المشهد الذي أطلّت المطربة فيروز من خلاله هذا العام في قصر بيت الدين يذكّر كثيراً بالمشهد الذي فاجأت به جمهورها العام الفائت. هي في الوسط وزياد الرحباني الى شمال المسرح جالساً الى "البيانو" والفرقة تتوزع الناحيتين يقودها المايسترو الأرمني الذي قاد العام الفائت الفرقة نفسها تقريباً. قد لا يكون المشهد فقط هو ما يعيد الى الذاكرة حفلات العام الفائت. فالجو الغنائي والموسيقي يكاد يكون هو نفسه والاغنيات الجديدة التي انجزها زياد هذا العام لا تختلف عن الاغنيات "الجديدة" السابقة على رغم تفاوتها بين الطرب الشرقي والجاز. صوت فيروز هو نفسه ايضاً تشوبه بحّة النضج وشجوّ الزمن وتلك المسحة الجمالية الغريبة التي كثيراً ما وسمته. أما زياد الرحباني فكان أقل تدخلاً و"تمثيلاً" واكتفى في البداية بما قاله عن جبران خليل جبران وشركة طيران الشرق الاوسط. وبدا كلامه نهفة طريفة ومستهجنة في الحين نفسه: فما الذي يجمع بين جبران وشركة الطيران اللبنانية التي تعاني الآن ازمة فعلية؟ وإذا كان جبران وحده الخالد امام لعبة الزمن - كما عبّر زياد - فماذا عن ظاهرة الأخوين رحباني وفيروز؟ أليست هذه الظاهرة من الظواهر القليلة الخالدة في لبنان؟ لم يوضح زياد الرحباني ما يريد من جملته التي حيّرت الجمهور فصفّق لها كما اعتاد ان يصفّق لجمل زياد الساخرة. وربما لم يشأ زياد ان يوضح قصده تماماً، فالمقطوعتان الموسيقيتان اللتان استهل بهما الحفلة، كانتا كافيتين لتشكّلا ما يشبه المقدمة التي تمهد لدخول فيروز الى المسرح. واستهلت فيروز اطلالتها هذا العام بأغنية جديدة - هي من جديد زياد ايضاً - تحتاج الى المزيد من الاصغاء. انها اغنية "شو بخاف" التي أدّتها فيروز بحزن شفيف يعبّر عن "الحالة" التي تختزنها هذه الأغنية الطالعة من "مزاج" زياد وهو مزاج داخلي "مزمن". في هذه الاغنية المشبعة بجو الجاز مقتبسة عن ماريا دو كرنفال للويس بونفا تخاطب فيروز "الحبيب" خائفة ألا تلقاه في منتصف الليل اذا اتصلت به هاتفياً. انها العاشقة التي تخاف كل شيء، العاشقة التي لا تطفئ أرقها إلا الحبة المنوّمة. اغنية حزينة بعض الحزن ولكن جريئة وواقعية. والأجرأ من الأغنية ان تستهلّ بها فيروز حفلة غايتها عادة ان تفرح الجمهور. وبدا الجمهور هادئاً في البداية وغير متحمّس او مستغرباً قليلاً. إلا ان فيروز سرعان ما أتبعتها بأغنية "خليّك بالبيت" التي لا تختلف عنها كثيراً في جوّها وأبعادها. وعندما أدّت فيروز اغنية الأخوين رحباني الشهيرة "بحبك ما بعرف" سرعان ما تفاعل الجمهور معها كاسراً حال الصمت او الجمود التي حلّت به في بداية الحفلة. صحيح ان الجمهور تحمّس لأغنيات الأخوين رحباني التي اختارها زياد وربما فيروز ايضاً وأعاد توزيعها في صيغة اوركسترالية هي غاية في الابتكار والجمال والرهافة، لكن الجمهور تحمّس كثيراً لأغنيات شعبية محفورة في ذاكرته عبر صوت المطرب الراحل جوزف صقر مثل "عا هدير البوسطة" و"تلفن عيّاش". والأغنية الأخيرة اختتمت بها فيروز حفلتها بعد اصرار شديد من الجمهور وتصفيق وهتافات. وتحمّس الجمهور ايضاً لأغنية "ولّعت كتير" التي أدّتها سلمى مصفي في شريط "مونودوز" الذي أنجزه زياد اخيراً. لكنها بدت مختلفة مع الكورس والتوزيع الجديد وأقل طرافة وسخرية. وإن أغفل زياد الرحباني مقدمات الأخوين رحباني الموسيقية مؤثراً مقطوعاته الخاصة كمقدمات فهو أدرج في البرنامج ست اغنيات من الريبرتوار الرحباني القديم. وبدا أداء هذه الأغنيات أشبه بالتحدي الذي خاضته فيروز بنجاح هذا العام بعدما بدأ صوتها يميل الى طبقته الخفيضة والعريضة، المحفوفة بالدفء، والمتهادية بحركتها الهادئة العميقة. موّال "يا جبل البعيد" حمل اصداء من الحزن النقي والأسى وبدا كأنه يجيش بالحنين والحب واللوعة. وهكذا أدّت فيروز أيضاً وبروعة مماثلة اغنية "بحبك ما بعرف" و"لا انت حبيبي" و"طلّ وسألني" ... إلا انها كان من المنتظر ان يسطع صوتها في اغنية "الغضب الساطع آتٍ" التي كانت بمثابة تحية الى الانتفاضة الفلسطينية. لكن البحة العذبة والمجروحة التي تعتري صوتها جعلت تلك الاغنية خلواً من الغضب الجميل الذي اتسمت به الأغنية في صيغتها الأصلية. وتبعاً لمفهوم "الالتزام" الذي ينتهجه زياد الرحباني على طريقته الخاصة أدّت فيروز اغنيات وطنية اخرى مثل "الأرض لكم" و"رح نبقى". وإذا لم تخلُ الأولى من الوعظ الجبراني فإن الثانية بدت على قدر كبير من المبالغة الوطنية. اما الاغنية الجديدة الاخرى التي انجزها زياد الرحباني فهي ذات نَفَس طربي وإيقاع سريع وعنوانها "خبّرني عن اخبارو" أو "ان شاالله ما بو شي". وبدت فيروز متلبّكة بعض التلبك في الحفلة الاولى عبر ادائها اياها، حتى ان بعض الكلمات لم تُفهم، اضافة الى ان الاغنية لم تتجلّ تماماً او لم تتبلور كما يُفترض بها. ولعل هذا الأمر طبيعي اذ ان الاغنيات الجديدة تحتاج دوماً الى المزيد من الصقل صوتاً وأداء. وكان من المنتظر ان تؤدي فيروز الأغنية الجديدة الثالثة وعنوانها "فزعاني" لكن زياد لم يتمكن من انهائها. على ان اغنية "صباح ومسا" التي غنّتها فيروز العام الفائت بدت من "جديد" فيروز لأنها لم تنتشر ما يكفي على رغم صدورها في اسطوانة خاصة بالحفلة الفائتة. وغاب صوت فيروز وتنهّداتها عن القطعة الموسيقية الرائعة التي كان اختار زياد لها اسماً طريفاً "... وقمح". هذه المقطوعة قد تكون من اعمق وأجمل المقطوعات التي يختبر زياد من خلالها الموسيقى تأليفاً وتوزيعاً. وهي تحمل احساساً درامياً عميقاً استطاع صوت فيروز الصامت ان يرتقي به الى ذروته في المقطوعة الاصلية. لم يشأ زياد الرحباني - كما بدا في الحلفة - ان يفرض ظله هذا العام ولا ان ينافس فيروز فكان حضوره خفراً ولطيفاً. وخفّف هذا العام من الاغنيات الشعبية مؤثراً الاغنيات المتهادية او الغناء الذي يفيض بالعذوبة والجمال. اما براعته في اعادة توزيع الاغاني السابقة والألحان والمقطوعات وفي سبك الأجواء الشرقية والغربية، فأصبحت في غنى عن اي إطراء او مديح. فالألحان والأغنيات والمقطوعات تخرج من بين يديه في صيغ جديدة أشد إتقاناً وشفافية. وكانت فيروز - كعادتها - نجمة اللقاء بينها وبين زياد وغنّت كما يحلو لها ان تغنّي ببراعة وبساطة، باتقان وعفوية، بصدق وشفافية. انها فيروز اولاً وأخيراً مطربة المستقبل قبل ان تكون مطربة الماضي الجميل المستمر أبداً في ذاكرة الجمهور اللبناني والعربي وفي وجدانه العام. * تحيي المطربة فيروز مساء اليوم الحفلة الثالثة في مهرجان بيت الدين.