هل يعرف كاتب أسلافه؟ هل يعرف كاتب من هم الكتاب الذين أعطوه رؤيته وأسلوبه ونظرته الى اللغة والعالم؟ الأدب تقليد. ليس اختراعات. الأدب تراث. اليوت عرف هذا باكراً. بورخيس كتب انه في حياته كلها لم يغادر مكتبة أبيه: مكتبة الطفولة. كافكا كرر قراءة كتبه المفضلة حتى تفتت ورقها الأصفر بين أصابعه النحيلة العظم. دانتي لم ينزل الى تحت الأرض إلا بعد أن حفظ أناشيد فيرجيل. لم يقرأ دانتي هوميروس. لكن هوميروس - مع هذا - أحد أسلاف دانتي. تشبّع دانتي بهوميروس وهو يقرأ فيرجيل. جرجي زيدان كتب مرة ان فيرجيل أخذ"الانياذة"كاملة عن"أوذيسة"هوميروس. جرجي زيدان - ابن ساحة البرج في بيروت الذي قطع البحر فتحول مصرياً - غريب الأطوار. يسمي ملحمة فيرجيل الإلياذة. لا يسميها الإنياذة. هذا الخطأ المطبعي يأخذنا الى خلاصة طريفة: لا فارق بين الإلياذة والانياذة. لا فارق بين ملحمة هوميروس وملحمة فيرجيل. على الأقل في الصفحة التي يكتبها جرجي زيدان لا فارق بين الاثنتين. لكن فيرجيل ليس هوميروس. ودانتي ليس فيرجيل. "كافكا وأسلافه"عنوان مقالة لبورخيس. يقول بورخيس ان كافكا اخترع أسلافه. وان زينون الايلي الذي يترك النقطة"أ"فلا يبلغ النقطة"ب"أبداً هو الشخصية الكافكاوية الأولى في تاريخ الأدب. الحركة مستحيلة في مفارقات زينون الايلي. لا تقطع المسافة من"أ"الى"ب"لأنك قبل ذلك عليك أن تقطع نصف هذه المسافة، وقبل ذلك نصف هذا النصف، وهكذا دواليك الى ما لا نهاية. أليس هذا ما يحدث لبطل"القلعة"؟ أليس هذا سر"الرسالة الأمبراطورية"؟ أليست هذه المفارقة صانعة"طبيب الريف"؟ هذا قاسم مشترك بين أقاصيص كافكا: العجز البشري عن بلوغ الهدف. هل هناك هدف؟ ظلمة كافكا ذات طبقات. بورخيس لا يكتب عن هذا في مقالته. لكنه حين يذكر ان كافكا أبدع أسلافه يضع هامشاً. في الهامش نقرأ اسم اليوت. نتابع القراءة لأن المتن أهم من الهامش: كافكا اخترع اسلافه لأننا من دون كافكا لا نرى في مفارقة زينون الإيلي سر كافكا. قبل أن يوجد كافكا كنا نفهم مفارقة زينون الإيلي على نحو. وبعد قراءة كافكا صرنا نقرأ زينون الايلي على نحو آخر."ألف ليلة وليلة"قبل قراءة بورخيس ليست الكتاب ذاته بعد قراءة بورخيس."ألف ليلة وليلة"قبل ترجمات غالان وبيرتون ولاين ليست"ألف ليلة وليلة"التي نقرأها الآن. بورخيس صاحب حيل. يذكر ت. س. اليوت في الهامش. فإذا لم نرجع الى اليوت ونقرأه لا ندرك ان صاحب"الأرض اليباب"كتب جملة بورخيس قبله بعشر سنوات. بورخيس كتب مقالة"كافكا وأسلافه"سنة 1951. لكن سنة 1941 يكتب اليوت مقالة عن الأدب والتقليد تمر فيها الجملة الآتية:"كل كاتب يصنع أسلافه". يخترع كل كاتب أسلافه لأن كل نص جديد يغير اسلوب قراءة النص الذي سبقه. يغير بالتالي النص السابق. لهذا تتغير الكتب الى ما لا نهاية بمرور الأعوام. الكتاب ليس واحداً. الكتاب عدد لا نهائي من الكتب. ابن عربي عرف هذا وهو يُدون"الفتوحات المكية". بورخيس عرف هذا قبل زمن بعيد من تأليفه"كتاب الرمل". هذه القصة القصيرة التي كتبها بورخيس في القسم الأخير من حياته تخرج من هامش على قصة قديمة كتبها في القسم الأول من حياته. نقرأ في أحد هوامش"مكتبة بابل"خبر كتاب يغدو"كتاب الرمل"بعد نصف قرن تقريباً. ياقوت الحموي الرومي يأخذ عن ابن فضلان. زكريا القزويني - العلاّمة الفارسي الذي كتب بالعربية - يأخذ عن أبي حامد الغرناطي ويُسميه الأندلسي. ايتالو كالفينو يحاور مرة ملحمة اورلاندو الهائج في ثلاثيته""الأسلاف". ويحاور مرة أخرى ماركو بولو القديم ابن القرن الثالث عشر في"مدن غير مرئية". مدن كالفينو الخفية تخرج من قراءة ماركو بولو. أدب يخرج من قراءة. ماذا قال اليوت؟ الأدب تقليد. صحيح. لكنه تقليد مشبع بالخيال. اذا أراد أحدنا أن يكتب"دون كيشوت"اليوم كتب كتاباً جديداً لا علاقة له بالأول، حتى ولو كان ينسخه سطراً سطراً. بيار مينارد فعل ذلك. قارئ"دون كيشوت"اليوم يرى فيها عالماً لم يعرفه قارئ الرواية ذاتها في اسبانيا القرن السابع عشر. الأدب يتحول بمرور الأعوام. مدن كالفينو الخفية تنتسب الى القرن العشرين لأن صاحبها ينتسب الى هذا القرن. كاتب مفرط الحساسية، متوتر الأعضاء، يقرأ عن مدن ماركو بولو الساكنة القديمة فيكتشف مدناً توازيها في أعماقه. السيد بالومار تصفعه الضجة في روما. تصفعه الروائح. تصفعه أسلاك الكهرباء. مثل ماركو فالدو يأكل فطراً نابتاً جنب الرصيف ويتسمم. حتى من دون أن يأكل أرنباً خارجاً من المختبر يتسمم. صورة المدينة الحديثة، صورة العالم الحديث الهائج، صورة البشرية المتكاثرة في شقق داخل بنايات، هذه الصور تكفي لترسل ذعراً وسماً في عروقه. الدم يفسد في بدنه وهو يعبر الطريق. يريد أن يهرب. أين يهرب؟ يهرب الى الصين وعالم ماركو بولو الخيالي. لكنه - هناك أيضاً - لا يرى إلا المدن الحديثة. المدينة حالة نفسية. ماركو بولو أيضاً كان يبحث عن مدينته، عن البندقية العائمة على الماء وهو يكتب وصف كاثاي او وصف كين ساي أو وصف أي مدينة صينية أخرى. فرانسيس وود تقول ان ماركو بولو لم يبلغ الصين يوماً. هل ألّف ماركو بولو كتابه عن الصين ومدنها الخيالية - الواقعية وهو قاعد في بيت صغير في اسطنبول محاطاً بالكتب؟ سرفانتس زعم انه أخذ روايته عن مخطوط عربي عثر عليه في أسواق طليطلة. أخذ المخطوط وترجمه من العربية الى الاسبانية وأضاف اليه. زعم سرفانتس يتحول حقيقة غريبة في القرن التاسع عشر: رجل يترجم"ألف ليلة وليلة"زاعماً انه يترجمها عن مخطوط تونسي. المترجم المذكور أراد أن يقدم ترجمة جديدة تختلف عن ترجمات غالان وبيرتون وآخرين. لماذا زعم انه يترجم الكتاب العربي نفسه عن مخطوط خيالي تونسي؟ في العقد الأول من القرن الثامن عشر بدأ غالان ترجمة"ألف ليلة وليلة"الى الفرنسية. نُشر الكتاب في 12 مجلداً المجلد الأخير ظهر بعد موت غالان وعرفت"الليالي العربية"انتشاراً واسعاً. غالان ضمّ الى المخطوط العربي الذي يترجمه قصصاً وحكايات ليست فيه، وقال ان هذه القصص نقلها اليه ماروني من حلب اسمه حنا. هل كان حنا الحلبي الماروني شخصية حقيقية؟ هل سمع غالان قصة علاء الدين وقصة علي بابا من عضلة لسان حنا الحلبي الماروني حقاً؟ أم ان حنا - هو أيضاً - حكاية خيالية؟ بورخيس لا يطرح هذا السؤال."الموسوعة الاسلامية"مملوءة بأسماء كتاب ترجموا"ألف ليلة وليلة"الى لغاتهم. بورخيس يعرف هذه الأسماء لكنه لا يذكرها كلها في مقالته عن مترجمي"ألف ليلة وليلة". هؤلاء كلهم أسلاف بورخيس."ألف ليلة وليلة"أكثر من كتاب واحد. الارجنتيني الأعمى لم يكن أعمى بعد حين خطّ تلك المقالة. ربط بين بيرتون ودمشق، بين غالان واسطنبول، بين لاين والقاهرة. كل واحد من هؤلاء عثر على"ألف ليلة وليلة"في مكان شبه خيالي - في مدينة تقع في هذه الجهة من العالم. بورخيس ابن بوينس أيرس البعيدة لم يأت الى بلادنا في شبابه ولم يعثر على مخطوطات عربية في حلب أو الشام أو القاهرة. عثر على"ألف ليلة وليلة"مترجمة الى الانكليزية في مكتبة أبيه في ضاحية بوينس أيرس الجنوبية. لا يذكر روسياً اسمه كريمسكي. مع ان كريمسكي يحضر في"الموسوعة الاسلامية". هذا الرجل الذي أقام في بيروت عند نهاية القرن التاسع عشر هو أيضاً فتنه كتاب"ألف ليلة وليلة". تعليقاته وهوامشه على الترجمة الروسية تُذكر في"الموسوعة الاسلامية". مثله مثل بيرتون ولاين وغالان وغيرهم وجد في الحكايات الخيالية عالماً كاملاً. من كانت شهرزاد؟ من ألّف"ألف ليلة وليلة"؟ ماركيز يذكر"ألف ليلة وليلة"في"مئة عام من العزلة". كل أدباء أميركا اللاتينية يذكرون بورخيس عند ذكر هذا الكتاب. غالان أعطى الكتاب حياة جديدة في القرن الثامن عشر. بيرتون كرر ذلك في القرن التاسع عشر. هذا الانكليزي - الذي حجّ الى مكة متنكراً وترجم"ألف ليلة وليلة"في 16 مجلداً - أحد أسلاف بورخيس. بورخيس دلّ أميركا اللاتينية والعالم الى"ليالي"بيرتون ومجلداته أعماله الكاملة 72 مجلداً! وهو يشرب المتّة في بيته الصغير. أين عاش شهريار؟ لم يكن أبناً لبغداد. لم يكن ابناً للقاهرة. لم يسكن اصفهان ولا سمرقند. شهريار - كما تخبرنا الصفحة الأولى من"ألف ليلة وليلة"- كان ملكاً في جزائر الهندوالصين. هناك، في أقصى الشرق، في جزائر الخيال، كان ملكاً. شهرزاد ستروي له حكايات، وداخل الحكايات يظهر رواة، وهؤلاء أيضاً يتكلمون. الكلمات تأخذه الى عوالم خيالية: الى بغداد والشام والقاهرة. أسماء الأماكن لا تحصى في هذا الكتاب. الرحلات كثيرة. وكلها تجري داخل غرفة تضم شهريار وزوجته، في احدى الجزائر البعيدة، في بحار الهند أو الصين. هؤلاء أسلافنا أيضاً. كائنات خيالية ما زالت تؤثر فينا - وفي رواياتنا - الى هذه الساعة. هل يخترع الكاتب أسلافه؟ الرجل الذي يقرأ هوميروس مرة تلو مرة تلو مرة، عاماً اثر عام اثر عام، الا يصير هوميروس؟ وهو نائم يلفظ أبياتاً شعرية من ترجمة روبرت فيتزجيرالد الانكليزية للالياذة. هوميروس الاغريقي يحيا فيه، شاعراً انكليزياً قوي الكلمات، مخيف الخيال. الكاتب يخترع أسلافه بينما يخترعونه. تقرأ ستيفنسون حتى تحفظه. فيصير قطعة من جسمك. تشعر به وأنت تقطع دروب مدينتك تحت أضواء الليل. يجلس على الكرسي الهزاز في أعماقك ويدخن غليوناً. ماذا يقرأ؟ يقرأ"اعترافات ماركوس اوريليوس". هل يعرف كاتبٌ أسلافه؟