زعيم المعارضة: نتنياهو يبيع الجنود.. وحكومته عاجزة    صفقة أسلحة أمريكية ضخمة إلى إسرائيل    المملكة تحقق المركز 16عالميًا في تقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية 2024    ارتفاع أسعار الذهب إلى إلى 2320.69 دولارًا للأوقية    الإمارات تخصص 70% من تعهدها البالغ 100 مليون دولار للأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية في السودان    طيار مصري يفارق الحياة في الجو… ومساعده يبلغ الركاب ويغير مسار الرحلة خلال رحلة من القاهرة إلى الطائف    مفتي عام المملكة يستقبل مدير عام الجوازات    6 نصائح للمتكممين خلال العيد    انطلاق أعمال الجناح السعودي المشارك في معرض يوروساتوري 2024    تعرف على درجات الحرارة في مكة والمشاعر المقدسة    "الداخلية" تستضيف أسر الشهداء والمصابين لأداء مناسك حج هذا العام 1445ه    هذا سبب ارتفاع أقساط السيارات في الوقت الحالي    ليان العنزي: نفذت وصية والدي في خدمة ضيوف الرحمن    سعود بن مشعل يستقبل مدير عام المجاهدين    بحضور تركي آل الشيخ.. نجوم "ولاد رزق 3" يُدشنون العرض الأول للفيلم في السعودية    قائد أحب شعبه فأحبوه    الرئيس المصري يغادر بعد أداء الحج    في 2025.. ستصبح الشوكولاتة باهظة الثمن !    مصادر «عكاظ»: أندية تنتظر مصير عسيري مع الأهلي    مصدر ل«عكاظ»: أبها يرغب في تمديد إعارة الصحفي من العميد    «بيلينغهام» ثالث أصغر هداف إنجليزي    رئيس الفيدرالي في مينيابوليس يتوقع خفضاً واحداً للفائدة    48 درجة حرارة مشعر منى.. لهيب الحر برّدته رحمة السماء    جدة: منع تهريب 466 ذبيحة فاسدة    «ترجمان» فوري ل140 لغة عالمية في النيابة العامة    رسالة لم تقرأ..!    نجاح مدهش اسمه «إعلام الحج»    بعوضة في 13 دولة تهدد إجازتك الصيفية !    800 مليار دولار قروض عقارية في الربع الأول    نظرية الحج الإدارية وحقوق الملكية الفكرية    فخر السعودية    وفود وبعثات الحج: المملكة تقود الحج باقتدار وتميز وعطاء    المملكة.. تهانٍ ممزوجة بالنجاحات    بديل لحقن مرضى السكري.. قطرات فموية فعّالة    5 مثبطات طبيعية للشهية وآمنة    فخ الوحدة ينافس الأمراض الخطيرة .. هل يقود إلى الموت؟    أمطار الرحمة تهطل على مكة والمشاعر    الاتحاد الأوروبي يفتح تحقيقاً ضد صربيا    يورو 2024 .. فرنسا تهزم النمسا بهدف ومبابي يخرج مصاباً    فرنسا تهزم النمسا في بطولة أوروبا    مدرب رومانيا: عشت لحظات صعبة    رئيس مركز الشقيري يتقدم المصلين لأداء صلاة العيد    القبض على إثيوبي في عسير لتهريبه (34) كيلوجراماً من مادة الحشيش المخدر    السجن والغرامة والترحيل ل6 مخالفين لأنظمة الحج    ولي العهد: نجدد دعوتنا للاعتراف بدولة فلسطين المستقلة    وزارة الداخلية تختتم المشاركة في المعرض المصاحب لأعمال ملتقى إعلام الحج    وزير الصحة يؤكد للحجيج أهمية الوقاية بتجنّب وقت الذروة عند الخروج لأداء ما تبقى من المناسك    د. زينب الخضيري: الشريك الأدبي فكرة أنسنت الثقافة    «الهدنة التكتيكية» أكذوبة إسرائيلية    2100 رأس نووي في حالة تأهب قصوى    القبض على إثيوبي في الباحة لترويجه مادة الإمفيتامين المخدر    الرئيس الأمريكي يهنئ المسلمين بعيد الأضحى    نائب أمير مكة المكرمة يطلع على خطط أيام التشريق    تصادم قطارين في الهند وسفينتين في بحر الصين    فيلم "ولاد رزق 3" يحطم الأرقام القياسية في السينما المصرية بأكثر من 18 مليون جنيه في يوم واحد    51.8 درجة حرارة المنطقة المركزية بالمسجد الحرام    عروض الدرعية تجذب الزوار بالعيد    عيد الأضحى بمخيمات ضيوف الملك ملتقى للثقافات والأعراق والألوان الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإلياذة أيضاً تضيع في ظلمة أدراجنا . ماذا نقرأ سنة 2005 ؟ روايات الحرب والسلم
نشر في الحياة يوم 29 - 12 - 2004

ماذا نقرأ سنة 2005؟ في أي عالمٍ نحيا بعد ثلاثة أيام؟ ها هي سنة أخرى تمضي. تقطعنا أو نقطعها. وها نحن في 2005 . الحساب الرياضي يأخذنا الى فيتاغورس. يأخذنا الى هيراقليطس لا أحد يدعس في النهر نفسه مرتين. يأخذنا الى الامبراطور الروماني الفيلسوف ماركوس أوريليوس: ماذا يصنع الكائن أمام الأعوام المتعاقبة؟ أمام "صخبٍ وعنفٍ" شكسبير و"وقتٍ مدمرٍ" ريكله وعالم يهزّه الاضطراب في كل ساعة. أين الأمل؟
ماركوس أوريليوس يتكلم عن التأمل وصحبة الأصدقاء النبلاء. شكسبير عنده المخيلة. مثله مثل هاملت: محبوساً في قشرة جوزة أحكم ممالك لا تُحد. ريلكه ليس شكسبير. لكنه - مع هذا - صاحب عينين متسعتين. إذا نظر الى بحر السماء الأزرق رأى الغيوم القطن تتشكل كقصور المرمر وتتباعد حتى الأفق المستدير. ثراء العالم لا نهائي. في الإنسان ذاته تتصارع العواطف وتأخذه الى هذه الجهة الى تلك الجهة. لحظة للسقوط ولحظة للصعود. لحظة للكفر ونسيان النعمة ولحظة للصلاة والحمد. من يخسر ومن يربح؟ وأين تأخذنا الأعوام المتعاقبة؟ هل تكون 2005 أحسن من 2004؟ هل كانت 2004 أسوأ من 2003 أم أحسن؟ ما الأسوأ وما الأحسن؟ لا نجد في هذا العالم ميزاناً يقيس الأيام والأعوام. ما يحدث يحدث في الأعماق. لا نفهمه إلا بمرور الوقت. مرات - حتى بمرور الوقت - لا نفهم.
شوبنهاور طلب الفهم والحكمة كل حياته. أورثه السعي كآبة. وملانخوليا طالما حيَّرت الرازي الطبيب وحيَّرت روبرت بيرتون. هل ندم شوبنهاور على سعيه؟ هل ندِم المعري؟ هل ندِم هوميروس؟ الندم ليس مهماً. الندم من حياتنا. تجربة أخرى وحسب. المهم ألا تملأ المرارة الحلق والقلب. بلا مرارة يحفظ الواحد روحه. بلا مرارة لا تهدّنا الأعوام. ها نحن في 2005 . والآن ماذا؟ خلال السنوات الأخيرة، منذ 11 أيلول سبتمبر 2001 المشؤوم بلى، 2001، ليس 2000، ليس 2002، 2001، الأرقام تساعد على القياس، تساعد لكنها لا تشرح، منذ 2001/9/11وسقوط البرجين الزجاج في جزيرة مانهاتن البعيدة لكن كيف تكون مانهاتن بعيدة؟ كيف تبقى المدينة وراء بحر الظلمات بعد قراءة والت ويتمان؟، منذ ذلك اليوم الخيالي ونحن نُقذف كالدمى من حربٍ الى أخرى. هاج العالم. فسُد الوقت. الوجوه تتلفت مذعورة في المطارات، والساعات تتعطل.
أين نحيا في 2005؟ لماذا نتذكر هوميروس؟ حرب طروادة انقضت قبل قرون من ظهور الامبراطورية الرومانية... وقبل قرونٍ من الاسكندر - هو أيضاً تتذكره الشاشة الكبيرة الآن - وقبل "العهد القديم"! "الإلياذة" هي النص المؤسس للأدب في الحضارة العربية، إذا اقتنيت ترجمة روبرت فيتزجيرالد الانكليزية ادمنت قراءتها! لكن هل "الإلياذة" من أدب الغرب؟ ولماذا لا ننسبها الى الشرق أيضاً؟ طروادة على الساحل التركي، على حافة بحر إيجه. ليست بعيدة من إزمير. ونستطيع - ناظرين الى خريطة الإدريسي حيث الشمال في الأسفل والجنوب في الأعلى - نستطيع أن ننسب طروادة الى الشرق، ومعها الإلياذة كلها، ومعها هوميروس.
على حافة البحر
ما الفرق بين الشرق والغرب أصلاً؟ كبلنغ ليس بيننا الآن. عظامه حالت غباراً. نقدر أن نعطيه ظهرنا، وأن ننسى "بوابة المئة تنهيدة" قصة كبلنغ المفضلة عند بورخيس وان نقول ان الخط الذي يفصل الشرق عن الغرب ليس حقيقياً. ماذا يكون هذا الخط؟ قناة السويس القنال؟ بيت المقدس؟ مضيق البوسفور حيث غرقت الفرق الصليبية، على الأحصنة، مدججة بالسلاح، دروعها تقطر صدأ بنّياً يسيل كالدم، أو تلمع كدرع دون كيشوت إذا فركه ملحاً وحامضاً سانشو بانزا؟ غرقت الدروع وظلت في الأعماق غارقة. أين الشرق وأين الغرب، إذا كان الحد سريع التبدل هكذا؟ قبل حفنة سنوات أوشك الخط أن يصير الأطلسي. هل تقاربت أميركا وأوروبا من جديد؟ أم أن هذه خدعة بصرية؟ ننظر من هذه المدينة على حافة البحر - مدينة يرجع اليها الاضطراب في غفلة، الجوار كله يضطرب، فكيف لا تعرف العدوى هي أيضاً؟ - فيبدو العالم غائم الحدود، ضائع الملامح. من معك ومن ضدك؟ فيليب ك. ديك قذفته البارانويا الى كندا ثم الى جرعة مخدرات زائدة. مات فقيراً مهملاً في غيتو الخيال العلمي وبعد موته تحولت قصصه ورواياته أفلاماً مشهورة. عالم غريب الأطوار. هل يكرر ديك حياة ملفل؟ لكن التكرار يبدو بائساً. هل تكرر حروب القرن الحادي والعشرين حروب هوميروس؟ الفيلم المأخوذ بعد 9/11 عن الملحمة يُشوهها ويفسدها بإسقاطات سياسية وبقراءة أدبية ساذجة. لماذا يُقتل آخيل بسهمٍ في عقبه إذا كان الرجل ظلّ حياً في ملحمة هوميروس؟ كل الوقت نعلم أنه سيموت. حتى أمه تخبرنا. لكنه في الملحمة لا يُقتل. صانع الفيلم قرأ لا بد القصيدة الطويلة هذه هي الرواية الأولى في تاريخ الأدب. كتبها هوميروس منظومة. أو للدقة: أنشدها منظومة. لكن الموسيقى لا تعني أن الإلياذة ليست رواية. يكفي ان نقرأها. أما الفيلم فلا يهمّنا ولا يهمّ هوميروس. حظه حسنٌ الشاعر الأعمى: لن يرى هذه السينما الحديثة. هل قرأ أصحاب الفيلم الملحمة؟ بالتأكيد. مع انهم لم ينتبهوا أن سفن الإلياذة والأوديسة سوداء اللون، ومع انهم قتلوا في البداية منلاوس شقيق أغاممنون. وهو الرجل الذي ينجو من "الإلياذة" ويبلغ "الأوذيسة"، ويمنح - مع أوديسيوس ومع الملك نستور - أحد خيوط الوصل المتينة بين الروايتين الملحميتين. قرأوا ما أنشده الشاعر الأعمى من يكون هوميروس؟ لماذا يتذكره بورخيس كأنه يتذكر نفسه؟ ثم شوهوا ما قرأوا. لم يُشوهوا. لا أحد يقرأ كما يقرأ الآخر. عيناك عليّ ولست أنا سفر أيوب. وما يُقرأ في هذه الأزمنة يختلف عما كان يُقرأ في القرن التاسع عشر. قارئ تولستوي سنة 1882 سنة نزول الانكليز على بر مصر بعد افلاس الخزينة الخديوية ليس نفسه قارئ تولستوي سنة 1860 سنة الفتنة في جبل لبنان ودمشق. جيش بونابرت الزاحف في الجليد على موسكو يظهر لنا اليوم كما لم يظهر لأسلافنا. هل نذكر جيشاً يعبر صحراء؟ هل نذكر جيشاً لا يُرى بل يتحرك من بعيد، ويقذف قنابل لا تُرى، لكنها - مع هذا - تقتل! ماذا نذكر وماذا ننسى؟ الحياة غريبة. لماذا ننسب "الإلياذة" الى أسلافنا؟ الألباني اسماعيل كاداريه مواطن محمد علي باشا والي مصر العثمانية حاول ذلك مرة. قال ان اليونان والألبان من دمٍ واحد. الباب على الباب، الجبل على الجبل، ولفظة "أوذيسة" الاغريقية محورة عن كلمة البانية معناها "الطريق". هوس كاداريه بهوميروس أعطاه "طبول المطر"، و"الجسر"، و"الوحش" ترجمتها "دار الآداب" الى العربية. لكن كاداريه، وان كتب مشاهد موت عنيفة، ليس هوميروس. لا يشبه هوميروس أحداً. سليمان البستاني الذي عرّب الألياذة ونشرها في القاهرة سنة 1904 أدرك هذا.
لماذا يعمد رجل مزدوج الجذور جبل لبنان - بيروت الى ترجمة الملحمة اليونانية الى العربية عند نهايات القرن التاسع عشر؟ الملحمة أخذت منه سنوات وسنوات. هل يعرف أحدنا كم سنة نحتاج الى تأليف قصة قصيرة واحدة؟ عاش خوان رولفو عقوداً كاملة وهو يكتب "بيدرو بارامو".
دائرة المعارف
ما الذي يدفع رجلاً اسمه سليمان البستاني 1856 - 1925 الى ترجمة هوميروس؟ هذا الرجل ربط عالمنا ببحر ايجه. وبمدينة عالية الأسوار على حافة البحر، تتصارع عليها الجيوش، وتتدحرج حول حيطانها رؤوسٌ مقطوعة! دانتي - في لحظات التجلي - يدنو من هوميروس. في "الجحيم" يعطينا تصوره الخاص لنهاية حياة عوليس: بعد نزوله في ايتاكا، بعد رجوعه الى بنلوب، يخفق نداء البحر في أضلاع المغامر من جديد. يجمع رفاقه البحارة ويخرج في مغامرة أخيرة. يقطع أعمدة هرقل مضيق جبل طارق ويخترق بحر الظلام الأطلسي. يغادر بحر هوميروس الأليف بحر بروديل ويقتحم المجهول... ثم تغمر الأمواج السفينة!
لم يترجم سليمان البستاني "الكوميديا". أين يعثر على الوقت؟ بين 1885 و1900، عمل مع قريبيه نجيب البستاني ونسيب البستاني على اعداد المجلدات الثلاثة الأخيرة من "دائرة المعارف" القديمة. هل دفعه الشغل في "دائرة المعارف" الى ترجمة "الإلياذة"؟ طاقة فارت في جسمه فدفعته دفعاً الى عالم هوميروس؟ أم أن السبب الأهم يعود الى تاريخ الرجل والى تاريخ عائلته وأسلافه؟
المعلم بطرس البستاني 1819 - 1883 هرب من الدبّية جبل لبنان الى بيروت أثناء حقبة فتن طائفية. نزل عند المرسلين الأميركان مطلع أربعينات القرن التاسع عشر، خارج باب يعقوب أحد أبواب بيروت القديمة المسوّرة وكان يقع حيث مطعم "بلادور" للفول والحمص والفتّة اليوم وساعد عالي سميث على ترجمة الأسفار الأولى من التوراة. هذا الرجل كتب ونشر المجلدات الستة الأولى من "دائرة المعارف" بين عامي 1876 و1883 . موته قطع السلسلة، لكن ابنه سليم البستاني 1847 - 1884 وَرِث عنه سوسة السعي ونشر مجلداً سابعاً سنة 1883 ثم ثامناً سنة 1884 . وفي هذه السنة مات! مات شاباً، لم يبلغ الأربعين بعد! من بعده تولى العمل شقيقاه نجيب البستاني 1862 - 1919 ونسيب البستاني 1867 - 1913 يساعدهما سليمان البستاني. المجلد الحادي عشر والأخير صدر سنة 1900 منتهياً بلفظة "عثمانية"، عند هذه اللفظة تعطل المشروع. ولن ينطلق من جديد إلا سنة 1956 بعد انتصاف القرن العشرين على يد رئيس الجامعة اللبنانية فؤاد افرام البستاني. لكن الحرب الأهلية الطويلة لن تلبث أن تعطله من جديد. وتقتل بالرصاص باحثين يعملون على انجازه.
مذابح 1860
ماذا دفع سليمان البستاني الى "الإلياذة"؟ حروب جبل لبنان في القرن التاسع عشر؟ حوادث الشام؟ مذابح 1860 التي قتلت آلاف الرجال؟ هل ننسى أن آل البستاني يتحدرون من دير القمر جبل لبنان وان من نزح منهم الى بيروت في تلك العصور السحيقة لم ينسَ البيوت والحقول؟ حروب بلاد الشام الأهلية مؤرخة. الكتب لا تُعد. أُرخت في رسائل وشهادات وقصائد وحتى روايات. كل هذه المدونات بأقلام شامية وغير شامية، موجودة وغير موجودة. موجودة إذا قرأناها. غير موجودة إذا أردنا أن نتجاهلها، أن نزعم انها غير موجودة. من مدونات المرسلين الأميركان والفرنسيس الى شهادات الدروز ومخطوطاتهم المنشورة وغير المنشورة الى تاريخ الأرمني ابكاريوس الى أبحاث كمال الصليبي المعاصرة وليلى فواز وشارل عيساوي وألبرت حوراني... هناك مخطوطات تصف بالتفصيل الدقيق ما جرى في دمشق 1860، داخل باب توما. مخطوطات شهود عيان تصف ما جرى في ساحة البرج سهلات البرج، حيث تمثال الشهداء في وسط بيروت التجاري الآن بعد تدفق أمواج النازحين من الجوار اثر الحوادث المذكورة. هذا كلّه تاريخ. وبعض الرسائل من تلك الفترة يرقى الى مستوى الأدب الرفيع. كلّه مكتوب. كلّه على رفوف مكتبات خاصة وعامة، مجلدات يأكلها الغبار والعث، وإذا قرأناها شع من حروفها نور. لماذا نتجاهل كل هذا الجهد؟ لماذا ننسى ان "الالياذة" أيضاً ضائعة في أدراجنا المظلمة؟
سليمان البستاني يقدر أن ينتزع الألياذة من يد كاداريه. من يمنعه؟ كلّنا أبناء عالم واحد، تعصف به العواصف، ويهزّه الدهر هزّاً. المهم الاجتهاد، المهم السعي. المهم الإخلاص للأدب. ها نحن ندخل 2005 . ماذا نقرأ في السنة الجديدة؟ الالياذة ظهرت في ترجمات عربية كاملة أو ناقصة كثيرة. ترجمات في بيروت والقدس ودمشق وبغداد وأبو ظبي والقاهرة. كل هذه الترجمات وهناك غيرها لم يُنشر ماذا تخبرنا؟ هل تخبرنا ان نشيد الشاعر الأعمى يحتوينا بين أبياته؟ تولستوي لا يُصور مشهد الحرب - وان صوَّره قوياً - كما فعل سلفه هوميروس.
ما هي ميزة هوميروس؟ أنه في لحظة الموت يبصر الحياة كاملة؟
أنه - وهو البدائي ابن العصور القديمة - يعرف جسم الإنسان عضواً عضواً؟
انه، مع تعاقب القرون، بات مصقولاً كمرآة، ساكناً كصفحة بحر مملوء سمكاً وعواصف غير مرئية؟ ربما.
هل نعثر على جواب؟ علينا بالقراءة. البصر نعمة. ألا تكون مظلمَ العينين! علينا بالقراءة. الكتب لا تُعد. كلما قرأنا عشنا أكثر.
الانتساب إلى هوميروس
ليس سليمان البستاني وحده ابن جبل لبنان وبيروت" معرّب الإلياذة أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ليس سليمان البستاني وحده من يطلب الانتساب الى هوميروس. هوميروس لا أحد. الملحمتان - الإلياذة والأوذيسة - تُمثلان إرثاً ضخماً، إرثاً يبلغ من الضخامة حدّاً تبدو معه نسبته الى رجل مفرد واحد، صعبة، بالغة الصعوبة. هل كان هوميروس رجلاً واحداً، أم أكثر من رجل؟ هل كان أجيالاً من الشعراء المنشدين، توارثوا حكاية واحدة جيلاً بعد جيلٍ، فنحتوا عباراتها وصقلوها بالتكرار والاضافة والحذف، كما تنحت المياه صخرة، كما ينحت الوقت قمم الجبال؟ لعل هوميروس صورة خيالية للمؤلف الأعمى الذي رأى العالم قبل انطفاء النور في عينيه. وحين انطفأ النور رفع الصوت عالياً بالنشيد، كأنه يبني من جديد العالم الذي أظلم!
تزحف الظلمة على العينين حين يقضي الإغريقي في المعركة. الإلياذة وصف رجال يُقتلون. وكلما قُتل واحد عضّت أسنانه التراب وغشيت الظلمة عينيه. الظلمة؟ ماذا يعني ألا ترى؟ هل يكون الموت غير هذا؟ يخاف هوميروس العمى. ولا يخافه. لأنه يقدر أن يتخيل وجهه وكيف تغيره الأعوام من دون أن ينظر في مرآة. ما يفعله هوميروس هو الآتي: لا يطلب رؤية وجهه فقط، يطلب رؤية العالم كله أيضاً. يضع في نشيده الملحمي عالماً كاملاً. أغاممنون الذي يقاتل مع جيوشه تحت أسوار طروادة منذ تسعة أعوام الإلياذة تبدأ وتنتهي في سنة الحصار العاشرة يعلم أن طروادة لم تسقط بعد لأنها تلقى دعماً عسكرياً من مدن آسيوية كثيرة. هوميروس مسرور بهذا الدعم. هكذا لا يكتب نشيداً عن حربٍ بين القراصنة الآخيين وبين مدينة على ساحل إيجه الشرقي. هكذا يكتب نشيداً عن العالم. القراصنة اليونان الذين عاشوا بالنهب ومغالبة البحر عرفتهم مدن المتوسط منذ تلك القرون ثمانية قرون قبل الميلاد وحتى القرن التاسع عشر. سنة 1822 أو 1826 نزلوا في غارة على ساحل بيروت وأخذوا أسرى من البلدة المسوّرة. سليمان البستاني لا يذكرهم في هوامش ترجمته، لكنه - ولو لم يذكرهم - تذكرهم على الأغلب، كلما كتب كلمة "دهموا" أو "نزلوا". فغزوات القراصنة اليونان ظلّت حكاية تُحكى في بيروت أواخر القرن التاسع عشر، وما زال عجائز عين المريسة يذكرونها نقلاً عن الأسلاف.
هكذا يُحمل خبر مقتل صديقه الى آخيل في ترجمة البستاني:
قال: "ابن فيلا، مصاب قد دُهمت به/ يا حبذا لو بنو العلياء ما دهموا!
فَطْرُقل مُلقى، وهكطور بِشكَّتِه/ والجسمُ عارٍ عليه النقع ملتحم".
تحت أسوار طروادة كانت هزيمة الآخيين أهل جزر إيجه، أسلاف الحضارة الاغريقية اليونانية تعني نهايتهم. لو خسروا آنذاك، لو أحرق هكطور ورفاقه الطرواديون سفن اليونان السوداء، كان العالم الآن عالماً آخر! لنتخيل العالم لحظة بلا أفلاطون، بلا أرسطو، بلا الإسكندر المقدوني! وبلا القراصنة اليونان الذين غذوا مخيلة الشعراء منذ هوميروس الى سرفانتس الى اللورد بايرون!
ليس سليمان البستاني وحده من يطلب الانتساب الى إرث هوميروس. ماذا يكون هذا الإرث؟ أن تنظر بعينين مفتوحتين الى الحياة البالغة الثراء والتعقيد والتشعب، وأن ترى - أمام صورة الموت - معجزة الحياة العجيبة. ثم أن تكتب ذلك بأسلوبٍ أدبي راقٍ. أن تنشد النشيد مصقولاً، بلا كلمة زائدة أو ناقصة. روبرت فيتزجيرالد، مثل تشابمان من قبله، ومثل بوب، يطلب هذا في كل عبارة. الأسلوب يُغير المضمون. هذا درس الشعر. من دون عبارة متينة يُشوَّه هوميروس - كما يُشوه كل نص - فلا يبقى هو ذاته. طريقان نحو الترجمة الكاملة المثالية: طريق فيتزجيرالد وأقرانه، أو طريق فيرجيل ودانتي وإليوت وبورخيس.
فيرجيل ينتسب الى هوميروس وهو يكتب "الإنياذة". رجل ينجو من حرب طروادة ويؤسس الحضارة الرومانية. هذا بطل فيرجيل. دانتي ينتسب الى هوميروس وعلى نحوٍ غامض: يُترجمه عبر فيرجيل مرة، دليله ومعلمه الذي منه تعلم موسيقى الكلمات ورنينها، وعبر عوليس مرة أخرى: الرجل الذي نزل الى تحت الأرض ورأى نهر الموت يجري وتكلم مع الموتى. خوان رولفو ينتسب الى هذا العالم نفسه" وكذلك غابرييل غارسيا ماركيز: مرة حين يرجع أغويلار من أرض الموت ليكلم قاتله بوينديا مؤسس ماكوندو" ومرة حين تقلد أمارانتا بنلوب وتغزل كفناً أو ثوب عرس!.
مهم أن نتذكر أن الإلياذة ليست حرباً بين شرق وغرب. مهم أن نذكر أنها أقدم من هذه العبارة. وأننا نقدر أن نقرأها كنص مؤسس لفكرة الصراع بين العوالم، تماماً كما نقدر أن نقرأها كنصٍ يُجاوز هذه الرؤية السياسية الساذجة الى رؤية انسانية أعمق: في قلب كل انسان تتصارع عوالم لا تُعد. الملحمة تبدأ في نصها اليوناني الأصلي بكلمة "غضب".
فيتزجيرالد ينتبه الى هذا في ترجمته الانكليزية. البستاني لم ينتبه. أو انها القافية دفعته الى قلب الكلمة الى نهاية البيت: احتداماً وبيلا.
الغضب يدفع آخيل الى البقاء في معسكره بينما الجيشان يلتحمان. الثمن الذي يدفعه: موت صاحبه. يموت فطرقل باتروكلوس لابساً درع آخيل شكته. فكأن آخيل ذاته هو الذي مات برمحٍ في ظهره، ثم بطعنة من هكطور في الخاصرة. آخيل يموت ثم يظهر في قلب المعركة. وحين يقتل هكطور أخيراً يقتله بطعنة في الرقبة لا تكسر القصبة الهوائية فتترك هكطور قادراً على الحكي: هذه بدعة هوميروس. هكطور قُتل لابساً درع آخيل! ولم يُقتل. ما زال يتكلم وهو يموت. ما زال يُنشد. لم يسكن صوته بعد. ما زال شاعراً! القارئ - عبر الملحمة كلها بال15 ألف سطر - ينتظر هذه الساعة. الملحمة تعجّ بصور الموت العنيف حتى نحسب ان الشاعر الأعمى قد استنفد الصور كلها. لكن ها هو يطلع علينا بصورة جديدة. هذا ما يطلب الشعراء الروائيون الانتساب اليه: الخيال الرائع. "الرائع" كلمة قديمة: الوقت - التكرار - أفقدها رونقاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.