أمير عسير يُعزّي أسرة «آل مصعفق»    الفضلي: «منظمة المياه» تعالج التحديات وتيسر تمويل المشاريع النوعية    برعاية الملك.. انطلاق مؤتمر مستقبل الطيران في الرياض.. اليوم    1.8 % معدل انتشار الإعاقة من إجمالي السكان    رئيس وزراء اليونان يستقبل العيسى    أوتافيو يتجاوز الجمعان ويسجل الهدف الأسرع في «الديربي»    4 نصراويين مهددون بالغياب عن «الكلاسيكو»    خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية في العيادات الملكية    «عضو شوري» لمعهد التعليم المهني: بالبحوث والدراسات تتجاوزون التحديات    الترشح للتشكيلات الإشرافية التعليمية عبر «الإلكترونية المعتمدة»    البنيان: تفوق طلابنا يبرهن الدعم الذي يحظى به التعليم في المملكة    السعودية.. يدٌ واحدةٌ لخدمة ضيوف الرحمن    متحدث «الداخلية»: «مبادرة طريق مكة» توظف الذكاء الاصطناعي    جائزة الرعاية القائمة على القيمة ل«فيصل التخصصي»    السعودية من أبرز 10 دول في العالم في علم «الجينوم البشري»    5 بذور للتغلب على حرارة الطقس والسمنة    ولي العهد يبحث مع سوليفان صيغة شبه نهائية لاتفاقيات استراتيجية    وزارة الحج والعمرة تنفذ برنامج ترحاب    المملكة تؤكد استعدادها مساعدة الأجهزة الإيرانية    وزير الخارجية يبحث ترتيبات زيارة ولي العهد لباكستان    نائب أمير منطقة مكة يُشرّف حفل تخريج الدفعة التاسعة من طلاب وطالبات جامعة جدة    «أسمع صوت الإسعاف».. مسؤول إيراني يكشف اللحظات الأولى لحادثة «الهليكوبتر»!    تنظيم مزاولة مهن تقييم أضرار المركبات بمراكز نظامية    جائزة الصالح نور على نور    مسابقة رمضان تقدم للفائزين هدايا قسائم شرائية    القادسية بطلاً لكأس الاتحاد السعودي للبلياردو والسنوكر    هاتف HUAWEI Pura 70 Ultra.. نقلة نوعية في التصوير الفوتوغرافي بالهواتف الذكية    تأجيل تطبيق إصدار بطاقة السائق إلى يوليو المقبل    الشيخ محمد بن صالح بن سلطان «حياة مليئة بالوفاء والعطاء تدرس للأجيال»    أمير تبوك يرأس اجتماع «خيرية الملك عبدالعزيز»    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 42 موقعاً حول المملكة    الانتخابات بين النزاهة والفساد    تحقيقات مع فيسبوك وإنستغرام بشأن الأطفال    جهود لفك طلاسم لغة الفيلة    تأملاّت سياسية في المسألة الفلسطينية    "إنفاذ" يُشرف على 38 مزادًا لبيع 276 من العقارات والمركبات    165 ألف زائر من بريطانيا للسعودية    الاشتراك بإصدار مايو لمنتج «صح»    5.9 % إسهام القطاع العقاري في الناتج المحلي    ثقافة سعودية    كراسي تتناول القهوة    المتحف الوطني السعودي يحتفي باليوم العالمي    من يملك حقوق الملكية الفكرية ؟!    وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا    الخارجية: المملكة تتابع بقلق بالغ ما تداولته وسائل الإعلام بشأن طائرة الرئيس الإيراني    الملاكم الأوكراني أوسيك يتوج بطلاً للعالم للوزن الثقيل بلا منازع    بختام الجولة ال 32 من دوري روشن.. الهلال يرفض الهزيمة.. والأهلي يضمن نخبة آسيا والسوبر    عبر كوادر سعودية مؤهلة من 8 جهات حكومية.. «طريق مكة».. خدمات بتقنيات حديثة    بكاء الأطلال على باب الأسرة    يوم حزين لهبوط شيخ أندية الأحساء    «الخواجة» نطق.. الموسم المقبل ضبابي    أمير القصيم يرعى حفل تكريم الفائزين بمسابقة براعم القرآن الكريم    ارتباط بين مواقع التواصل و«السجائر الإلكترونية»    الديوان الملكي: خادم الحرمين يستكمل الفحوصات الطبية    سقوط طائرة هليكوبتر تقل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية    السعودية تطلق منصة فورية لإدارة حركة الإحالات الطبية    انقسام قادة إسرائيل واحتدام الحرب    خادم الحرمين الشريفين يأمر بترقية 26 قاضياً ب «المظالم»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العرب وأوروبا والاتجاه صوب المستقبل . نحو التحرر من معوقات الميراث التاريخي وتصحيح الصور المتبادلة
نشر في الحياة يوم 14 - 11 - 1998

قُدِّر للبحر الابيض المتوسط، ان يكون اطاراً لتفاعل حضارات ثلاث لكل منها ثقافة معينة، ونمط في التفكير، والاعتقاد والمعاش، وشخصية متميزة، وذلك منذ قرون عدة. وهذه الحضارات هي الحضارة الغربية اللاتينية الرومانية، والحضارة العربية الاسلامية والحضارة اليونانية. وجمع بين الحضارتين الغربية والاسلامية تعارض عميق، اتسم بالتنافس والعداء والمحاكاة والاقتباس، اذ ابتكرت الاولى "الصليبية" وتبنت الثانية الجهاد، وعاش كلاهما ما انتجه طوال قرون، وتجاوزا حدود الدول والقارات وكانا - على حد تعبير المؤرخ الفرنسي الراحل فرنان بروديل - بمثابة "عدوين متكاملين".
وعلى رغم هذا التعارض العميق والصدام والحروب الا ان بروديل يرجع الامر الى مصالح الدول والتجارة والتوترات الاجتماعية، ولم يقل بصدام الحضارات، ذلك ان تبلور المصالح الطبقية لبورجوازية المدن دفعها للبحث عن تأمين تجارتها، وازدهارها او السيطرة على طرق هذه التجارة، وكان التغير في هذا المستوى الاقتصادي والتجاري نعمة للبعض كما انه في الوقت ذاته نقمة على الآخرين، ان هذا التغير كان وراء العلاقة غير المتكافئة بين اوروبا والعالم العربي الاسلامي، خصوصاً في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
وتاريخ هذه الفترة لم يخل من بعض المحاولات الاوروبية، وان كانت محدودة - لتفهم سر تقدم العثمانيين، في بدء انتصاراتهم في البلقان واوروبا والتعرف على نظمهم العسكرية والادارية، وذلك خروجاً على ما كان مألوفاً ودارجاً حينئذ عن قسوة العثمانيين والصورة السلبية التي رسمها رجال الدين والسياسة، وتسربت الى نفوس المواطنين، حيث رفض بعض المهتمين من ذوي العقول النيرة الانخراط في هذه النغمة، وعبروا الحدود للتعرف عن قرب على حقيقة هذه الامبراطورية الاسلامية والقيام ببحوث نزيهة عن تطورها وتكونها، وتوزع هذا النفر القليل بين الديبلوماسيين والدارسين، بل تمكن بعض كتاب هذه الحقبة من تصور "حوار عالمي" في هذا الوقت المبكر بين الإسلام والقوات المشتركة للعالم المسيحي.
ولا يزال البحر المتوسط حتى الآن ملتقى لعدد من المتعارضات، فعلى ضفتيه يقف الغرب والشرق، والعالم المسيحي والعالم الاسلامي، والعالم العربي واوروبا والشمال والجنوب، وتكاد تمثل كل ضفة مرجعية ثقافية متعارضة بدرجة او بأخرى مع الضفة المقابلة بمرجعيتها. وعلى حين تمثل الضفة الشمالية مصدر جذب، تمثل الضفة الجنوبية مصدر طرد، بالمعنى النسبي وليس المطلق، وتمثل ضفتا المتوسط مخزوناً جمعياً كبيراً يختلط فيه الحب بالكراهية والرفض بالقبول والانبهار والمحاكاة باللامبالاة والاقتباس، والاستعارة بالبحث عن الاصيل، كما يختلط فيه التاريخ بالحاضر والمتخيل بالحقيقي، وعلى ضفتيه يمكن للمراقب المحايد رؤية اشكال متنوعة من خطاب الاستبعاد والنفي المتبادل في تناقض مع الخطاب الرسمي المؤسسي حول الانفتاح والمصالحة والتعاون.
ويمكن للمتوسط ان يكون مكاناً للقاء الثقافات والتفاعل بينها، والحوار في اطار احترام التنوع والتعدد، ولن يتأتى ذلك الا عبر عمل متواصل يستهدف تدعيم التعاون بين البلدان المتوسطية، ولن يكون بمقدور هذا العمل ان يؤتي ثماره من دون ان يتأسس على نواة ثقافية وعقلية وإدراكية، تتمكن من تجاوز عقد الماضي والتحرر او التقليص من قيود الذاكرة الجماعية، ومحاصرة الاتجاهات السلبية التي تتغذى شعورياً ولا شعورياً من هواجس الماضي والذاكرة والميراث التاريخي الذي يعتبر جزءاً من لا وعي الجميع عرباً وغربيين.
ونعتقد ان تعاوناً وحواراً حقيقياً بين البلدان المتوسطية الاوروبية والعربية، لن يكون في مقدوره التقدم والنجاح، وان يترجم الى فاعليات عملية ملموسة، من دون الانتباه الى ميراث الماضي، ومعالجة بعض الظواهر السلبية التي علقت بالوعي العربي والوعي الغربي على حد سواء، وتقليص آثارها النفسية والتطلع الى تأسيس نظرة جديدة لطرفي هذه العلاقة احدهما للآخر، ذلك ان الفهم المتبادل والادراكات الصحيحة، تمثل عمقاً ضرورياً واستراتيجية لأية سياسة تستهدف تحقيق مطالب مشتركة ومصالح مشتركة مستقرة ودائمة.
لا يعني ذلك بالضرورة الاستغراق في دراسة مراحل تاريخية بأكملها، كالحروب الصليبية والمرحلة الاستعمارية وما دون ذلك من المحطات التاريخية، في هذه العلاقات الممتدة زمنياً ومكانياً، وانما يعني دراسة بعض الظواهر التي خلفتها هذه المراحل وبعض المؤثرات ذات الصلة بأنماط ادراك طرفي هذه العلاقة احدهما للآخر، بالذات ما امكن استرجاعه في الوعي في ظروف التوتر والخلاف، وفي اطار مشكلات نوعية مرتبطة باللحظة الراهنة، كما ان ذلك لا يعني من ناحية اخرى معالجة هذه الظواهر على سبيل الحصر - فضلا عن ان ذلك غير ممكن في اللحظة - فان هذه المعالجة تنخرط في اطار عملية تاريخية من التعاون والحوار المتكافىء، من شأنه ان يدعم الثقة والتفاهم، وان يهدم الحواجز القائمة واحداً بعد آخر، وانما اختيار بعض هذه الظواهر والبدء بها نظراً لأهميتها وحيويتها كبداية لهذه العملية الممتدة.
هذه العملية الثقافية التي تستهدف تبديد سوء الفهم، ينبغي ان تتأسس في تقديرنا على تجربة الحوار العربي - الاوروبي والذي بدأ اولى مراحله في عام 1973 وحتى عام 1975، حتى وصل الى مرحلة إعلان برشلونة وفي كل من المراحل التي شهدها الحوار كان ثمة عوامل تقف وراء تقدمه او تعوقه بأسعار البترول، تطور النظام الاقليمي العربي والتدخلات الخارجية خصوصاً من جانب الولايات المتحدة الاميركية. وينبغي ان نعترف ان حصاد هذه المراحل لم يكن يتوافق مع تطلعات اطراف الحوار من العرب والاوربيين، ودخل هذا الحوار في دورة بروتوكولية منوالية ذات حصاد ضئيل.
من ناحية اخرى فإن هذه العملية لا يمكن ان تكتفي بالتعويل على العناصر الطبيعية الجغرافية الديموغرافية القائمة الآن والتي تربط بين ضفتي المتوسط، اي القرب الجغرافي او الجوار 14 كلم تفصل المغرب عن اوروبا او 8 الى 10 ملايين مسلم في اوروبا، او الواقع المرئي للمهاجرين، ذلك ان هذه العناصر معطيات طبيعية وديموغرافية بحاجة لاطار سياسي ثقافي يدخلها في نظام واعٍ للفاعلية.
ولن يكون في مقدورنا التقدم في هذا المضمار دون ان نعي عرباً واوروبيين، ان تاريخ العالم العربي ومنذ قرنين، لا يمكن فصله عن التاريخ الاوروبي الغربي، وانه ليس من الصحيح ان ينظر كلانا الى تاريخ اوروبا وتاريخ العالم العربي كما لو كانا خطين لا يلتقيان ابداً.
وفي مقدم هذه الظواهر التي ينبغي الحوار حولها وبحث الصيغ الملائمة لمعالجتها، تقف الصورة السلبية للعربي المسلم، ولا شك ان تعقب جذور هذه الصورة قد يذهب بنا بعيداً في التاريخ، تاريخ الحملات الصليبية والفتوحات العثمانية في اوروبا وتطور الخطاب الاستشراقي، المرتبط بالمؤسسة الاوروبية الرسمية، وبصفة خاصة ذلك الخطاب الذي برر الاستعمار الاوروبي بتلك المعرفة والقوة والنظر الى الآخر المختلف باعتباره غريباً، ولكننا نقف فحسب لدى الصورة الحالية السلبية للعربي المسلم وللعالم العربي على حد سواء، فلا يزال العالم العربي لغزاً، والشرق معقداً، وما يدور به من احداث يبدو غير عقلانياً وغير مفهوم، ووراء ذلك يقف إعلام باحث عن المعلومات المختزلة والسطحية، ومدفوع لرسم صورة للآخر - العربي المسلم - تتوافق مع المخيلة الغربية او مع الآخر كما يراه الغرب.
وهذه الصورة السلبية للعربي المسلم "الارهابي"، "العنيف" المعادي للغرب والنساء والحيوانات، تجد تبريرها في الخطاب العام المتداول والذي يربط بين التطرف والاسلام والارهاب والتعصب، من خلال فئات مختزلة ولم تخضع للفحص والتدقيق والمراجعة ولا تتوافق مع الواقع المتعين، فالنظر الى العربي المسلم باعتباره صاحب ثروة بترولية يثير سؤالاً كم من العرب يملك مثل هذه الثروة؟ كما ان النظر اليه على انه ارهابي متطرف يجعلنا نتساءل كم من العرب يمكن لهذه الصفات ان تنطبق عليه؟ اما صفة العنف فيبدو ان الغرب قد نسى العنف الذي أسس حداثته عبر القرون، ضحايا الاضطهاد الديني والحروب الاهلية وغير الاهلية وصولاً الى الحروب العالمية الاولى والثانية.
ان النظر الى الآخر دون تأمل الذات ومساءلتها فضلاً عن انها عملية عديمة الجدوى فانها غير ممكنة، وذلك ان العربي المسلم المتخيل في الوعي الغربي قد تلصق به صفات في الذات الغربية لا تريد مواجهتها، اذ لا يمكن النظر الى الآخر من فراغ، بل عبر نظام للقيم والمرجعية الثقافية.
أخطر ما في هذه الصورة هي الاحكام المسبقة والمتحيزة والاحكام النمطية STEREOTYPES. وهذان النمطان من الاحكام ينتقلان من جيل الى آخر كخلاصة الخبرة الجماعية، ولا يفلت من وطأتها الكثيرون، بسطاء، ومثقفون، وتتسلل الى الوعي واللاوعي، عبر اشكال وصيغ وادوات مختلفة ومتنوعة: الاعلام، المدرسة، الاسرة، ويتوقف انتشارها وشيوعها على ظروف الازمات والمنازعات، اذ تستدعى بوقة ويجد فيها المواطنون تفسيراً بسيطاً احادياً يخلو من التركيب والتناقض يعفيهم من مهمة التحليل والاستقصاء.
ومهمة مراجعة هذه الصورة، ونقد معارفنا عن الآخر، وتصحيح الصورة التي نحتفظ بها في اعماقنا، وتنقيتها مما المَّ بها هو مهمة اية ثقافة ديناميكية، اذ يتوقف معيار هذه الديناميكية على قدرتها على نقد معارفها وآليات تشكيلها للاحكام، ومعايير النظر الى الاشياء والعالم وقدرتها على بلورة وصوغ معايير كونية تتوافق مع الثقافات الاخرى، وتؤهلها لتطويع ونقد معارفها في ضوء المستجدات والمكتشفات المعرفية الحديثة.
ونقطة البدء في تصحيح هذه الصورة هي النظر الى الآخر على انه مكون تاريخياً وليس محدداً انطولوجياً، اي انه كائن ذو تاريخ، صنع تاريخه بقدر ما صنعه تاريخه ولا يخضع لحتمية بيولوجية، الا بالقدر نفسه الذي يخضع له الآخرون، وذلك في اطار التاريخ العالمي الذي يمثل العنصر الاساسي في تكويننا.
اما في الجانب العربي، فالأمر - بطبيعة الحال - لا يخلو من مثل هذه الاحكام. فالغرب ليس كلاً واحداً متجانساً متحداً في مواجهتنا، وثابتاً في عدائه لنا، او عدائه للاسلام، اذ ينبغي التمييز بين تيارات الثقافة الغربية الليبرالية والتنويرية والانسانية والكونية وبين التيارات العنصرية والفاشية، وانه داخل تاريخ الغرب - كما هو داخل كل تاريخ - نزاع بين جوانبه المشرقة والمضيئة وجوانبه المظلمة والمعتمة.
بيد ان علاقات عدم التكافؤ كفلت لعناصر الصورة الغربية، عن العربي المسلم، الانتشار والشيوع، نظراً لما للغرب من قدرات مالية وإعلامية وثقافية ومؤسسات متخصصة ذات نفوذ على الصعيد العالمي، في حين ان صورة العالم العربي عن الغرب لا تجد طريقاً خارج العالم العربي نظراً الى افتقاد الامكانات.
علي صعيد آخر، ربما يكون آن الاوان للخروج من الثنائيات المقفرة والتي تحول دون الاستيعاب الايجابي لمنجزات الحضارة الحديثة والاندماج بها، واعني فئات الغرب/ الشرق، الإسلام/ المسيحية، امبراطورية الشر وامبراطورية الخير، المشابه والمختلف واخيرا هم ونحن. ذلك اننا نحيا في اطار حضارة عالمية واحدة وثقافات متنوعة وعلينا ان نعيش اشكالياتها وتحدياتها من دون خوف من فقدان الهوية او الذات.
وتجاوز الدائرة المفرغة لهذه الثنائيات لن يتم الا عبر تأسيس وعي نقدي مزدوج للذات والآخر، على حد سواء وذلك يعني نقد ممارساتنا، واستيعاب فكر الآخر نقدياً وان يقدم كل طرف نفسه ليس باعتباره المثل الاعلى المكتمل، بل بصورته كما هي بعناصرها الايجابية والسلبية، ويمكن لمثل هذا الوعي النقدي ان يقود الى مبادرة حضارية تتمحور حول كيفية التوصل للسلام الحقيقي ومعالجة النزاعات والصراعات، وتحديد اطار لعلاقات الشمال والجنوب، ودعم الشعب الفلسطيني خصوصاً، في تقرير مصيره ودولته المستقلة حيث تمثل هذه القضية المكان والزمان الذي يرمز بوضوح الى التعارض والانحياز وازدواج المعايير وقصور الشرعية الدولية وتراكم الخبرات السيئة.
ويمكن للدول الاوروبية المتوسطية ان تدعم ما اسماه المثقفون الفرنسيون الاستثناء الثقافي في مواجهة هيمنة الثقافة الاميركية، والذي يعني ان يبقى المنتج الثقافي خارج اتفاقية الغات، والتي تفتح الاسواق للمنافسة. وممارسة هذا الاستثناء تتطلب دعوة البلدان الاوروبية المتضررة بدرجات متفاوتة من عولمة الثقافة الاميركية، ان تضم صوتها الى بلدان الجنوب والعالم العربي بغرض طرح تصور يتأسس على احترام الخصوصيات الثقافية والتنوع، وإتاحة المجال لهذه الثقافات للتعبير عبر الاعلام العالمي بهدف مقاومة تهميش هذه الثقافات ودعم التسامح الديني والعرقي والثقافي.
ولاشك ان مهمة تفعيل الجانب الثقافي في اعلان برشلونة والذي يتمحور حول دعم التسامح والتفاهم بين الثقافات والديانات والاعراق والشعوب واحترام التعدد والتنوع وحقوق الانسان، لا شك ان هذه المهمة تفترض دوراً خاصاً ومتميزاً للجماعة البحثية والعلمية العربية والاوروبية عبر المؤسسات ومراكز البحوث في الجامعات والمعاهد وغيرها، وذلك بهدف ترجمة المبادئ المضمنة لهذا الجانب، الى ممارسات ملموسة ومؤثرة في عالم الواقع، ونقترح في اطار هذا الدور بعض البرامج البحثية تتمحور حول القضايا التالية:
1 - تصحيح ومراجعة الصور المتبادلة:
القيام بدراسة موسعة لطبيعة ومعالم الصور والادراكات المتبادلة بين اوروبا والعالم العربي، عناصرها السلبية والفولكلورية الواعية وغير الواعية لكل من اوروبا والعالم العربي وان تستهدف هذه الدراسة حصر وابراز اهم معالم هذه الادراكات واقتراح مع الجات وتوصيات لتصحيحها وتنقيتها، باعتبار ذلك شرطاً ضرورياً للحوار والتعاون، ومن شأن مثل هذه الدراسة ادخال "الخطاب العلمي" للباحثين والدارسين والاساتذة في اطار الخطاب العام عن العرب والغرب بدلاً من ترك المجال كما هو حادث الآن للإعلام لتشكيل صور وادراكات مختزلة واحادية.
2 - العرب والاوروبيون في مناهج التعليم:
أ - برنامج بحثي حول العرب والاوروبيين في مناهج التعليم الغربية والعربية، للاجابة عن السؤال المتعلق بكيفية تلقى النشء معلوماته عن العالم العربي، ومصادر هذه المعلومات، نظراً لأهمية هذه المرحلة في تشكيل الاذهان والوعي بالانا والآخر على حد سواء، وان تفضي هذه الدراسة الى توصيات ومقترحات محددة حول تدقيق هذه المعلومات وتصويبها وتعديلات ممكنة في هذه المناهج، هدفها تزويد الاجيال الشابة بمعلومات صحيحة وموثقة عن العالم العربي واوروبا، وبلورة نظرة مركبة لتاريخ وثقافة كلا الطرفين.
ب - دراسة حول جوانب التكامل والتفاعل الممكنة بين شاطئي المتوسط على الصعيد الثقافي من خلال دراسة التأثيرات المتبادلة بين شعوب المتوسط في التعبيرات الفنية والفولكلورية المعاصرة وآليات التبادل التلقائية والعفوية والمنظمة.
3 - كتلة ثقافية مشتركة:
البحث في إنشاء كتلة ثقافية مشتركة عربية - اوروبية، اي منظومة القيم التي يحرص عليها العرب والاوربيون وتمثل قاسماً مشتركاًَ بينهم في مواجهة ما يمكن ان تسفر عنه عملية العولمة الحالية من تسييد الثقافة الاميركية، او احتمال ان تسفر العولمة عن قيم من شأنها تهديد هذه القيم، سواء كان ذلك عبر ما سلفت الاشارة الىه حول الاستثناء الثقافي او ما دون ذلك من الصيغ والاشكال والافكار.
4 - التآخي بين الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث:
يمكن تبني فكرة التآخي بين الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث العربية والاوروبية على غرار ما هو متبع ومطبق بين المدن الاوروبية، وبعض المدن العربية، ويمثل هذا التآخي اطاراً للتفاعل والتبادل، والتدريب وتنمية القدرات والكوادر، ودعم الانظمة الفكرية والثقافية التي من شأنها تعزيز التكامل وتعميق الحوار وتقريب الفجوات ودعم المصالح المشتركة وخلق تضامن متوسطي بين غرف التجارة والمستشفيات والموانىء وغيرها من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية.
* رئيس برنامج البحوث الاسرائيلية في مركز الدراسات السياسية والاستراتجية - القاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.