التعاون يتفوق على الشباب    الأهلي يخطف البطاقة الآسيوية بخماسية في شباك أبها    إطار الابتكار الآمن    منشآت تنظم أسبوع التمويل بالشراكة مع البنوك السعودية في 4 مناطق    النفط يغلق تداولات الأسبوع مرتفعاً 1 % بفضل آمال ارتفاع الطلب    كيان عدواني غاصب .. فرضه الاستعمار !    موسكو تتقدم في شمال شرق أوكرانيا    أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    أهمية إنشاء الهيئة السعودية للمياه !    الهلال يحبط النصر..    الخبز على طاولة باخ وجياني    جماهير المدينة (مبروك البقاء)!    الأهلي إلى نخبة آسيا    «حرس الحدود» بجازان يحبط تهريب 270 كيلوغرام«قات»    «الأرصاد»: مدن المملكة تسجل تنوعاً مناخياً فريداً يعكس واقعها الجغرافي    كيلا يبقى تركي السديري مجرد ذكرى    وزير التعليم: تفوّق طلابنا في «آيسف 2024» يؤسس لمرحلة مستقبلية عنوانها التميّز    199 مليار ريال مساهمة قطاع الطيران في الناتج المحلي    ضبط 16023 مخالفًا للإقامة والعمل وأمن الحدود    إسرائيل تواجه ضغوطا دولية لضمان سلامة المدنيين    نيابة عن ولي العهد.. وزير البيئة يرأس وفد المملكة في المنتدى العالمي للمياه    المملكة رئيسا للمجلس التنفيذي للألكسو حتى 2026    الرئاسة العامة تستكمل جاهزيتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام هذا العام ١٤٤٥ه    التخصصي: الدراسات السريرية وفرت نحو 62 مليون ريال    فيضانات أفغانستان تزهق الأرواح وتدمر الممتلكات    رئيس وزراء اليونان والعيسى يناقشان الموضوعات المشتركة بين البلدين    تشيلسي يتوج بلقب الدوري الإنجليزي للسيدات للمرة الخامسة على التوالي    هيئة تقويم التعليم والتدريب تعلن إطلاق استطلاعات الرأي لجودة التعليم الجامعي وبرامجه.    تشخيص حالة فيكو الصحية «إيجابي» ووضع منفذ الاعتداء قيد التوقيف الاحتياطي    "إرشاد الحافلات" يعلن جاهزية الخطط التشغيلية لموسم الحج    توطين تقنية الجينوم السعودي ب 140 باحثا    تعرّضت لقصف بالصواريخ.. حريق في ناقلة نفط قبالة اليمن    افترقوا بحب معشر العشاق    إتاحة مزاد اللوحات للأفراد ونقلها بين المركبات عبر أبشر    من ينتشل هذا الإنسان من كل هذا البؤس    مجسم باب القصر يلفت انظار زوار وسط بريدة    «غرفة بيشة» تساهم في دعم حفل تكريم المشاركين في مبادرة أجاويد ٢    "تعليم الطائف" يعتمد حركة النقل الداخلي للمعلمين والمعلمات    نعمة خفية    البحث العلمي والإبتكار بالملتقى العلمي السنوي بجامعة عبدالرحمن بن فيصل    جامعة الملك فيصل تحصد الميدالية الذهبية عن اختراع جديد    المربع الجديد: وجهة لمستقبل التنمية الحضرية بالسعودية    قائد فذٌ و وطن عظيم    إندونيسيا: الكوادر الوطنية السعودية المشاركة في "طريق مكة" تعمل باحترافية    متحدث «الداخلية»: مبادرة «طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي والتقنية لخدمة الحجاج    «الحج والعمرة»: لا تصاريح عمرة ابتداء من 16 ذو القعدة وحتى 20 ذو الحجة    سفارة المملكة في قرغيزستان تحذر المواطنين بأخذ الحيطة والحذر والابتعاد عن أماكن التجمعات    استمرار هطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    الهلال يخطف تعادلاً مثيراً من النصر بعد حسم "روشن"    السمنة والسكر يزيدان اعتلال الصحة    رئيس جمهورية موريتانيا يغادر جدة    الأمير سلمان بن سلطان يرعى حفل تخرج طلاب وطالبات البرامج الصحية بتجمع المدينة المنورة الصحي    طريقة عمل الأرز الآسيوي المقلي بصلصة الصويا صوص    طريقة عمل وربات البقلاوة بحشو الكريمة    ولي العهد في المنطقة الشرقية.. تلاحم بين القيادة والشعب    «الأحوال»: قرار وزاري بفقدان امرأة «لبنانية الأصل» للجنسية السعودية    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    حراك شامل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لندن والشرق الاوسط : وعود التنوع 2من 2
نشر في الحياة يوم 06 - 08 - 2001

عرض الكاتب في الجزء الأول أمس الأوجه الأربعة لعلاقة لندن مع الشرق الأوسط. هنا التتمة:
هناك انتقائية في الاتجاهين، على ما هو على الأرجح الشكل الأكبر للاتصال، أي السياحة. ويمكن زوار لندن العرب أن يسكنوا فيها عالماً منغلقاً على حيزه اللغوي والثقافي، مثلما يمكن الأمر نفسه للزوار والمقيمين البريطانيين في الشرق الأوسط. وتكشف ظاهرة السياحة في البلاد العربية التي برزت في السنين الأخيرة أن نمطية خيارات السواح الغربيين بقيت من دون تغيير يذكر، كما يبرز، مثلاً، من اقتصارها عند الذهاب الى الخليج على رؤية الصحراء والحياة الفطرية، فيما يحاول زوار طنجة استعادة أيام الكاتب الأميركي بول باولز، وملذات "الكيف"، وأيضاً، كما في الاسكندرية، استكشاف بقايا تلك الحقبة من نمط حياة الجاليات الاجنبية المختلطة، التي كانت، على جاذبيتها، معزولة الى حد كبير عن المجتمع حولها. ولا يعير هؤلاء الزوار، كما يبدو، اهتماماً يذكر بالسكان او التاريخ، خصوصاً التاريخ الحديث، لتلك الدول. عملية تحويل ثقافة الآخر الى "كبسولة" سهلة الاستيعاب، وهي في احيان كثيرة ما يقوم به المسافر البريطاني والعربي، تمثل الوجه الآخر النرجسي للعولمة.
تثير قضية وسائل الاعلام سؤالاً آخر، يدور على المنظور أو التصور، ومدى تعزيز أو اضعاف الانماط السائدة في ذهن الثقافات عن بعضها بعضاً. ان للقرب والتعرف أن يقودا، في عالم ليبرالي، الى معرفة وتفهم أكثر بين الأطراف. وهذا ما يحصل في بعض الحالات. لكن القرب وحده، في عالم من جاليات ووسائل اعلام متجاورة، لا يقود بالضرورة الى ذلك. واذ ترافق وجود اعداد كبيرة من سكان الشرق الأوسط في لندن منذ السبعينات مع مقدار اكبر من التفهم، فقد ترافق أيضاً مع تعزيز وتزيين النمذجات القديمة التي يقوم قسم منها على الاثنية، ولكن أيضاً، خصوصاً في الآونة الأخيرة، على الدين. ان تصاعد ما يسميه البعض "الفزع من الاسلام" يشكل جزءاً من التفاعل الذي تم خلال السنين ال15 الأخيرة، وهو ظاهرة لم تبذل الصحافة الغربية جهداً يذكر ضدها. الا ان هذه الاستهانة من المركز الغربي تترافق مع شيء آخر: الاصرار على النمذجة والعداء من جانب الشرق أوسطيين أنفسهم، أو بالأحرى اولئك الكثيرين من القوميين والأصوليين منهم، الذين لهم مصلحة في ادامة المواجهة. من الأمثلة الواضحة على ذلك قضية رواية "الآيات الشيطانية".
يركز خطاب بعض المتشددين في الآونة الأخيرة على مشروعية اعمال العنف ضد الغربيين. ولا بد ان بعض مستمعي برنامج "توداي" في محطة "بي بي سي" يتذكرون تلك الحلقة منه في كانون الثاني يناير 1999 حيث قال إمام عربي لواحد من مساجد لندن بمشروعية خطف السياح البريطانيين في اليمن والاحتفاط بهم كرهائن، وأكد لمقدم البرنامج جون همفريز، المعروف عادة بروح التحدي لكنه بدا متخاذلاً يومها، ان واجب كل المسلمين الذكور تلقي التدريب العسكري وان هذا ما يجري فعلاً اليوم في مساجد بريطانيا. ان لكل منّا أمثلته لتصوير السلام على انه عدائي ومناقض لليبرالية. وأنا أتسلم بحكم عملي الأكاديمي الكثير من الرسائل التي تدين مبدأ الانتخابات بأنه لا اسلامي، أو تحلل قتل القادة العرب بتهمة الكفر، وتهاجم النساء الغربيات والمثليين جنسياً واليهود الخ...
وقد لا أكون وحدي عندما الاحظ ميل التلفزيون البريطاني في الآونة الأخيرة، في سعيه الدائم الى الاثارة والمواجهات الحادة، الى بث مقابلات مع ممثلي الجاليات الشرق أوسطية والمسلمة تركز على الأشخاص الأكثر تشدداً واستفزازاً. ولا يتضح من هذه المقابلات أن هناك تنوعاً كبيراً في الآراء حول قضايا مثل الجنس وحرية التعبير، ناهيك عن اسرائيل أو العلمانية. هنا أيضا نجد عملية تفهم الآخر وهي تتحول الى شكل آخر من أشكال التأكيد على التنميط السائد - والمؤسف ان كثيرين يرتاحون الى المشاركة في هذه اللعبة. بالمقابل يندر ان تنقل وسائل الاعلام من الشرق الأوسط أصواتاً عقلانية ليبرالية. "صراع الحضارات" لا يحتاج دوماً الى طرفين لازكائه. لكن وجود طرف يرد على الاستفزاز بمثله وأكثر يساعد بالتأكيد على ادامته وتأجيجه.
الأدب
هناك بالتوازي مع اللقاء الحضاري على المستوى الاعلامي، سلبياً كان ام ايجابياً، اللقاء على المستوى الأدبي، خصوصاً ذلك المقدار الكبير من الكتابات من قبل الشرق أوسطيين من زوار لندن أو المقيمين فيها. لكن ليس هناك حسب علمي ما يعادل عمل المؤلف الأردني خليل الشيخ في كتابه "باريس في الأدب العربي الحديث" بيروت، 1998 الذي يضم فصولاً بعناوين مثل "القِبلة الحضارية - مدينة النور". وكتب هذا الأخير قصيدة عن لندن على طراز حافظ الشيرازي ممتدحاً خمرها ونساءها - ولعله بالغ بعض الشيء! إلا ان لقاء الكتاب الشرق أوسطيين بلندن يعود الى زمن طويل. وكان من بين الزوار المبكرين الشخصية الفارسية ميرزا أبو طالب زارها ما بين 1799 و1803، واللبناني أحمد فارس الشدياق الذي اعتنق البروتستانتية وجاء في 1848 . كما ان هناك الكثيرين من الكتاب الحديثين، عربا وفرسا، الذين زاروا لندن أو اقاموا فيها - وكان للكتاب اللبنانيين والفلسطينيين من الطائفة البروتستانتية من المبكرين منهم ادوارد عطية والبرت حوراني علاقة خاصة بها. ولأذكر الآن، من بين الكتاب العرب، ثلاثة من الروائيين، هم السوداني الطيب صالح موسم الهجرة الى الشمال، وبتول الخضيري السماء القريبة وحنان الشيخ يحدث في لندن.
في كتاب الطيب صالح يأتي بطل الرواية قبل عقود الى هذه البلاد "التي تموت أسماكها برداً"، حيث لندن "مدينة الأسرار والنشوة". وفي واحد من مقاطع الرواية تأخذه عشيقته الانكليزية في جولة على حانات المدينة، حيث يشربان تباعاً السايدر والبيرة والنبيذ والويسكي فيما يقرأ عليها مع كل كأس أبياتاً من شعر أبي نواس. المغامرات الجنسية قريبة دوماً من ذهن سارد الرواية، وأيضاً أذهان سكان قريته عندما يعود اليها ويسألونه عن تجاربه اللندنية. قصة بتول الخضيري تدور جزئياً في بغداد أواخر الثمانينات، ثم في لندن أثناء حرب الخليج في 1991 وبعدها. وبالرغم من أن امها تخضع للعلاج في مستشفى هامرسميث في غرب المدينة فإن ذلك لا يمنع البطلة من مراقبة سير حياة المدينة. وتكتب: "انها مدينة من المواعيد الدقيقة وبطاقات البنوك وتقارير أسواق الأسهم. وهناك مجلات فاضحة معروضة للبيع في سوهو، ومتاجر لا تبيع شيئاً سوى الجوارب". كما تلاحظ ما في المدينة من مظاهر البطالة والتشرد، الأسماء الهزلية القديمة للحانات التي "تبتلع الطبقات العاملة". أما الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ فهي تأخذ قصتها عبر حدود اكتشاف العرب للندن، لتتناول المهاجرين العرب والانقسامات في صفوفهم وحياة الليل. وهناك اضافة الى ذلك روايات أهداف سويف التي تجسر العالمين، ومسرحية "باي باي لندن" الصادرة اخيرا من الكاتب الكويتي عدنان عبد الرضا، التي تروي قصة عربي خليجي يأتي الى لندن وتأسره حياة الليل فيها الى أن تصل زوجته وتعنفه على تصرفاته. الكتاب الأشهر عن الصلة الاسلامية البريطانية هو بالطبع "الآيات الشيطانية"، الذي يخص عددا من صفحاته 205 الى 209 للسخرية من زعيم اسلاموي يقبع خلف الستائر ويكل وجبات "تيك أواي".
فيما يخص الشعر هناك الشاعر العراقي هاشم شفيق التي يحتفل في ديوانه "صباح الخير يا بريطانيا" الصادر في 1993 بتنوع الحياة في لندن، مشيراً الى بيغ بن وشكسبير والحدائق العامة في قصائد تذكّر، في تركيزها على الوحشة والحزن، بقصيدة اليوت "الأرض الخراب". ولهذه المواضيع اصداؤها لدى شعراء الفارسية، حيث نجد جانبها الأكثر إظلاما في قصيدة "لندن 1970" لمحمد زوهاري، التي تعطي صورة لا تترك الكثير للخيال عن مناخ لندن: "المطر صباحاً /المطر ظهراً / ثم في الليل، دوماً في الليل، المطر مجدداً / هناك دوماً مظلة/ ومطر/ ومعطف". عكس ذلك هناك جاله اصفهاني، بقصيدته "أورديبيهشت لندن" التي يحتفي فيها ب"أكداس الورد والخضرة والأشجار الهائلة/ بجذورها وزهرها البهي/ ... لندن مدينة الورد والخضرة والمطر/ بطيورها الغريدة السكرى/ بسمائها الغيمية الزرقاء/ بالمياه التي تغطيها غلالة الضباب/ بحدائق يتوجها الورد/ ... بقصورها الجميلة الصاعدة الى السماء/ حيث يجلس السادة لتمضية الوقت/ بالمتاحف ومراكز المعرفة/ وروعة الكنائس/ باناسها الدمثين لكن الباردين". لكن جاله اصفهاني، مثل الكثيرين غيره، يدرك في الوقت نفسه التناقض بين الأهمية السياسية للندن وما يدور في الشرق الأوسط: "هذا المركز الثابت للتقاليد/ مدينة الاضرابات والخطب/ حيث يقف السلام والسلاح وجها لوجه/ ... لكن قلبي ليلا نهاراً هناك في أرض خوزستان الدامية/ أو مأسوراً بنيران لبنان/ يا له من يوم حزين يا لندن".
الجامعات
يقودني هذا الى الحيز الرابع والأخير للاتصال، وهو الحياة الجامعية. وتعتبر لندن منذ عقود طويلة من المراكز الرئيسية لدراسات الشرق الأوسط، خصوصاً لوجود "معهد الدراسات الشرقية والأفريقية" سواس، الذي أتشرف بكوني من خريجيه، اضافة الى حياتها الجامعية التي اجتذبت الكثيرين من الطلبة من انحاء الشرق الأوسط، لدراسة مواضيع مثل الطب والهندسة والمحاسبة والاقتصاد والتاريخ والأدب، وحتى، احيانا، العلاقات الدولية. وقد أدى وجود طلبة من الشرق الأوسط الى اغناء حياتنا الجامعية، طلبة وأساتذة، ونأمل انه ساهم في تطوير الحياة الجامعية في منطقة لها تاريخ متواصل في التعليم العالي لمواضيع مثل العلوم والرياضيات والتاريخ والأدب أطول مما لنا في هذه الجزر.
ونجد أمامنا في الوقت الراهن عددا من الفرص، وكذلك بعض الأخطار. الفرص متوفرة للطرفين: ذلك ان الجامعات البريطانية تلعب دوراً رائداً في دراسة حقول جديدة في الدراسات الاجتماعية - مثلما في الادارة والمفاهيم الجديدة في حقل التاريخ والمقاربات المتنوعة لدراسة الأدب، وأيضاً دراسة العولمة - اضافة الى علوم الطبيعة. وهناك تفهم اكثر لاحتياجات الطالب الأجنبي، من تعليم اللغة الى التحضير للدراسة على مستوى الأبحاث. بالمقابل، هناك من الجانب الشرق الأوسطي اقبال متزايد على التعليم، والأهم من ذلك، ادراك التربويين والسياسيين بأن التعليم في العالم الحديث يشكل مفتاح التنمية والقدرة على التنافس. ان على التعليم في الحقول التي تشهد تطوراً سريعاً، مثل تقنية المعلومات، أن يكون متعدد الجوانب ومرتكزاً في الوقت نفسه على القدرة على التقييم واستخلاص الاحكام من سيل المعلومات التي توفرها التقنيات الحديثة. مثلاً، اذا كنت تحلل اتجاه اسعار النفط، عليك أن تضع في الحساب عناصر مثل العلاقة بين عدد السكان وفرص العمل، والتوترات الاجتماعية الناجمة عن العولمة، وأسباب الصراع بين الشعوب والدول والاشكال الممكنة لتسويته. كما عليك عند النظر في قضية الديموقراطية البحث في المخاطر المرافقة للتحول اليها، مقابل المخاطر الأخرى الناتجة عن النكوص عنها. والواضح ان عليك في كل هذا الاعتماد على منظورك التاريخي وقدرتك على استنباط الاحكام بقدر ما على المهارات الحسابية والمعلوماتية. ولا شك ان للتعليم البريطاني الكثير مما يتعلمه ويقدمه في هذه المجالات من خلال تعامله مع الشرق الأوسط.
بالمقابل، هناك مشاكل كبيرة، تسلط الضوء على التحديات أمامنا، ليس اقلها أهمية، خصوصاً في سياق هذا المؤتمر، الهوة المتزايدة السعة بين أهمية لندن بالنسبة للشرق الأوسط كمركز مالي وأمني واعلامي من جهة، وما تقدمه الجامعات من الجهة الثانية. ذلك ان انتشار التعليم في المملكة المتحدة والشرق الأوسط يأتي في كثير من الأحيان على حساب النوعية، أي القدرة التعبيرية وحب الاستطلاع الفكري والتحليل والاستقلالية في الحكم. ان الجامعات ليست مصنعاً للشهادات. لكن التلهف الى الحصول على اكثر ما يمكن من الطلبة الاجانب وتعليمهم بأسرع ما يمكن لم يتماشى دوماً مع الأمانة الأكاديمية. ويأتي هذا في الوقت الذي تواجه فيه الجامعات البريطانيا تحديا لمكانتها في الشرق الأوسط، خصوصاً من الكليات الأميركية التي تقدم ثقافة جامعة مختلفة، هي في احيان كثيرة أسهل على التقبل.
العولمة تزيد من الاهتمام بالآخرين، لكنها تخلق مشاكلها الخاصة. من ذلك الرغبة المتعجلة في التعلم واكتساب المهارات وضيق الصدر بالوقت الذي يتطلبه التشكل المعرفي الحقيقي. من ذلك أيضاً سيطرة اللغة الانكليزية، ما يؤدي في ما يخص الشرق الأوسط الى تناقص الخيارات الثقافية المطروحة أمامه، كما يؤدي بالطلبة البريطانيين الى العزوف عن تعلم لغات الشرق الأوسط ومتابعة تطورها. وأضيف الى هذه التأثيرات العامة للعولمة تأثيرا آخر هو تزايد حرص الدول على مراقبة الحياة الأكاديمية والاعلام والسيطرة عليهما ومحاولة احتواء التحدي الذي يقدمانه. ولا شك ان الكثيرين من الملحقين الثقافيين ليسوا ملحقين ثقافيين فحسب. ويشعر كل من يعمل في اي من حقول العلوم الاجتماعية بالضغوط والقيود، الظاهر منها والخفي، من الحكومات. ولا اعرف بلداً واحداً ولا واحداً! في المنطقة يخلو من شكل من أشكال السيطرة على الحياة الأكاديمية في مجالات البحث والحوار الحر بعيداً عن أي رقابة. هذه السيطرة مضرة بالمنطقة وحياتها الثقافية، خصوصاً لدى الجيل الجديد هناك، كما انها تؤثر على عملنا هنا.
المستقبل
يركز هذا المؤتمر على الماضي والحاضر، لكن علينا أيضا القاء نظرة عامة على المستقبل. العلاقة بين لندن والشرق الأوسط، التي تعود الى الفي سنة، شهدت تغيرات حادة خلال العقود الأخيرة وستستمر في التغير. ولا شك ان جاليات جديدة ستظهر، وان تلك التي تشكلت أخيرا ستنتج خلال جيل واحد اناساً يفخرون بلغاتهم وديانتهم الشرق أوسطية ويلتزمون سياسيات المنطقة، فيما يكونون في الوقت نفسه جزءاً من الحياة البريطانية. بل اننا نشهد بالفعل ذلك التحول من تجربة الزائر العابر أو الجالية المهاجرة الى حياة مترسخة تثري الحياة في هذا البلد. بالمقابل فإن لندن تبقى، مثلما كانت وأكثر، مركزا مالياً وثقافياً للشرق الأوسط. كما ان بريطانيا، بحكم صلاتها التاريخية وأيضاً عضويتها الدائمة في مجلس الأمن، تشارك في شؤون وصراعات الشرق الأوسط وستبقى كذلك.
لهذه الأسباب مجتمعة هناك حاجة الى دعم الدراسات المتنوعة والمستقلة لتلك المنطقة وعلاقاتها الكثيرة ببريطانيا. اننا نتقدم الى عالم جديد، عالم ما بعد الكولونيالية، ونحو بريطانيا اكثر تنوعاً وتعدداً ثقافياً. لكن هذا يترك الكثير من الاسئلة المفتوحة، وليس اقلها أهمية طبيعة العلاقات الجديدة هذه مع الشرق الأوسط، وطبيعة التعدد الثقافي - أي اذا ما كان يعني جاليات سلطوية ودينية وقومية منعزلة، أم وضعا يشجع على التنوع ضمن كل من الجاليات والتسامح والتعامل العاقل فيما بينها. فوق ذلك، ومثلما كان الحال قبل الفي سنة، نحتاج الى ان نتذكر اننا نعيش في عالم واحد بمشاكل ومصالح مشتركة، وأيضاً، ورغم كل الكلام عن "صراع الحضارات"، بانسانية مشتركة. وهنا، في معرض التنويه بروحية البحث الحر والانسانية المشتركة، والقيام بحوار حقيقي عفوي بين الحضارات وليس حواراً تجري مسرحته بعناية، ليس أفضل من الختام بكلمات الطيب صالح واصفا عودته الى قريته بعد سبع سنوات في لندن واسئلة القرويين عن تجربته هناك:
"أجبت على اسئلتهم بأقصى ما استطيع. واستغربوا عندما اخبرتهم أن الأوروبيين، رغم بعض الفروق الطفيفة، يشابهونهم تماما. فهم يتزوجون ويربون اطفالهم حسب المباديء والتقاليد، وانهم عموماً حسنو الأخلاق وطيبون.
سألني محجوب: هل بينهم فلاحون؟
نعم بينهم بعض الفلاحين. عندهم كل شيء: عمال وأطباء وفلاحون ومعلمون. تماما مثلنا.
فضّلت أن لا أقول الأشياء الأخرى التي جالت في ذهني: انهم، مثلنا تماما، يولدون ويموتون، ويحلمون خلال هذه الرحلة من المهد الى اللحد أحلاماً يتحقق بعضها ويتلاشى بعضها سراباً. انهم يخافون المجهول، ويفتشون عن الحب ويسعون الى القناعة مع الزوجة والطفل. بينهم تجد الأقوياء والضعفاء، وان الحياة تعطي البعض أكثر مما يستحق، فيما تحرم الآخرين، لكن الفرق يتضاءل، ولم يعد الضعفاء ضعفاء. لم أقل هذا لمحجوب، واتمنى لو قلته، لأنه ذكي، لكن غروري جعلني اخشى انه لن يفهم".
علينا أن لا نخشى!
* كاتب بريطاني. والمقالة محاضرة ألقاها في كلية الدراسات الشرقية والافريقية سواس في جامعة لندن في آخر حزيران يونيو الماضي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.