في الرواية الجديدة الصادرة له عن دار رياض نجيب الريس (2017) بعنوان «نساء بلا أثر» وهي الرابعة له بعد «بولين وأطيافها»، و «الرجل السابق»، و «سكّان الصوَر» إلى جانب العديد من الكتابات التي تنمّ عن اتجاه في علم الاجتماع السياسي، من مثل: أقنعة المخلّص، طرابلس– ساحة الله وميناء الحداثة، وموت الأبد السوري– شهادت جيل الصمت والثورة، وغيرها، يبني محمد أبي سمرا حكاية روايته الأخيرة على أساس يكاد يكون محورياً، على حساب المكان، الركن الآخر في العمل الروائي، ووفق بنية العمل الروائي الحديث. وعلى رغم أنّ الكاتب لا يني يؤرجح مشاهده الروائية بين بيروت القديمة، في تسعينيات القرن الماضي، وبين فرساي، وباريس، ولوس أنجليس أرجحة هي من قبيل استكمال اللعب الاستذكاري الذي يفلح الروائي في نسجه، بخيوط الزمن المكوكية، بين لحظة القص، إذ تكون الشخصية المحورية هذه (ماريان) «تحتفل» ببلوغها الستين، في إحدى الغرف في فرساي، بعد أن استوقفتها «فتاة في ثياب رياضية «(ص7) وهي تتمشى في الحديقة العامة، في أثناء تمارينها الرياضية المعتادة، فلا تلبث أن تشتعل فلاش باكات الذكريات– على طريقة الأفلام الاستعادية– في رأسها، وتروح تؤثّث تلك المشاهد السردية بما تتشكّل منه من حساسيات وعلاقات جنسية متفلّتة دليلاً على تفلّت الفرد من أسر الجماعة، وتحرر الذات من تأليهات مستجدة، سوف تتوالى تجاربها وصداماتها مع الواقع، بتوالي الفصول. في الفصل الأول، حيث لا حبكة ولا أحداث ولا عوامل مفاجئة تطلق العنان للحدث الرئيسي في الرواية، شأن الفصلين الآتيين، ثمة جهد متنامٍ ومضطّرد، من قبل الروائي، من أجل رسم ملامح هذه الشخصية، المركّبة والنموذجية وتسويغ ما آلت إليه حالها في باريس، حيث تشعل شمعة بلوغها الستين، وحيدة ، بلا أهل ولا أصدقاء: «شمعة واحدة، كأس وحيدة من الشمبانيا على طاولة السفرة الجانبية» (ص12). ولا تزال (ماريان، أو سيتا) تستجمع، في هذا الفصل، خيوط الذكريات، حين غادرت بيروت إلى روما لتدرس الفن، وحين تعرفت إلى الرسام العراقي ديرام، وحين انتمت إلى مجموعة من الرسامين الشيوعيين، وكان أن شاركت في «تصميم الملصقات الإعلانية لشهداء الحزب» (ص31)، وحين صادقت فتاة سمّتها «شاعرة الشهداء» وغيرها من المشاهد التي كانت لا تزال تشكّل حياة المدينة اليومية وأساطير شللها «الشيوعية» التي، وإن نفرت منها وسخرت «من تضخيم الانفعالات والمشاعر والأفكار «(ص48)، فإنها احتفظت منها بالحالة التي سوّغت لها الانصراف إلى مسلكية الانفلات الجنسي، حيناً بعلاقة جنسية مع ذكور (العراقي ديرام، مثلاً)، وحيناً آخر بعلاقة جنسية مثلية– سحاقية، شأن علاقتها بشاعرة الشهداء، المغتصبة والمزوجة من مغتصبها، ثم الهاربة منه إلى حضن الحزب الشيوعي بلوغاً إلى حضن ماريان. وينتهي الفصل الأول باستعادة ماريان كل الدواعي (الخسارات، والخيبات، والتهجير بفعل حرب الميليشيات في بيروت وانقضاضها على الأقليات فيها، واجتياح النزعات الدينية الجامعة حيث كانت تعلّم) التي جعلتها ترحل إلى فرنسا. الفصل الثاني، لا تنمية سردية فيه، لاعتبار الكتاب كله سيرة للآخر استعادية، تقوم على استراتيجية الفلاش باك الكبرى، سوى أن الراوية– ووكيلها الكاتب محمد أبي سمرا– يعمدان إلى تفصيل الكلام على علاقاتها النسوية هناك، في باريس قبيل بلوغها الستين، بدءاً بالفتاة التي تلتقيها في خلال تمارين الرياضة، وتستعيد معها ذكرى شاعرة الشهداء وحفلات التحشيش فتكتشف فيها الفتاة المتوحشة (Fille sauvage). والجُماع المتفلّت رداً على العدوانية المتفلّتة التي كانت لا تزال تعصف بالبشر قبل الحجر، ببيروت، وانتهاء باستخلاصهما البرهاني ومفاده أنّ «حياة كلّ شخص أليست ابتلاعا متصلا للصور.؟»(ص153) أما هويّتها الأرمنية التي ما ونيت (ماريان) تظهّرها باعتبار أصلها وسكنها البيروتي، ومجتمعها الأرمني الصغير، وما يحمله من إيمان مسيحي (العذراء)، فلا تلبث أن تتهاوى لمصلحة فردية صارخة، تقوم على محض التهكم بالأديان والموروثات التي ترفض العري حتى لو كان آنياً، لغرض التوضع أمام طلاب الرسم. ومثله الفصل الثالث، وهو الأكبر (173-283) في الرواية، الذي تتبسط فيه الراوية في سردها الاستعادي وفي حركة ارتدادية إلى المكان الأول، بيروت، من باريس، وهي بصحبة «سارة» حبيبتها السابقة وقد امتلكتها من جديد. ولكن القراءة الأفقية لمجريات الفصل أو خطاباته تبيّن لنا أن الغاية التي سعى إليها الكاتب فيه لا تعدو تعرية واقع، وتحطيم صروح فكرية ودينية وحزبية لا تزال ذات اعتبار في زمن هبوط الثنائي في مطار بيروت، وعنيت: تعرية مطار بيروت وصورته المتهالكة، وتحطيم صورة حزب ديني، وشعاراته، وكذلك تسفيه شعارات الحزب الشيوعي والهزء من قضاياه وعناوين نضاله وفضح ممارسات أفراده وأحزابه وجماعاته وعصبياتهم العبثية. وينتهي الفصل الثالث بجنازة، لا يعرف القارئ حقيقة إن كانت جنازة أحد الرجال من عشاق سارة أو ماريان، أم إذا كانت الجنازة فعلاً سردياً رمزياً لذات الكاتب المتقنع بقناع ماريان أو «سيتا مانوكيان» وهو يشيّعها «إلى مثواها الأخير» (ص12). يمكن الكلام طويلاً على وجهة النظر الوحيدة التي ينطلق منها الكاتب محمد أبي سمرا، من موقع الرسامة ماريان، وانطلاقاً من سيرتها، ولكن باستبطان جليّ من قبل الكاتب أبي سمرا، واستثماره قناع الفنانة ومنبرها ليبسط تصوره السلبي على مظاهر المدينة والضالعين فيها، وليعبّر عن أسى عميق مما آلت إليه حال الفرد، تعبيراً يبلغ به حدّ التبرّم من الأصل والوطن واللهجات وخيانتها. كما يمكن الحديث عن تيار الوعي الذي جعل الروائي عمله في أسره، بدليل ذلك الميل الطاغي لدى الكاتب إلى نقل الأحاسيس والمشاعر بالتوازي مع التصاوير المستعادة، على حد ما عرف به وليم جيمس (زيتوني 2002، ص66). ولئن كنا لا نذهب إلى مناقشة الكاتب تصوّراته عن الواقع الناجمة عن طغيان الأثر الديني الطاغي على حياة الإنسان الفرد والعامل على تشويهها، والذي نراه ظاهرة عربية وعالمية، وإن بتلاوين مختلفة، فإنّ براعة الكاتب ساطعة في توليف المشاهد وتوقيع الانطباعات بشأنها، وفي الجرأة منقطعة النظير التي تناول فيها موضوعة الجنس والمثلية الجنسية، على مقدار من التخصيص وأحادية الرؤية، كما شاء أن يكون، في هذه الرواية. وما ترانا نقول في رؤية الكاتب الفكرية، في أن البشر صوَرٌ تمّحى وتُبتلع، وأنهم يمحون صور بعضهم بعضاً على نحو متبادل، وهي استراتيجية كبرى ومأثورة يعتمدها الكاتب على امتداد الرواية، اعتماده إياها في أخرى، عنيت «سكّان الصوَر»؟