في وقت يحاول معظم الكتاب والمثقفين وبعض «المتنورين» التمسك بتلابيب دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى تجديد الخطاب الديني التي مر عليها ما يزيد على سنة ونصف السنة لكنها تظل حبيسة الكلمات وأسيرة التفسيرات وسجينة التأويلات، تمضي أذرع متفرقة للدولة وأدمغة متناثرة للشعب قدماً في الإبقاء على الخطاب الديني ضيقاً جامداً، وحبذا لو كان متحجراً. حجر الشيشة الذي بدأ يعبر عن نفسه برائحة تفاح نفاذة اخترقت الستار القماشي الهيكلي المثبت على باب المقهى الصغير الشهير في حي الكوربة في مصر الجديدة في نهار رمضان، أثار حفيظة بعض المارة. وعلى رغم عدم التأكد من السبب الحقيقي للحفيظة، إن كانت نتيجة شوق الصائم إلى «حجر التفاحة» أو نقمته على مفطر في نهار رمضان في «دولة إسلامية»، إلا أن الاستنكار التحفيزي الذي وجهه أحدهم إلى أمين شرطة متمركز أمام المقهى أسفر عن كشف وجه من وجوه الدولة الراعية الأخلاق الراغبة في الإبقاء على الخطاب الديني حبيس التفسيرات الشعبوية والقوانين العرفية. ورداً على تعليق المواطن: «لماذا تتركونهم هكذا يؤذون مشاعرنا؟»، قال الأمين معتدلاً في جلسته مشرئباً في إجابته: «والله لو كان الأمر بيدي لقبضت عليهم، لكن الدنيا قامت على زملائنا لما أظهروا التزامهم الديني في شارع المعز». «الالتزام الديني» الذي أظهره زملاء الأمين مع ضابط في شارع المعز في قلب القاهرة قبل أيام في واقعة نشرها الصحافي محمود التميمي أثناء تواجده هناك كشف أوجه الخطاب الديني السائد في مصر والمقاومة الداخلية العنيفة لأي تجديد أو تحديث أو حتى فتح باب النقاش في شأن التطوير. أحد الأمناء الذين أمروا المواطنين الموجودين في الشارع التاريخي إما بمغادرة المكان أو التوجه للصلاة وذلك عقب آذان الفجر برر ذلك بقوله للتميمي: «الفجر أذن، والناس دي لو محترمة تروح الجوامع تصلي أو تقرأ قرآن. لكن اللي قاعد يحب في واحدة واللي هايولع لي سيجارة، وكده هايبقى فاطر في مكان عام وهاكون مضطر أقبض عليه». وزاد من الشعر بيتاً قائلاً: «لو محترمين كانوا دخلوا سيدنا الحسين لحقوا الفجر حاضر»، مضيفاً للتميمي: «وأنت يلا كمان إلحق الفجر». ومن غير المعروف حتى هذه اللحظة إن كان التميمي قد لحق الفجر أو لم يلحقه، لكن المعروف هو أن مواقع التواصل الاجتماعي اشتعلت بسبب الواقعة الرمضانية، وانتقل الاشتعال إلى الصحف اليومية وما تبقى من برامج «توك شو» الفضائية. وأدى ذلك إلى اعتذار من جانب الوزارة عن «تصرفات غير مسؤولة تجاه بعض المواطنين» وإحالة ضابط وأمين على التحقيق. والأهم من ذلك هو تأكيد أن لا تعليمات للضباط والأفراد بالتحقق من صوم الناس في الشارع من عدمه. عدم صوم الناس أو التزامهم معايير التدين الشعبي من مظهر بذاته، أو ترديد تحية «السلام عليكم» بدل «صباح النور» أو «الخير» أو «الفل» أو الاعتراض على مكبرات الصوت التي تبث الأذان بعلو الصوت وغيرها من مظاهر التدين، لم تعد أمراً شخصياً بين الشخص وربه، بل تحولت في مصر إلى قضية رأي شارع تطرح أمام منصة القضاء الشعبي لتصدر هيئة المحكمة المشكلة من مواطنين عاديين حكماً بتكفير هذا أو صلاح ذاك أو مع تصديق من فضيلة المفتي الذي قد يكون شيخاً في زاوية ممنوعة، أو تاجر خضروات، أو «واحداً على باب الله». ويظل باب تجديد الخطاب الديني محكم الإغلاق مثيراً للقيل والقال محركاً للخوف تارة والشك تارة وإيثار السلامة بالإبقاء على الوضع كما هو عليه تارة. ردود الفعل المتفاوتة إلى حد التناقض ظهرت في شكل واضح في أعقاب واقعة شارع المعز. فقد فرح بعضهم وهلل واعتبر اعتذار الداخلية نقطة ضوء في ظلام خطاب ديني صوّر للعامة أنهم أوصياء على الدين، لكن لطم آخرون وانتحبوا على ضياع الدين والمتدينين، ووصلوا إلى حد اتهام الغاضبين من تصرف الداخلية بأنهم «معادون للدين» أو «متهاونون في الإسلام» أو «ضاربون عرض الحائط بقواعد الدين». وتمضي أيام رمضان في ظل ما تبدو محاولات لتحريك المياه الراكدة في بحور تجديد الخطاب الديني الجامدة، تارة بفعل مقاومة قواعد شعبية نشأت في ظل هيمنة زوايا غير مرخصة، وتوغل مدارس تعليم ديني خارج إطار المراقبة، وسطوة فتاوى متشددة أو مغرقة في عصور أكل عليها الزمان وشرب أو كليهما، وأخرى بفعل صولة قائمين على أمر الدين خوفاً من ضياع سطوتهم وتبخر احتكارهم وتغيير نمط التدين إلى شكل يخدم الجوهر على حساب المظهر، أو يدعم الحرية الشخصية والتفكير النقدي بدل التدين الشعبي والانصياع لثقافة الجموع. فبين أحاديث رمضانية مع مشايخ اكتسبوا في عهد الرئيس السيسي نعوت «المتنورين» و «المحدثين»، وسلاسل نقاشية مع دعاة شباب لم تحرقهم نيران «الإخوان» أو تشوههم حرائق السلفيين بعد، وزوايا جديدة في طرح أسئلة خارج إطار «هل قطرة العين تفطر في نهار رمضان؟» أو «هل بلع الريق في شكل مبالغ فيه يفسد الصيام؟»، يمضي قطار تجديد الخطاب الديني متخبطاً تارة، ومتوقفاً تارة، وماضياً قدماً تارة. يشار إلى أن شيخ الأزهر أحمد الطيب صرح أخيراً بأن قضية التكفير مغلقة أمام أي فرد أو جماعة، ما أثلج صدور «المتنورين»، لكنه بيّن أنها «قضية يجب أن يتولاها القضاء، لأنه يترتب على التكفير أحكام، فلو ثبت أنه كافر لا يغسل ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يتوارث».