بعد جلسة حسابية مغلقة خرج الأستاذ مصطفى (40 سنة) بلائحة محبوكة وحسبة مدروسة. فإما 18.5 كيلوغرام من التين المجفف، أو ثمانية كيلوغرامات من الفستق، أو 15.5 كيلوغرام لحم، أو 80 دجاجة، أو تشكيلة من المشتريات يراعي فيها قلة الكمية والابتعاد تماماً عن الأنواع الاستفزازية. راتب مصطفى 2500 جنيه مصري أي نحو 138 دولاراً، وهو المبلغ الذي يتيح له شراء ما خفّ ثمنه من أنواع الطعام في شهر رمضان الذي يدق الأبواب. مصطفى، الذي يعد راتبه متوسّطاً بالمقياس المصري، ليس وحده الذي يمضي في هذه الآونة وقتاً كثيراً ويبذل جهداً كبيراً في محاولة لبذل المستحيل. المستحيل الذي يشغل بال الغالبية المطلقة من البيوت المصرية هذه الساعات هو تدبير نفقات الشهر الكريم وما يواكبه من ضرورات تتعلّق بمصاريف الدروس الخصوصية وشبح ارتفاع فواتير الكهرباء وغول ارتفاع الأسعار من دون حسيب أو رقيب. المحاسبة ليلى الوكيل (40 سنة) تقول ضاحكة إن ضبط موازنة البنك حيث تعمل في نهاية السنة المالية أبسط من ضبط موازنة البيت في ظل الأوضاع الراهنة. فراتبها وراتب زوجها لا يؤمنان الإنفاق على الحاجات، لا سيما أن ابنيها التوأم في الصف الثالث الثانوي، ما يعني أن «اجتزاء مبالغ بدل دروسهما الخصوصية تزامناً مع شهر رمضان أشبه بحدوث تسونامي مع زلزال». لكن الزلزال الرمضاني هذا العام يُتوقع أن يكون مختلفاً بعض الشيء. رئيس لجنة الأسعار في الاتحاد العام للغرف التجارية أحمد صقر، يقول إن الأسرة المكوّنة من أربعة أفراد تنفق نحو 114 جنيهاً في اليوم الرمضاني، أي ما يعادل 3420 جنيهاً في الشهر كحد أدنى، وهو الحدّ غير المتوافر حتى لأسر عدة لم تلامس بعد خط الفقر. لكن الحديث عن الفقر لا يتواءم وروح رمضان أو روح المصريين المقبلين على الشهر الفضيل. إنهم يتحدّثون عن أنه «حان وقت الترشيد» و «لا بدّ من إعمال العقل في الصرف»، و «حتماً ينبغي إعادة ترتيب الأولويات حتى ينعم الجميع بشهر كريم شكلاً وموضوعاً». فعلى رغم الأعباء العاتية والظروف القاسية والأحمال الرهيبة، يتعلّق المصريون بتلابيب روح رمضان التي يعتريها هذا العام قدر من الواقعية مع الترشيد الإجباري وقليل مما تيسّر من ترفيه شبه مجاني. وتكمن مجانية الترفيه المتاحة في شكل شبه مؤكّد في الشاشات التلفزيونية التي تضخ ولائم عامرة بالمسلسلات والبرامج والمسابقات، التي تضمن التصاق ملايين الأسر بها. وعلى رغم أن الجرعات التلفزيونية الرمضانية مصنفّة تحت بند الترفيه غير المُكلف، إلا أن شبح فواتير الكهرباء التي يعلن رسمياً عن زيادة تعرفتها يلوح في الأفق. عشرات المسلسلات ومئات البرامج التلفزيونية كفيلة بإلهاء الملايين بعيداً من وسواس الأسعار وقلق مصاعب المعيشة اليومية، لكن الوجبة قد تخضع لعمليات ترشيد في ضوء الزيادة المتوقعة. وعلى رغم تأكيد وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة مرات أن الزيادة التي ستقرّ في حزيران (يونيو) المقبل مع الأسبوع الأول من الشهر الكريم طفيفة ولن تؤثّر في شكل كبير على المصريين، وأن الغرض منها وصول الدعم إلى الشريحة المستحقة، و «أنه لا داعي للقلق»، إلا أن القلق أحياناً يفرض نفسه فرضاً. «سبب القلق يكمن في مثل هذه التصريحات والزيادات. فما أن تزيد تعرفة الكهرباء أو المياه أو الغاز حتى يهرع التجار إلى زيادة أسعار السلع، لا سيما الغذائية. ربما تكون الزيادة المتوقعة في الكهرباء طفيفة فعلاً، لكن تواتر الزيادات الطفيفة الواحدة تلو الأخرى إضافة إلى غياب الرقابة تماماً على الأسواق من قبل الحكومة يجعل منا نحن المواطنين سندويتش بين فكي الحكومة والتجار». هذا السندويتش الذي تشير إليه صافيناز هاشم (34 سنة) لم يؤثر كثيراً في إقبال المصريين المتناهي على مشاهدة التلفزيون خلال رمضان، لا سيما أن وسائل الترفيه الأخرى باتت خارج متناول يد الغالبية. فتناول وجبة السحور لشخصين ب300 جنيه أو أكثر، أمر غير وارد للغالبية هذا العام. لكن خياماً رمضانية من نوع آخر تخرج إلى النور. إنها خيام الخير التابعة لمؤسسة «مصر الخير» التي يرأس مجلس أمنائها الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق. وستقدّم هذه المؤسسة ذات النشاط الخيري والتنموي نموذجاً للمجتمع التكافلي في ظل الأوضاع الإقتصادية الصعبة. يقول جمعة أن مصر تشهد تحديات اقتصادية كبيرة تحتّم تكاتف الجميع، مضيفاً أن «المؤسسة ستقدّم نموذجاً لخلق مجتمع تكافلي يعمل على تحقيق مفهوم فريد للتنمية المتكاملة، التي تستهدف إيجاد قيم مشتركة بين أفراده وإبراز نقاط التميّز لديه وتحويله إلى مجتمع منتج قادر على العمل والمنافسة». وقد اختارت المؤسسة الفنان محمد هنيدي سفيراً لحملة إفطار خمسة ملايين صائم أطلقتها، وهدفها الوصول إلى أكبر عدد ممكن في محافظات مصر. وبينما الجميع في جلسات حسابية مغلقة، وتدابير رمضانية صارمة، لا يزال الشهر الكريم يفرض طقوسه ويبسط تقاليده ولكن في شكل أكثر ترشيداً وقوام أعتى واقعية في ضوء ظرف إقتصادي صعب، إن لم يكن إختيارياً من باب عدم الإسراف، فإجبارياً من نافذة عدم الإمكان.