المصريون في مجملهم ليسوا شعباً خرائطياً، بمعنى أنهم لا يميلون أو لا يحبذون أو لا يؤمنون بجدوى مسألة اتباع الخرائط أو قراءتها على سبيل معرفة الطرق أو تحديد الأماكن أو تعريف المواضع. ولولا عنصر الإجبار وعامل الاضطرار لانصرف طلاب المدارس عن الخرائط كابوس الإعدادية وبعبع الثانوية. لكن الزمن يتغير والمتطلبات تُحدّث، وها هي الخرائط تقتحم حياة المصريين، تارة من باب المضطر يركب الصعب، أو من شباك العلم بالشيء حيث «خريطة الفقر»، أو لمواجهة الأمر الواقع حيث «خريطة التحرش». وهذه المرة تباغتهم خريطة من نوع جديد وشكل غريب ومحتوى فريد، من باب إنقاذ ما يمكن إنقاذه هي «خريطة التطرف». خريطة التطرف التي دعا إلى رسمها وزير الأوقاف محمد مختار جمعة لمعرفة مواطنه وأسبابه وسبل علاجه هي الأحدث والأغرب والأهم والأكثر إثارة للجدل والمرشحة لفتح أبواب الجهد والجهاد والاجتهاد. مخاوف عدة ظهرت نتيجة الدعوة إلى رسم «خريطة التطرف»، خشية تكرار أجواء «تجديد الخطاب الديني». فما إن طالب الرئيس عبدالفتاح السيسي في كانون الثاني (يناير) الماضي بتجديد الخطاب الديني، حتى أخذ بعضهم على عاتقه مهمة سب المرجعيات وقذف الأساسيات، وتفتق ذهن آخرين عن تنظيم مليونيات بغية خلع الحجاب، في حين اقترح آخرون هدم مؤسسة الأزهر، ومن ثم إعادة بنائها على «مياه دينية بيضاء» لم يعكرها التشدد أو يلوثها التطرف، وهي الاجتهادات التي فجرت كثيراً من الانتقادات وولدت عدداً من العداءات. العداء الذي يكنه المصريون لكل من يحاول فرض شكل جامد من أشكال الحياة عليهم هو نفسه الذي يكنونه لمن يحاول تغيير أو تعديل أو تجديد الشكل الذي يعتنقونه من دون أن يكونوا هم مفتاح التغيير وبابه. ومن باب العلم بالشيء طرحت «الحياة» سؤالاً موحداً على عدد من المواطنين قوامه «ما هو التطرف الديني؟». نجار الأثاث ذو اللحية الطويلة والسجل الحافل مع «أمن الدولة» على مدى عقود شبابه من أواخر السبعينات مروراً بالثمانينات والتسعينات وإلى حد ما بدايات الألفية الثالثة والمنتمي إلى تيار سلفي يمتنع عن تحديد اسمه، يقول أن التطرف هو «تطرف الدولة في التدخل في شكل تدين المواطن». أستاذ الجامعة المصري المقيم في بريطانيا يقول أن التطرف هو «إفراط شخص ما في معتقداته في شكل يعطيه شعوراً بالفوقية أو يسمح بفرض سطوته العقائدية على من حوله عنوة». سائق الأجرة الذي يبدأ يومه بتشغيل القرآن الكريم طلباً للرزق وأملاً في الوفر، ثم يذيله بباقات من أغنيات المهرجانات وأشهر ما ورد من الأفلام يقول أن التطرف هو «أن نسمع القرآن طيلة الوقت بالعافية. يعني المفروض ساعة لقلبك وساعة لربك». عاملة النظافة رأت أن التطرف هو إجبارها وبناتها على ارتداء النقاب من جانب شيخ الجامع في أول الشارع ومن معه من «ناس طيبين» يساعدونها بالأموال والمواد الغذائية. طالبة الجامعة قالت أن التطرف هو ترك مثل هذا «الشيخ» ومن معه لتقف سطوته على قدم المساواة مع قوة الدولة وقدرتها على حماية الحرية الشخصية للمواطنين وحقهم في الاختيار. «نحتاج جي بي إس ولكن لمعرفة حقيقة الدين ومعنى التدين والمقصود بالتطرف الذي يكون أحياناً بإيعاز ومباركة من الدولة التي تسكت أو تغض الطرف عن مثل هذه التحركات». تحركات الدولة لرسم خريطة للتطرف أو سن استراتيجية لتجديد الخطاب الديني - وكلاهما وثيق الصلة بالآخر - ما زالت في طي السرية أو الالتباس أو العشوائية، وهو ما يفتح الباب أمام اجتهادات التفسير الثورية، وجهود التكفير الثيوقراطية، ومحاولات الفهم الشعبية التي عادة ما تصطدم بجدار غياب المفاهيم والتباس التفسيرات ومحاولات هجومية على أفكار التجديد الديني وجهود تحديد التطرف من باب «خير وسيلة للدفاع هي الهجوم». الهجوم لا يتوقف على وزير الأوقاف المصري الذي دأب على دخول عش الدبابير بين آن وآخر، تارة بقرار عدم استخدام الميكروفون في صلاة الجمعة إلا في الأذان والشعائر، وتارة بتحديد مدة الخطبة بين 15 و20 دقيقة، وثالثة بالاكتفاء بالسماعات الداخلية أثناء صلاة التراويح، ورابعة بمنع غير الأزهريين المرخص لهم من اعتلاء المنابر. فبينما يراه قطاع عريض من المصريين باعتباره - عبر أفعاله - مجدداً في الخطاب الديني ومحارباً للإرهاب ومصلحاً من حال المسلمين، يعتبره آخرون «أداة من أدوات الانقلاب لمحاربة الإسلام ومهاجمة الوعاظ ومناهضة مظاهر التدين». لكن أكثر ما يقلق في الوضع الراهن بين مناوشات التجديد وجهود التحديث ومقاربات تحديد مواضع التشدد ورسم خرائط التطرف، ومعها مناوشات المقاومة وجهود التكفير ومقاربات تحديد مواضع التحديث والتحسين بهدف التحريم والتهديد والوعيد هو أن اللعب ما زال على المستور. ويظل المكشوف غائباً منتظراً رؤى واضحة حول المقصود بالتطرف ومعنى تجديد الخطاب الديني. فقد تكون ثقافة الخرائط غائبة لكن أحاديث المصالح غالبة.