هذا السجن قُتل رئيس للجمهورية عند نهايات الحرب الأهلية الطويلة. السجن كان بائساً. أقبية رطبة تحت الأرض وباحة لنزهة المحابيس مسقوفة بالشبك والحديد الشائك. الحاج النصولي كان يرى من بيته العالي - من شرفة البيت على الطابق السادس - المحابيس عند خروجهم للنزهة. قال انه اعتاد ساعة نزهتهم وصار يوقت خروجه الى الشرفة العالية مع خروجهم. الآن لا يفعل ذلك. السجن أقفل قبل سنين. صار مولعاً بالحمائم. عنده أقارب يربون الحمائم على السطوح. وحين ينزل الى الحديقة القريبة - حين كان ينزل الى الحديقة القريبة - كان يشتري كعكة من بائع الكعك على الباب ويبلها ماء ويكسر منها الفتافيت للحمائم. طيور الحمام ما زالت في الحديقة، لم يتركها الحمام. لكن كيف ينزل ويجلس على المقعد الخشب الأخضر الطويل والحديقة الآن مملوءة مهجرين مشردين بلا بيوت. منظر يكسر القلب. الله يساعد من لا بيت عنده، من لا سقف فوق رأسه يرد عنه الشمس والمذلة. الذل، الذلّ. قال الحاج انه لا يخرج الى الشرفة أبداً. بناته يشتغلن مع جمعية، وحفيداته أيضاً. لكن ماذا تستطيع الجمعيات؟ البلد كله يُحرق بهذه القنابل ولا أحد يكنس الطريق، الله يساعدنا.
الحديقة تتوسط أبراجاً عالية. أبراج نبتت فخمة بعد نهاية الحرب سنة 1990، من جهة الشرق تطلّ"سرايا الحدائق". من الغرب عمارات عالية غيرها. الى الشمال الجامعة وسقوف القرميد ومبنى الإذاعة. الى الجنوب أحياء متشابكة: الملا والظريف ثم نزلة الحص. تطلع الشمس على جنينة الصنائع من وراء بنايات عالية وتغيب عنها وراء بنايات عالية.
الضاحية
تذهب الى الضاحية الجنوبية فلا تصل. سائق التاكسي يأخذك نصف المسافة. يقول الى هنا فقط، من هنا الطرقات مقطوعة، البنايات وقعت على الطريق. يقول من هنا الطريق خطرة، لماذا تذهب الى هناك، هل بيتك هناك، لم تعد توجد بيوت حيث تذهب. لا تجادل الرجل، لن يتقدم متراً آخر، تدفع ما عليك وتنزل. قطعت نصف الطريق. عليك - كزينون الإيلي - أن تقطع النصف الباقي. لماذا ركبت السيارة أصلاً؟ المشي أحسن. الپ"أم كا"تطنّ عالياً في السماء. العين لا تراها. لكن الأذن تسمعها. بعد تحليق الطائرات الاستطلاعية تُشن الغارات. لكننا في وقت الصباح. لم نبلغ الظهيرة بعد. الطيران لن يشنّ غارة الآن على الأرجح. ترى سيارات آتية من هناك، من أرض الخراب، سيارات مطمورة تحت أكياس منتفخة على سطحها. الصناديق الخلفية مفتوحة، وفي الصناديق أكياس أيضاً. أكياس لجمع النفايات، أكياس نايلون زرقاء وبيضاء وسوداء، لكنها مملوءة ثياباً وأشياء أخرى. ليست نفايات. هذا ما بقي للناس الهاربين من جبال الباطون المتساقطة. نصف مليون تبعثرهم الغارات. ما هذه الصواريخ المرعبة؟ كيف يقص الانفجار بناية كاملة؟ يقطعها من كعبها كفأس تقطع شجرة. تسقط البناية كاملة على جنبها، تسقط بطبقاتها كما هي ويرتفع الغبار ويغطي العالم. ليس غباراً. عاصفة من الباطون المطحون، عاصفة من الأتربة والحجارة. عاصفة تقذف سيارة من مكانها، تقذف رجالاً، تقذف أطفالاً، تقذف الإنسان كأن الإنسان حشرة. البشر برغش. ضغط الانفجارات ينفخ أبواب المحلات على بعد شارعين، على بعد ثلاثة شوارع. ينفخها كالبوالين. مع هذا ترى ناساً يخطون فوق الأنقاض، عيونهم زائغة وغير زائغة. يبحثون عما يبحثون، ويتوازنون فوق كوم الحجارة. عجيب الإنسان. ما أكبره.
الأمم المتحدة خائفة على بلادنا من كارثة إنسانية. مشكلة النزوح ليس الجوع بل المرض. الجوع مشكلة بالتأكيد. لكن يمكن الوصول الى حلول سريعة. الجمعيات تساعد والدول تساعد والناس يساعدون. نلف سندويشات ونملأ علب الكرتون الكبيرة وننزل الى الحديقة. نوزع سندويشات جبنة ولبنة على الكبار. نوزع سندويشات شوكولا للصغار بين سن الثالثة والعاشرة. للصغار الصغار، للأطفال، نجلب حليباً مجففاً وسيريلاك. الجوع شبح فظيع. لكن يمكن إبعاده بسندويشة... الى حين. أما الأمراض، أما تفشي الأمراض المعدية، فهذه مشكلة أخطر. الماء قليل والصابون قليل فكيف تمنع الأمراض أن تتفشى. ثم ان لا خيم هنا. الناس في الحديقة ينامون بلا خيم. يستخدمون حمامات الحديقة العمومية وينامون بلا خيم. دبّروا فرشات اسفنجاً ودبّروا مخداً وبطانيات. أصلاً بلا مخَد نقدر أن ننام. الحذاء يمكن تحويله الى مخدة. الذراع المطوية مخدة. القديسون ألقوا رؤوسهم على حطبة، على حجر، على تراب، وناموا. المخدة رفاهية. يُستغنى عنها. البطانية أيضاً. لم يحل الشتاء بعد. نحن في الصيف. في إحدى مدارس الأشرفية قال ولد يلبس قميص أبيه الفضفاضة انه يشتاق الى المروحة في بيتهم. بيتهم في حولا في الجنوب. الأم قالت لم يعد هناك بيت، البيت وقع.
أريد سندويشة جبنة
بيروت تقطع صيفاً حاراً، البلاد كلها تقطع صيفاً حاراً، والولد يشتاق الى مروحة بيته. الولد عنده سقف فوق رأسه، ينام في صف مع 19 شخصاً. أخوه يلبس ثياب"سبايدر مان"بالية مغبرة ويقفز بين الكراسي. أهل حديقة الصنائع ناموا في الهواء الطلق. البرغش مشكلة في الليل. البراغيث وحشرات أخرى أيضاً. الحشرات ناقلة أمراض. لكن ماذا نصنع؟ شاحنة للبلدية تدور حول الحديقة وترش مبيداً. هذا حسن. هذا مفيد. هذا يساعد. واقفاً في قلب الحديقة، والناس يأتون الى الفتيات حاملات السندويشات في علب الكرتون، واقفاً في قلب الحديقة والحمائم ترف فوق الرؤوس، واقفاً في قلب حديقة الصنائع يرى الواحد الغيمة البيضاء تدور مع هدير المحرك، تتحرك على طول الشارع وتنعطف في زاوية قائمة وراء الأشجار وتتابع طريقها. تلف الشاحنة الصغيرة المستطيل الأخضر، تلف حول الدرابزين الأسود والسور الحجري الواطئ، وتنفث غيمة من البخار الأبيض. السحابة البيضاء قد تساعد. في داخل الحديقة ترتفع الأصوات. أحد الرجال يطلب عدداً أكبر من السندويشات. الفتاة ذات الشعر القصير والقميص الزهر تحاول أن تشرح له مبدأ توزيع الطعام: انها تدور مع صديقتها على الجالسين، ليذهب ويجلس على فرشته مع عائلته حيث يجلسون عادة والدور سيصل اليه. الرجل يتخلص من مداسه ويقعد على التراب ويقول أنا وحدي، وأنا قاعد هنا، أريد سندويشة جبنة.
رجل في قميص بني يحمل مسبحة خضراء، يقول"تفضلوا، تفضلوا"ويدلها الى عائلته. رجال يبتسمون وهم يتلقون سندويشات اللبنة. يتبادلون النكات مع الفتاة وهي تعطيهم من الصندوق سندويشة. رجل خمسيني في فانلة بيضاء، عرقان الرقبة، يقول للفتاة أنا كبير لكن كنت من زمان صغيراً، هل أُعطى سندويشتي شوكولا؟
سندويشات خبز فرنجي، كثيرة في الكيس في الصندوق. لكن الكيس يفرغ خلال لحظة. العائلات كبيرة. أولاد يركضون حول البركة الناشفة. هذه البركة نادراً ما تُرى مملوءة ماء. في هذه الحديقة نصب عثماني قديم نُقشت عليه كلمات بالعربية والتركية. الأتراك غادروا هذه الأرض قبل زمن بعيد. أخرجتهم الحرب العالمية الأولى. الامبراطورية العثمانية تداعت ولا أحد من سكان الحديقة تخطر في باله الآن امبراطورية عثمانية. حتى الرعايا الأتراك وحتى الأتراك الذين يحملون جنسية لبنانية غادروا بلادنا هذا الشهر. صباح يوم الاثنين 24 تموز يوليو 2006 احتشدوا في ساحة البرج ساحة الشهداء واحتشدوا في شارع الأمير بشير على بعد خطوات من مبنى"الحياة" واحتشدوا على أرصفة اللعازارية. وقفوا في الشمس مع حقائب وأكياس. رجال ونساء وأولاد وعجائز. العابر هناك أحصى 12 باصاً ضخماً. قبالة كاتدرائية مار جرجس وقفت امرأة تنظر الى طفلها في عربته الصغيرة. العربة تلفت بلونها الساطع، بمظلة القطن الأزرق. الطفل أبيض البشرة ذهبي الشعر، جبينه عرقان في هذا الحر. من ينهكه التعب أكثر؟ الطفل أم أمه؟ تراهم وأنت ذاهب الى الجريدة ثم يضيعون حيث يضيعون وبعد يومين تراهم فجأة على التلفزيون على قناة"يورو نيوز" وهم يخرجون من باخرة في مرسين تركيا ويسيرون في صف طويل الى باصات مركونة على طريق المرفأ. ترى المرأة التي رأيتها على اللعازارية وترى الطفل الأشقر في العربة الزرقاء، صورة تستمر رمشة عين، تمرّ بلا تعليق، فقط ترى المكتوب في زاوية الصورة، تاريخ اليوم 25 أم 26؟ وجنب التاريخ كلمة مرسين وكلمة تركيا. الكلمتان بالحرف اللاتيني. حسنٌ أنك تعرف الحرف اللاتيني. كم تأخذ الرحلة من اللعازارية الى مرسين؟ الرحلة بالبحر من مرفأ بيروت الى قبرص 11 ساعة. الذين أرسلوا عائلاتهم بالبحر قالوا دامت الرحلة 12 ساعة. تركيا أبعد من قبرص؟
على التراب
سكان حديقة الصنائع أين يذهبون؟ تحت أشجار الكينا سيارات متوقفة. السيارات ملآنة أشياء. جمعوا فيها ما استطاعوا أن يجمعوا قبل الخروج والتغرب. في باص صغير ينام شبان بثيابهم. على كرتونة في زاوية يتمدد فتى في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة وهو يستمع الى أغنية من مذياع أحمر صغير. عيناه فارغتان، الى أين ينظر؟ تعبر أمامه فلا يراك. لا يرى أحداً. نظرته نظرة العجائز. أين ينظر؟ على بعد أمتار امرأة سمراء صغيرة جالسة القرفصاء على التراب، وجنبها على فرشة اسفنج طفلان. الطفلان نائمان. تكشّ الذبان إذا اقترب. أمامها كأس شاي. لم تشرب الشاي بعد. مع أنه يبدو بارداً.
تحت أشجار قصيرة لا تصنع ظلاً، امرأة تغسل ابنها في وعاء من بلاستيك أبيض. الوعاء لا يتسع للولد. الولد يحاول الهروب من أمه. لكن أصابعها قوية. تقبض عليه من ذراعه وتفرك رأسه بالصابونة. الصابونة غير مرئية. لكنك ترى الرغوة على رأس الصبي. وراء الشجيرات سرب حمائم.
أحد الأولاد يلقط حمامة. الدركي الجالس على المقعد ينظر اليه لكنه لا يقول شيئاً. أحد العجائز يقول للصبي"حرام، حرام اتركها". الولد يطلق الحمامة. تطير على مضض. كأنها تفضل راحة الولد. ليست بخير. تنزل على بعد مترين وتعرج وهي تتحرك بين المقاعد.
بنتان لم تتجاوزا السادسة تقتربان حاملتين بينهما كيساً أسود. تجمعان المهملات. الصغيرة تجذب الكيس وتحاول شد أختها الى علب مرمية جنب ناس نيام. الأخرى تشدها في الاتجاه المعاكس."من هون"تقول، وتشدّ أختها الصغيرة الى نفايات أخرى بعيدة من الناس. لا تريد أن تضايقهم، ولعلها تخشى الاقتراب من الآخرين، من يعلم؟ الثياب عليها قليلة. شعرها مربوط في جديلة. على ساقها اليسرى خدوش وأثر دم. الشحاطة البلاستيك تطقطق وهي تبتعد مع أختها. أين أهلها؟ أين فرشتها؟
الفتاة التي تساعد بتوزيع السندويشات قالت إنها تنام مع عائلتها المكونة من تسعة أشخاص على فرشتين، أما الأب فينام على الأرض. أبي ينام على التراب، قالت."وأمس نمنا بلا عشاء". سكت الرجل الذي يجادلها من أجل سندويشة إضافية. أسكتته كلماتها. أتى ولد وطلب سندويشة لبنة بدل الجبنة. قال إنه لا يحبّ الجبنة، الجبنة طعمها مثل النمل.
المفروض أن تأخذ سندويشة شوكولا، قالت الفتاة ذات الشعر القصير. تردد الولد. بدا خائفاً. ماذا يفعل؟ هل يتراجع؟ هل يكرر طلبه؟ هل يفرّ بما حصل عليه؟ أعطته الفتاة ما يطلب. هذه الفتاة ملاك الرحمة في هذه الحديقة في هذه الساعة.
على ظهرها حقيبة. لكنها تتحرك بنشاط حاملة الكرتونة. الناس يتبعونها من فرشة الى فرشة. وراء الفتاة شاب أزرق القميص لا ندري من يكون، يسير ولا يتكلم.
تقول للناس سنمر عليكم بالدور، فيتفرقون كل الى فرشته.
الرجل الذي يكنس الحديقة يقترب ويطلب سندويشة. يقول انه موظف هنا، لكنه مهجر أيضاً، مهجر من سنوات وسنوات ويريد سندويشة. رجل ثالث يدنو ويقول انه لم يحصل على سندويشة بعد. تسأله الفتاة أين يجلس فيدلّها الى الجانب الآخر. اذهبْ الى فلان، تقول له، هو يوزع هناك. فلان شاب يساعد الفتاة حاملاً صندوقاً آخر يقول انهم دائماً بحاجة الى سندويشات إضافية. الحديقة ملآنة ناساً والسندويشات لا تكفي. بنت صغيرة تقترب وعلى فمها شوكولا، تشدّ الشاب من قميصه ولا تقول شيئاً.
درج ينزل الى تحت
عند مدخل الحمامات العمومية فتيات يغسلن ثياباً. على درابزين داخلي ثياب منشورة. على حبل بين شجرتين أيضاً. وعلى شجيرات قصيرة. زوايا الحديقة أثمن الأماكن. هنا ظل. وإذا نصبت بطانية أو شرشفاً صنعت خيمة أو ما يشبه الخيمة. توجد خيمة فعلاً مكتوب عليها كلمة"إسعاف". وجنب الخيمة امرأة. وجنب المرأة طفلة فوقها ناموسية بيضاء. الناموسية جديدة حلوة تحمي الطفلة. طفلة أم طفل؟ الناموسية باهرة البياض، تخطف البصر خطفاً. الأم تقعد ساكتة، محدقة الى التراب.
الحمائم كثيرة هنا. ثمة بيوت خشب معمولة لهذه الطيور منذ سنوات، بيوت خشب على أشجار الصفصاف. جذوع الصفصاف قديمة حمراء، قشرتها بيضاء. تحت الأشجار مقاعد خشب خضراء ينام عليها النازحون وينظرون الى الحمائم. امرأة قاعدة في ظل حائط تعبث بشريط أصفر بين أصابعها. تحدق الى نقطة غير مرئية. مثل ذلك الفتى الفارغ العينين. أين تنظر هذه المرأة؟ ماذا ينتظرها؟ أين كانت قبل صيف؟ أين يأخذها هذا الصيف؟
المياه أمام الحمامات قوية الرائحة. هناك درج ينزل الى الحمامات.
حمامات الرجال في الجهة الأخرى. بلا درج. وليست تحت الأرض.
امرأة بقميص أحمر كالدم وتنورة ناصعة البياض وكعب عالٍ أسود تعبر متهادية بين الفرش والناس القاعدين على الحافة. في يد آلة تسجيل. وفي اليد الأخرى كوب عصير. فوق فرش مطوية يقف زميلها: يحمل آلة تصوير ويلتقط صوراً. يدور حول النساء والأطفال."زوم"الكاميرا طويل رصاصي اللون. الأطفال يتراجعون أمام العدسة الهاجمة. ركوة ماء تغلي على بوتاغاز صغير. لا أحد ينتبه أن الركوة تغلي وتهتز وتغلي.
الحمائم تطير فوق حديقة الصنائع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.