شاع في اوساط المثقفين العرب، خصوصاً في عقدي الخمسينات والستينات، ان الفكر الماركسي وما تفرع عنه من مدارس ونظريات اشتراكية يعنى بمصالح الناس الاقتصادية والاجتماعية اكثر من اي فكر آخر. وشاعت في الوقت ذاته كتابات وآراء تصف الاسلام بأنه فكر الروحانيات والاخلاقيات والمثل فقط. وهناك من تمادى ووصف الفكر الاسلامي بأنه لا يصلح لمخاطبة الواقع والتعامل معه وحل مشكلاته العصرية المعقدة. وحقيقة الأمر ان التشريع الاسلامي والفكر الاسلامي بصورة عامة يهدف اساساً لتحقيق مصالح البشر. وهذه المصالح يحددها الفكر الاسلامي بوضوح وتكامل فهي مصالح اقتصادية واجتماعية وعقلية ونفسية روحية. ونقرأ في الخطاب الاسلامي ان الدين وتشريعاته ونظمه تهدف في مجموعها الى تحقيق مصالح الناس وهي المصالح الحيوية الاساسية والتي بدونها لا تستقيم الحياة ولا يعم الامن والاستقرار. وهذه المصالح منها ما يخص الفرد ومنها ما يخص الجماعات والشعوب، وفي هذاالموضوع يقف الامام الشاطبي في مقدم العلماء في كتابه "الموافقات"، خصوصاً الجزء الثاني الذي خصصه لمقاصد الشريعة الاسلامية وذهب فيه الى "ان وضع الشرائع انما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً. ويرى ان تلك المصالح ما يرجع الى قيام حياة الانسان وتمام عيشه ونيله وما تقتضيه اوصافه الشهوانية والعقلية على الاطلاق حتى يكون منعماً على الاطلاق". ويقسم المقاصد الى ثلاثة اقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية. والضرورية اذا فقدت معناها ان مصالح الناس قد ضاعت ووقع الناس في الفساد والتهارج. ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين. والنفس. والنسل. والمال. والعقل. وهي ضروريات عامة ولكل البشر. وللامام الشاطبي آراء مفصلة ومفيدة في هذا الموضوع تستحق ان تدرس في المدارس والجامعات كما تستحق ان تدرّس في المساجد وان تكون مادة يتناولها الخطاب الجديد بصورة واسعة ليعرف الناس العمق الحقيقي لمفهوم المصلحة في الشرع الاسلامي. والامام العز بن عبدالسلام يقول: "ان الشريعة كلها مصالح اما درء مفاسد او جلب مصالح". اما شيخ الاسلام ابن تيمية فيرى "ان الشريعة الاسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها" وتلميذه الامام ابن القيم الجوزية يؤكد على المعاني نفسها: "الشريعة مبناها واساسها مصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها". ومعلوم ان المصالح تتحقق بتعاون ابناء المجتمع الواحد بطرق منها اقامة المؤسسات الخيرية وهو ما عرف في التاريخ الاجتماعي الاسلامي بالوقف، وبه سجل المسلمون اول أس للضمان الاجتماعي وأول لبنة في معالجة حالات الفقر والحاجة لبعض ابناء المجتمع الاسلامي او المقيمين فيه من اصحاب الديانات الاخرى. وكانت المجتمعات الاسلامية قبل نشوء الدولة القطرية الحديثة تتمتع بكثير من الحريات في مجال توسيع المؤسسات الاجتماعية الخيرية، وكان المسجد هو المنارة التي تقود وتحث الناس على البذل والعطاء تراحماً وتلاحماً بين الناس. لكن الدولة الحديثة اصبحت تضيق بتلك المؤسسات كما تضيق بدور المسجد في بعض الاحيان. وما زلنا نرى في المجتمعات الخليجية شيئاً من ذلك التقليد الاسلامي القديم الجميل، وما زال اهل هذه المجتمعات الملاذ والمقصد لكثير من المحتاجين والعاملين في مجال الخدمات الانسانية والخيرية، وهذه الظاهرة تستحق التقدير. ونتمنى ان تشجع جميع النظم والحكومات ظاهرة المؤسسات الخيرية الاهلية المستقلة، وهي الظاهرة التي تعرف عادة بالوقف الاسلامي. والمقياس الحقيقي للدولة وعدلها يتمثل في مدى التزامها خدمة المجتمع وتكريس كل امكاناتها لتحقيق مصالح المواطنين والمقيمين في ذلك المجتمع سواء كانت اقامتهم موقتة او دائمة. وبعض دور خطاب المصلحة هو شرح وتوضيح اهمية التعاون بهدف اشاعة مفهوم المصالح من وجهة اسلامية تعبدية اخلاقية. وقد بحث علماء امتنا مسألة من يحدد المصلحة، وما هي حدود المصلحة، كما بحثوا مسألة المفسدة، واين تقع الحدود الفاصلة بين المصالح والمفاسد، واكدوا ان الدين، ومصدره هنا القرآن والسنّة والاجتهاد، هو الذي يحدد اين تقع مصلحة الانسان، وطبيعة هذا الدين ترك المجال امام المجتهد والباحث للنظر في المصالح والمفاسد بما يتلاءم مع مقتضيات كل زمان ومكان. وعن كيفية تحديد المصلحة يرى الشاطبي ان "المصالح المجتلبة شرعاً والمفاسد المستدفعة انما تعتبر من حيث تمام الحياة الدنيا للحياة الاخرى، لا من حيث اهواء النفوس في جلب مصالحها العادية او درء مفاسدها العادية". وفي كل العصور وفي عصرنا هذا بالذات تعتبر المصلحة الاقتصادية سيدة المصالح، واي ظلم او تهاون فيها سيفتح ابواب الفساد والخراب في كل مناحي المجتمع. وقد جعل ابن خلدون الظلم المرتبط بالعدوان على اموال الناس بداية خراب العمران فقال: "اعلم ان العدوان على الناس في اموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من غايتها ومصيرها انتهابها من ايديهم واذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت ايديهم عن السعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فاذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع ابواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة". وهذا النوع من الظلم الاقتصادي هو ما فعلته وما تزال تفعله التطبيقات الاشتراكية خصوصاً في العالم المتخلف اقتصادياً، وهو التطبيق الذي نقله بعض البلدان العربية والاسلامية من المعسكر الاشتراكي خلال مرحلة الحرب الباردة وادى الى خراب اقتصاد تلك البلدان وجعلها ترزح تحت اعباء الديون حتى يومنا هذا. ان فقه المصالح الذي نريده هو الذي يحدث التوازن المهم في اقتصاد الافراد وفي اقتصاد الوطن بصورة شاملة. وهو الفقه الذي يجنب الامة مآسي الحاجة والفقر، ويجنبها مآسي القرارات الاقتصادية المغلوطة التي تؤدي الى سلب اموال الافراد والعائلات وبالتالي تؤدي الى انهيار الاقتصاد الوطني كله. فقه المصالح المتوازنة هو الذي يبحث في انجع السبل وافضلها لتحقيق العدل بين الناس. والتوازن هنا مطلوب بين متطلبات الحياة الدنيا وبين الآخرة "وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا"، وهذا التوازن يحدده الخطاب الجيد الذي تقدمه صفوة المجتمع بحيث يكون هو الخطاب الاعلى في كل المنابر العلمية والفكرية والاعلامية والسياسية، ويكون هذا الخطاب بديلاً عن الخطابات المسطحة او المتشددة او الخرافية. وهو الخطاب الذي يعتمد التيسير والتسهيل والتوسط لأن طبيعة الاسلام اليسر والرحمة. لكن هذه المصالح لا تتحقق بصورة ثابتة ومنظمة الا في ظل مناخ جيد من الحريات العامة، والا في ظل درجة معقولة من العدل السياسي والاقتصادي يحدده اهل العقد والحل، وهم مجموعة من المواطنين يفترض ان يكونوا من خيرة ابناء المجتمع من حيث فهمهم لواقعهم وللعصر الذي يعيشون فيه، ومن حيث استقامتهم ونزاهتهم وعدلهم، ومن حيث قدرتهم على القيام بواجبهم على اكمل الوجوه معنوياً وجسمياً، ويتم اختيارهم بالطرق المناسبة لزمانهم ومكانهم في كل بلد من البلدان الاسلامية المجالس النيابية عندما تنتخب انتخاباً حراً نزيهاً. ومسؤوليتهم الاولى العمل على تحقيق المصالح العامة، وان يكون السبيل الى ذلك استخدام العقل والذكاء البشري المنسجم مع الشرع للوصول الى المصلحة. الخطاب الملح الآن هو الذي يعالج قضايا البنية الاساسية الاجتماعية ومحورها التعليم والتربية، الامن والسلام الاجتماعي، التضامن الاقتصادي، وتعزيز حرية وكرامة الانسان المسلم وغير المسلم تحت مظلة الايمان والعمل الصالح. والدولة في عصر تدفق المعلومات، والمؤسسات المتخصصة، لا يمكن لها ان تنهض بواجباتها ولا يمكن لها ان تنجح في معالجة مشاكل الحياة اليومية الا اذا حددت مصالح الناس ووضعت دراسات ومخططات لتوصيف تلك المصالح واولوياتها. * كاتب ليبي مقيم في لندن.