قد يتمكن نظام الاستبداد الشمولي في ليبيا، إلى حين، من قمع الثورة الشعبية التي هددته بالإسقاط، كأعتى سلطوية متبقية في المنطقة، وذلك لجملة عوامل داخلية وخارجية على حد سواء، أولها طبعاً التفوق الهائل للنظام بالقدرات التدميرية والمالية. إلا أن تأخر الاستجابة الدولية لمطلب الثوار الليبيين باتخاذ خطوات عملية تحد من إمكانية استعمال النظام لقدراته هذه، انطلاقاً من المسؤولية العالمية لاستحصاله عليها ابتداء، هو من دون شك عامل رئيسي في تمكين النظام الليبي من الاستمرار. وهذا التأخر بدوره انعكاس لاختلاف في وجهات النظر والمواقف بين الدعاة إلى منطقة حظر جوي، وفي طليعتهم الدول العربية والعديد من الدول الأوروبية، وبين المتحفظين عن هذه الدعوة، ومنهم روسيا والصين والهند. وما يزيد من الإبهام في المواقف، ويتيح الوقت الإضافي للنظام للإمعان في قمعه، موقف الولاياتالمتحدة. أو الأصح، اللاموقف الذي تلتزمه واشنطن. يمكن للمتابع لأسلوب الرئيس الأميركي باراك أوباما في الحكم، منذ توليه الرئاسة قبل عامين ونيف، أن يلحظ أن التمهل سمة رئيسية في صياغته للقرار. فلأوباما قناعاته، وهو بشأنها صاحب موقف واضح، إذ هو يسعى مثلاً إلى رفع المسؤولية الضريبية للأثرياء، ويعمل على توطيد دور الدولة في إدارة العناية الصحية لكافة المواطنين. وهذا وذاك من صلب التزام التيار التقدمي في الولاياتالمتحدة. ومن حيث المبدأ، فإن أوباما قد أعلن التزامه كذلك بعناوين هذا التيار في السياسة الخارجية، من الابتعاد عن الانفرادية في القرار الدولي، وإنهاء التورط العسكري في الخارج، والحد من الأسلحة النووية، والعمل على حلّ النزاعات المحلية، لا سيما منها قضية الشرق الأوسط غير أن ثمة تعارضاً واضحاً بين المواقف المبدئية للرئيس الأميركي والواقع الفعلي في التنفيذ في العديد من الملفات. فتورط الولاياتالمتحدة في المعارك في أفغانستان وباكستان قد ارتفع، وقضية الشرق الأوسط تراجعت على رغم الوعود بدل أن تتقدم. ويعمل بعض مؤيدي الرئيس أوباما على الترويج لتبرير مفاده أنه، في هذه الحالات، مكره لا بطل. فالرئيس، كما يؤمنون، كان ولا يزال يتمنى الالتزام بإنهاء المواجهات العسكرية في أفغانستان وباكستان، وبالسير قدماً بالعملية السلمية بين إسرائيل وجيرانها، إلا أن ثمة معطيات تضطره إلى خلاف ذلك، وإن بقيت هذه المعطيات مخفية في بعض الأحيان. فالأشهر الطويلة التي استغرقها أوباما للتوصل إلى الموافقة على زيادة عديد القوات الأميركية في أفغانستان تكشف حرصه، من وجهة نظرهم، على إيجاد الحلول البديلة. والتعويل، في الإشاعة الضمنية لمقولة العجز هذه، هو على أن الحكم على الرئيس في المرحلة التالية، لا سيما انتخابياً، سيكون على أساس نياته لا أفعاله. غير أنه حتى قبل اندلاع التحولات العربية، وما يصاحبها من مسؤولية في اتخاذ القرارات التي لا تتسبب بالإساءة، فإن العديد من خصوم الرئيس حاولوا التمييز بين التمهل والتأني. فهذا ليس ذاك، وفي الموضوع الأفغاني مثلاً، فإن الرئيس لم يعمل على الاستحصال على خطط متكاملة بديلة عن خطة رفع مستوى القوات، بل اكتفى، وفق اعتراض ناقديه، على انتظار التوقيت المناسب لإعلان موافقته على الخطة الوحيدة المطروحة، لاعتبارات سياسية وليست عسكرية، إذ كان التوقيت رهناً بالتخفيف من الأذى لسمعته، حتى لو تعارض بقدر ما مع المصلحة الميدانية. الرؤية المقابلة هي أن هذه الاتهامات حول الموضوع الأفغاني تنطوي على قدر من التجني، بل إن الرئيس تصرّف على أساس أن السياسة فنّ الممكن، فسعى إلى التوفيق بين الاعتبارات المتعارضة، وإن على حساب الاستهجان في أوساط مؤيديه من المعارضين للتوجهات التدخلية. والسجال في شأن أوباما، بين من يتهمه بالمناورات السياسية، ومن يعتبر أن مبدئيته تقيّدها الواقعية التي يفرضها منصبه، يعود إلى الواجهة مع توالي المواقف المتضاربة الصادرة عنه كردود فعل على التحولات العربية. فهو كان شبه غائب في الموضوع التونسي، ثم بدا متذبذباً في الموضوع المصري، متيحاً المجال للنظام السابق بالاستمرار لفترة إضافية سقط فيها المزيد من القتلى، ومواقف حكومته خجولة ومتقلبة في الشأنين اليمني والبحريني، وتكاد أن لا تتعدى الشعارات الجاهزة في سائر الملفات. إلا أن المسلك الأخطر هو الذي انتهجه الرئيس أوباما إزاء الثورة الليبية. فأوباما، الذي بدا يوم ترنّح النظام المصري السابق وكأنه يقدم له السبيل لتجنب السقوط، ونال نتيجة تذبذبه النقد، عمد مع اندلاع الثورة الليبية إلى الموقف المخالف، فأعلن بكل حزم أن على رأس النظام الليبي أن يرحل. وكما كان حال أوباما ليكون لو أن توقعاته بسهولة إنهاء المواجهة في أفعانستان قد صحّت، فإنه كان ليجني رصيداً سياسياً مرموقاً لو أن الطاغية الليبي سقط فعلاً. ولكن، كما أن أوباما قد تورّط في أفغانستان في معركة لم يكن يتوقع أن تكون استنزافية، إذا به في ليبيا أمام واقع أن الثورة تحتاج إلى الدعم، فإما أن يلتزم الرئيس الأميركي موقفه المعلن ويقدم لهؤلاء الثوار بعض ما يحتاجونه، مع ما يستتبع ذلك من مسؤوليات مالية وسياسية، أو أن يتراجع عن موقفه ويعرّض نفسه للنقد. غير أنه، في الموضوع الليبي، وخلافاً لما هو متاح لأوباما في الشأن الأفغاني وفي قضية الشرق الأوسط، فإن مقولة العجز الناجم عن الحاجة إلى التوفيق بين الموقف المبدئي والاعتبارات الواقعية، هي أقل توافراً. فالمعارضة الداخلية لأوباما في الشأن الأفغاني تصرّ على التصعيد، فيما أوباما في قرارة نفسه، وفق التفسير الشائع، لا يرغب به ولكنه مضطر إليه. وهذه المعارضة الداخلية في قضية الشرق الأوسط تطالب بالالتزام بالموقف الإسرائيلي، فيما أوباما ضميرياً، كما هو مفترض، يريد الإنصاف للجميع. أما في الموضوع الليبي، فالمعارضة الداخلية هي التي تطالب أوباما بتجسيد موقفه المبدئي ودعم الثوار، فحجة العجز مع حسن القصد غير متوافرة. والاتهامات التي يكيلها الخصوم للولايات المتحدة هي أنها تلتزم سياسات نفاقية تنطلق من تقييمها لمصالحها. أما الواقع، في الموضوع الليبي على الأقل، فهو أن السياسة لا ترسمها المصالح، ولا حتى التعارضات بين التوجهات السياسية في الداخل، بل الارتباك في صياغة القرار، وإن جاء مقنعاً في شكل تمهل وتأنٍ.