الذهب يستقر عند 2296.17 دولار للأوقية    وزير التجارة يصدر قرارًا وزاريًا بإيقاع عقوبة مباشرة على كل من أخلّ بأداء واجبه في إيداع القوائم المالية    السفارة السعودية في مصر تدعو المواطنين لاستخراج بطاقات إقامة    انحفاض الإنتاج الصناعي 6.1% في أبريل    "التجارة" تضبط 374 مخالفة في المدينة    طاقم تحكيم إماراتي لإدارة مباراة الأخضر والأردن    الطقس : حاراً إلى شديد الحرارة على الرياض والشرقية والقصيم    خادم الحرمين يأمر باستضافة 1000 حاجّ من غزة استثنائياً    تطوير مضاد حيوي يحتفظ بالبكتيريا النافعة    "ميتا" تزوّد "ماسنجر" بميزة المجتمعات    المنتخب السعودي للفيزياء يحصد 5 جوائز عالمية    بدء أعمال المنتدى الدولي "الإعلام والحق الفلسطيني"    "الرياض للبولو" يتوّج بطلاً لبطولة تشيسترز ان ذا بارك    400 مخالفة على الجهات المخالفة للوائح التعليم الإلكتروني    زوجة «سفاح التجمع» تظهر من لندن: نجوت من مصير الفتيات !    كيت ميدلتون.. قد لا تعود أبداً إلى ممارسة دورها الملكي    بعد ياسمين عبدالعزيز.. ليلى عبداللطيف: طلاق هنادي قريباً !    شريفة القطامي.. أول كويتية تخرج من بيتها للعمل بشركة النفط    «أرامكو»: 0.73 % من أسهم الشركة لمؤسسات دولية    شرائح «إنترنت واتصال» مجانية لضيوف خادم الحرمين    استقبال 460 حاجاً من ضيوف خادم الحرمين من 47 دولة    عبدالعزيز عبدالعال ل«عكاظ»: أنا مع رئيس الأهلي القادم    «الداخلية»: انطلاق الجلسات العلمية لمنتدى الخدمات الطبية    المجلس الصحي يشدد على مبادرة «الملف الموحد»    الداخلية تستعرض خططها لموسم الحج.. مدير الأمن العام: أمن الوطن والحجاج خط أحمر    أمير القصيم يشيد بجهود "طعامي"    محافظ الأحساء يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    «فتيان الكشافة» يعبرون عن فخرهم واعتزازهم بخدمة ضيوف الرحمن    قيادات تعليمية تشارك القحطاني حفل زواج إبنه    «التعاون الإسلامي»: الهجوم الإسرائيلي على مخيم النصيرات جريمة نكراء    العطلة الصيفية واستغلالها مع العائلة    "السمكة المتوحشة" تغزو مواقع التواصل    11 مبادرة تنفيذية لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين    وزارة الحج تعقد دورات لتطوير مهارات العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    إعادة تدوير الفشل    خلود السقوفي تدشن كتابها "بائعة الأحلام "    الحج عبادة وسلوك أخلاقي وحضاري    القيادة تهنئ ملك الأردن    الأمريكي" غورست" يتوج ببطولة العالم للبلياردو    رسالة جوال ترسم خارطة الحج لشيخ الدين    الأهلي يفاوض كيميتش والنصر يتخلى عن لابورت    شهد مرحلة من التبادل الثقافي والمعرفي.. "درب زبيدة".. تاريخ طويل من العطاء    "هيئة النقل" تدشن سيارة الرصد الآلي كأول تجربة لها في موسم الحج    استشاري:المصابون بحساسية الأنف مطالبون باستخدام الكمامة    الدكتورة عظمى ضمن أفضل 10 قيادات صحية    أمير الرياض يطلع على عرض لمركز صالح العسكر الحضاري بالخرج    رئيس جمهورية قيرغيزستان يمنح رئيس البنك الإسلامي للتنمية وسام الصداقة المرموق    وفد الشورى يطّلع على برامج وخطط هيئة تطوير المنطقة الشرقية    التخبيب يهدد الأمن المجتمعي    تغييرات الحياة تتطلب قوانين جديدة !    رئيس الأهلي!    الشاعر محمد أبو الوفا ومحمد عبده والأضحية..!    فشل التجربة الهلالية    انطلاق معسكر أخضر ناشئي الطائرة .. استعداداً للعربية والآسيوية    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    نصيحة للشعاراتيين: حجوا ولا تتهوروا    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    توفير الأدوية واللقاحات والخدمات الوقائية اللازمة.. منظومة متكاملة لخدمة الحجاج في منفذ الوديعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«جمهورية مولنبيك» لقاء مخيف بين سموم الشرق الاوسط وهشاشة المهاجرين
نشر في الحياة يوم 17 - 04 - 2016

طلبت كوباً من الشاي بالنعناع وجلست في زاوية المقهى. وحدها الرحلات المجبولة بالإثارة تساعد على احتمال هذه المهنة الشائكة. نظرت من النافذة. مطر ناعم يتساقط على «حي الانتحاريين». حي مولنبيك. الحي الذي يفترض أنه جزء من بروكسيل. العاصمة البلجيكية التي تستضيف مقر الاتحاد الأوروبي ومقر حلف الأطلسي أيضا. أكذب عزيزي القارئ إذا قلت إنني عثرت على بلجيكا أو أوروبا في المقهى أو الحي. الحي جزء من بلجيكا أخرى. وأوروبا أخرى.
لا يحب سكان الحي التحدث إلى الصحافيين. وربما كانوا على حق. الصحافيون كالغربان لا يتوافدون إلا في مواسم الشؤم. ربما يبحثون عن الحقيقة. لكنهم يسعون بالتأكيد إلى الحكايات المثيرة لإشباع شراهة شاشاتهم وصحفهم. يخشى أهالي الحي من ميل الصحافيين إلى تحويل مولنبيك لدى الرأي العام إلى ما يشبه تورا بورا في جبال أفغانستان. لكن أهل الحي أنفسهم لا يستطيعون إنكار أن خروج نحو عشرة انتحاريين من حي واحد يثير لعاب اهل الصحافة واجهزة الاستخبارات.
رغبة شبان الحي في تفادي التحدث إلى وسائل الإعلام مفهومة. ليس سراً أن صفة الخائن تطلق سريعاً على من يهاجم أو ينتقد. وهناك من يعتقد أن سطوة المتشددين لا تحتاج إلى دليل أو اختبار. وأنهم قادرون على معاقبة الخائن. يجب ألا ننسى هنا أن عالم الانتحاريين والمتشددين غير بعيد عن عالم الجريمة وأن رجالاً غامضين وحاقدين يتحركون في هذه الأزقة أو يرابطون خلف الستائر.
لو كنا في العالم الثالث ربما كنا رأينا الحي محتلاً من قبل «القوات الخاصة». ربما كنا رأينا جرافات تتحين فرصة الانقضاض على هذه الأبنية المتراكمة. وربما كنا رأينا آلاف الشبان قيد الاعتقال والتعذيب. لا بلجيكا تستطيع سلوك هذا السبيل ولا أوروبا تستطيع. وقد يكون هذا الوضع بالذات هو الذي يتيح للشبكات أن تخترق وتجتذب وتجند فشبكات الجهاديين بارعة في الإفادة من الثغرات التي توفرها دولة القانون. يمكن أن تشاهد دورية مارة أو مرابطة لبعض الوقت عند مفترق. لكن لا وجود لتدقيق في هويات الزائرين. جلنا في الأحياء، زميلي نور الدين الفريضي وأنا، على مدى يومين ولم يوقفنا أحدٌ سائلاً عن الهوية أو البطاقة أو الغرض من الزيارة.
يعرف شبان الحي مكر الصحافيين. يبدأون بأسئلة عامة مطمئنة. ثم ينتقلون إلى ما جاؤوا من أجله. هل عرفت الانتحاري الفلاني أو هل شاهدته؟ هل كان جانحاً؟ هل ربطته صلات بعالم الجريمة؟ هل ذهب للقتال في سورية؟ هل ظهرت عليه إمارات التشدد ومتى؟ هل جند في المسجد أم على أطرافه؟ وماذا يعني أن يكون الانتحاريون مسلمين ومن أصول عربية؟ هل فشل التعايش؟ وهل الانتحاري حالة فردية أم تعبير عن مشاعر أعم، يفضل كثيرون إخفاءها؟
منذ أسابيع صار هذا الحي من الأشهر في القارة القديمة. منه انطلق شبان أدموا باريس وبروكسيل معاً. وثمة من يتوقع المزيد. تذكرت أنني أقيم على بعد حفنة أمتار من الشقق والأحياء التي ترعرع فيها من اختاروا الانفجار والانتحار على البقاء مواطنين عاديين في «أرض الكفار».
من هنا خرج عبدالحميد اباعود العقل المدبر لهجمات باريس والذي أرداه رجال الأمن الفرنسيون في ضاحية سان دوني. وعلى بعد أمتار قبالة البلدية وفي شقة تملكها أقام صلاح عبدالسلام الذي رصدت ظلاله وبصماته في باريس وبروكسيل. وعلى بعد أربعمئة متر وقع صلاح في شباك الشرطة، بعدما نجح في الاختباء أربعة اشهر. كان يفترض أن ينفجر صلاح في استاد دو فرانس، لكنه اصطدم بصعوبات لوجستية دفعته إلى تغيير رأيه، أما شقيقه ابراهيم فلم يغير رأيه.
ساعة وصولي إلى بروكسيل كانت شاشات العالم منشغلة بتكرار صور «الرجل ذو القبعة» الذي ظهر في مطار بروكسيل، إلى جانب الانتحاريين الآخرين قبل قليل من انفجاري المطار والمترو. وقبل أن أغادر كان «الرجل ذو القبعة» وقع في أيدي الشرطة واسمه محمد عبريني.
الخيط الذي يربط بين كل هؤلاء هو التطرف والجنسية البلجيكية التي يحملها معظمهم بفعل ولادتهم على هذه الأرض، فضلاً عن أصولهم المغربية. الاستماع إلى الروايات عن سير الانتحاريين يقود إلى استنتاجات مؤلمة. حمل الجنسية البلجيكية لا يعني أبدا انك صرت مواطناً بلجيكياً فعلياً. يمكن ألا تشكل الجنسية هويتك ولا عنصراً فيها. التطرف يجعل الجنسية تصطدم بالمياه العميقة في أغوار نفسك. يجعلها تهمة تستوجب التكفير عنها.
الجنسية البلجيكية لا تعني بالضرورة أنك صرت مواطناً بلجيكياً عادياً. وأنك تحترم دستور هذه البلاد التي اعتمدت الفيديرالية ورتبت التعايش بين مكوناتها على قاعدة قبول الاختلافات والاحتكام إلى الانتخابات. لا تعني أيضا أنك بت تقبل التعايش مع الآخر في المدرسة والمكتب وأنك تعتنق القيم الأوروبية أو تتسامح معها. الجنسية البلجيكية قد لا تمنعك من إرغام شقيقتك على الزواج من قريب لك يقيم على بعد آلاف الكيلومترات، وتمنى عليك أن تبرر انتقاله من الريف المغربي إلى مولنبيك.
لا يحب الناس هنا تسمية «حي الانتحاريين». يعتبرون التعميم ظالماً. ويقولون إن الغالبية مسالمة «وتريد أن تعيش». بينهم من يلفت إلى أن حي مولنبيك ليس استثناءً وإن تكن الأضواء تركزت عليه بفعل مذبحتي باريس وبروكسيل. يقولون إنه يمكن العثور على أحياء مشابهة في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ومن يدري فقد يسرق حي آخر الأضواء من مولنبيك، إذا خرج منه من يشبهون اباعود وعبدالسلام وعبريني.
لفتني أن أهالي الحي لا يحبون أبداً التحدث إلى الصحافيين. يعرفون أن الصحافي جاء من أجل موضوع وحيد. للسؤال عن عبدالسلام أو «الرجل ذو القبعة» أو عن السبب الذي يجعل شاباً ولد في بلجيكا وتعلم في مدارسها يتحول عبوةً تبحث عن فرصة للانفجار. وإذا وافق شاب على الكلام يشترط عدم ذكر اسمه أو التقاط صورة له ويكثر من التلفت خلال حديثه. للجهاديين وأنصارهم سطوة واضحة في الحي، ولا يحب الشاب هنا أن يتهم بالخيانة. وربما هناك من لا يرغب في الكلام لتفادي إصدار أحكام على الانتحاريين والدعاة الذين أوقعوهم في أيدي شبكات التجنيد التي أرشدتهم إلى افضل السبل للانضمام إلى «الجهاد في سورية».
تمشي في شوارع مولنبيك فيتزايد شعورك بالمسافة التي تفصل هذا الحي عن الحي المجاور. أسماء المتاجر. البضائع التي تعرضها. لهجة الباعة. ومحلات الملابس. والدكاكين. والشبان الذين يتكئون على الجدران. مرت في الشارع بلجيكية شقراء فبدت من ملابسها كأنها تنتمي إلى مكان آخر. بدت كأنها غريبة مهاجرة إلى الحي.
تسأل نفسك. هل مولنبيك حي أم أنه خط تماس بين هويات وأديان وثقافات؟ وهل خروج مثل هذا العدد من الانتحاريين من الحي يشير إلى فشل مزدوج؟ فشل المهاجرين في التصالح مع قيم المكان الذي لجأوا إليه وعملوا وتزوجوا وأنجبوا فيه. وفشل البلاد التي استقبلتهم في اجتذابهم إلى دورة عيشها بقواعده ومرجعياته. وهل مولنبيك مؤشر على الانزلاق إلى صدام مروع بين الحضارات والأديان لا نزال نشهد بداياته الخجولة على رغم دويها؟
أسئلة كثيرة تتزاحم في رأس الصحافي حين يجول في شوارع مولنبيك. لماذا لم يتمكن صلاح عبدالسلام من العيش كأي بلجيكي آخر ولد على هذه الأرض وكبر فيها؟ من التسرع اختصار السبب بالفقر والبطالة. هناك أحياء بلجيكية فقيرة وتضربها البطالة، فلماذا لا يخرج منها انتحاريون؟ يقودك ذلك إلى التفكير في مشكلة الثقافة والعزلة والهشاشة ونجاح التطرف في استدراج شبان إلى تفسير عنفي للإسلام وعلاقة المسلم بالعالم.
كيف يتحول شاب قنبلة أو حزاماً ناسفاً؟ وكيف يبيح لنفسه إراقة دم مواطن أو سائح؟ كيف يسقط شاب يحمل الجنسية البلجيكية تحت تأثير «داعش» وأخواته؟ وماذا الذي يوقعه في جاذبية أبو بكر البغدادي فيذهب إلى سورية للانفجار هناك أو يعود منها للانفجار هنا؟
كيف تحول مولنبيك من حي عادي إلى ما يبالغ البعض في وصفه ب»جمهوية مولنبيك الإسلامية؟»
مولنبيك حي عمالي تاريخياً، ضربته التحولات الاقتصادية والاجتماعية. مساحته نحو ستة كيلومترات مربعة. وعدد سكانه يزيد على مئة ألف، يشكل المتحدرون من أصول مغربية الحضور الأبرز فيه. الكثافة السكانية فيه ضعف ما هي عليه في أحياء بروكسيل الأخرى. ونسبة الولادات فيه مرتفعة. وفي الحي «أعلى نسبة للجريمة والبطالة في بلجيكا».
غادر البلجيكيون الحي تباعاً. منذ ستينات القرن الماضي بدأت موجات الهجرة إليه. جاء عمال من الريف المغربي. استقطبهم الحي بسبب «السكن الرخيص». ثم استقدموا أقاربهم. ومع الوقت شكل المغاربة الأكثرية. جاء أيضاً مهاجرون من تركيا. وتبعهم مهاجرون من أوروبا الشرقية. لكن لون الحي مغربي. تفوق نسبة البطالة بين شبابه 40 في المئة، في حين أنها في عموم بلجيكا بين 10 و12 في المئة.
حلم الجيل الأول من المهاجرين بالعودة إلى بلده لكن ذلك لم يحصل. يمكن القول إنه انشغل بتوفير لقمة العيش أكثر بكثير مما انشغل بالاندماج أو بأسئلة الهوية. اختلف الأمر مع الأجيال اللاحقة. على رغم حصوله على الجنسية البلجيكية تزايد لدى الشاب المغربي الأصل الشعور بأنه مواطن من الدرجة الثانية. القوانين البلجيكية لا تتضمن أي تمييز. ودروس التعليم الديني الإسلامي متاحة في المدرسة العامة. وافقت بلجيكا أيضا على قيام مدارس إسلامية وشاركت في تمويلها.
يرعى شؤون المسلمين حالياً «المجلس التنفيذي لمسلمي بلجيكا» وهو هيئة تنتخب في المساجد التي يزيد عددها اليوم على 150 في مختلف أنحاء البلاد. لا تحتاج محدودية دور المجلس إلى دليل. في المقابل، تجاهلت الأحزاب السياسية نذر المشكلة واكتفت بالمتاجرة بالمهاجرين كمجموعات انتخابية.
عاش سكان حي مولنبيك عبر الشاشات والخطب ومن وفد من دعاة احداث العالم الإسلامي. حكايات الجهاد الأفغاني وانتصار المجاهدين. والثورة الإسلامية في إيران وما أثارته من مشاعر. في مولنبيك من يتحدث أن الحي شهد أيضاً حملة تشيع استقطبت عدداً من سكانه. تابع ايضاً ولادة تنظيم «القاعدة» والانفجار اليوغوسلافي والمجازر التي رافقته في البوسنة والهرسك. وواكب، كما أي جزء آخر من العالم، «غزوتي نيويورك وواشنطن» في 11 ايلول (سبتمبر) 2001.
حجبت هجمات 11 ايلول حدثاً وقع قبل يومين. اقترب «صحافيان» عربيان في أفغانستان من القائد الطاجيكي أحمد شاه مسعود لالتقاط صورة له فانفجرت الكاميرا المفخخة وقتلته. كان هدف الاغتيال حرمان الأميركيين من الاتكاء على «أسد بانشير» في أي رد لاحق على الغزوتين. تفصيل صغير ومهم غاب عن كثيرين. قاتلا أحمد شاه مسعود لا يمكن كتابة قصتهما، من دون التوقف عند محطتهما البلجيكية وتحديداً في مولنبيك.
عاش حي مولنبيك ايضا مشاهد القتل في سورية. وعايش ولادة تنظيم «الشريعة من أجل بلجيكا» الذي ينفذ زعيمه فؤاد بلقاسم حكما بالسجن، بعدما دين بانشاء شبكات هدفها تجنيد شبان للقتال في سورية والعراق إضافة إلى ارتكابات إخرى.
مناخ مولنبيك تكشف في مناسبة أخرى. في حزيران (يونيو) شهد الحي أعمال عنف وشغب بسبب ما تردد عن اعتقال امرأة رفضت خلع نقابها خلال تحقيق الشرطة معها. واعتبر بلقاسم مسؤولاً عن محاولة شبان من الحي اقتحام مركز للشرطة.
كان يمكن أن ينسى العالم حي مولنبيك لو اقتصر الأمر على مرور الشابين اللذين اغتالا اأمد شاه مسعود. مواعيد دامية أخرى ستعيد التذكير بالحي وتشير إليه بأصابع الاتهام. وصل الأمر حديثاً إلى ارتفاع أصوات أوروبية تقول:»إن المشكلة موجودة في مولنبيك قبل أن تكون في الرقة أو الموصل».
بصمات مولنبيك
اللائحة طويلة فعلاً. في 11 آذار (مارس) 2004 تبين أن المهاجر المغربي حسن الحسكي، العقل المدبر للهجمات التي ضربت مترو الانفاق في مدريد وأدت الى مقتل 191 شخصاً، أقام فترة طويلة في مولنبيك وكان على صلة وثيقة بالمجموعات المتشددة فيه.
في 24 ايار(مايو) 2014 وبعدما أمضى عاماً في سورية أطلق الفرنسي من أصل جزائري مهدي نموش النار على المتحف اليهودي في بروكسيل وقتل أربعة أشخاص. وثبت لاحقاً أنه كان استأجر شقة في وسط مولنبيك وأقام علاقات مع ناشطين معروفين في الحي.
في كانون الثاني (يناير)، أثبتت التحقيقات أن حامدي كوليبالي الذي هاجم المتجر اليهودي في باريس وتسبب في مقتل خمسة اشخاص، اشترى أسلحته من أشخاص يقطنون في مولنبيك.
في 9 نيسان (أبريل)، اوقفت السلطات الفرنسية سيد احمد علام الطالب الجزائري المتهم بالتورط في الهجوم الفاشل في فيلجويف بالقرب من باريس كان على صلة بعبد الحميد ابا عود الذي نشأ في مولنبيك.
في 13 آب (أغسطس) 2015، أثبتت التحقيقات أن أيوب الخزاني منفذ محاولة الهجوم ضد قطار «تاليس» الرابط بين أمستردام وباريس كان يتردد بانتظام على مسجد في مولنبيك حيث تقطن شقيقته.
كان يمكن ان يبقى ذلك شبه عابر لو لم تهتز باريس ومعها العالم في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) على وقع مذبحة أسفرت عن سقوط 130 قتيلاً. سرعان ما أعلن أن أبرز منفذ الهجوم أو المخططين له جاؤوا من مولنبيك أو أقاموا فيه وهكذا حفظ العالم اسماء صلاح عبدالسلام وشقيقه الانتحاري ابراهيم وعبدالحميد اباعود و»الرجل ذو القبعة».
فجأة صار اسم مولنبيك «قلعة الجهاديين» و»حي الانتحاريين» و»عاصمة الإرهاب في أوروبا». وصار اسم صلاح عبدالسلام على كل شفة ولسان. صار مطلوباً حياً أو ميتاً. وصار المطلوب رقم واحد في القارة الخائفة. احتلت صورته الشاشات والصفحات الاولى. وبدأ التنقيب عن عائلته وجذوره. صار الهم الاول لاجهزة الاستخبارات الغربية.
ولم يكن سراً أنه غادر فرنسا بعدما كان في مسرح الجريمة. في طريقه إلى بلجيكا أوقفته دورية للشرطة وسمحت له بالمرور. وراجت الروايات عن اختبائه في هولندا أو توجهه إلى سورية. شعرت الأجهزة البلجيكية بالمهانة واتهمت بالعجز. لم تتوقع أن يكون المطلوب الشهير مقيماً على بعد مئات الأمتار من الشقة التي كان يقيم فيها أصلاً في حي مولنبيك. في 18 آذار الماضي وقع في أيدي الشرطة بعد إصابته بجرح طفيف.
بعد أربعة أيام، كان صلاح في سجنه حين دوت الانفجارات في مطار بروكسيل ومحطة لقطار الانفاق وكانت الحصيلة 32 قتيلاً و170 جريحاً.
لم يعد باستطاعة حي مولنبيك اتهام الآخرين بالمبالغة. فمنذ سنوات تخرج الخيوط منه وتعود إليه. هذا لا يعني أبداً أن كل سكان الحي يؤيدون ما ارتكبه هؤلاء الشبان. ثمة من يجزم أن الأكثرية أصيبت بالذهول وبمن فيهم والد صلاح الذي زاره في سجنه.
تمشي في «جمهورية مولنبيك الإسلامية» وتسأل نفسك. هل هي قصة هذا الحي وحده أم أنها قصة أحياء كثيرة في أوروبا؟ هل نحن في بداية الانهيار العلني لسياسة الاندماج التي حكي الكثير عنها وأنفقت عليها ثروات؟ هل يقدم الإرهابيون فرصة ذهبية لليمين الأوروبي المتطرف وكارهي الأجانب؟
شهادة البلجيكي البوسني
للبلجيكي البوسني رأي يستحق التسجيل. قال أنس: «أنا لم أعثر على عمل في بلادي. عثرت عليه في بلجيكا التي أعطتني أيضاً جنسيتها وكامل الحقوق. انا مسلم ولم يتعرض أحد هنا لمعتقداتي. أعرف حي مولنبيك لكنني أتجنب الذهاب إليه. لم تتعرض الجاليات العربية والإسلامية في أوروبا لما تعرضنا له في البوسنة. والحقيقة هو أن الغرب الذي يسمونه كافراً هو من انتصر لنا وأنقذنا».
ويضيف: «ما جعل مولنبيك عشاً للانتحاريين هي السموم الوافدة من الشرق الأوسط. صور القتل والظلم وأمواج اللاجئين. الأخطر من ذلك لغة التطرف. مولنبيك تدفع ثمن مغامرات أسامة بن لادن وأبو بكر الزرقاوي. تدفع أيضا ثمن تعصب بعض الدعاة الذين يروجون لإسلام متطرف يقوم على الاصطدام بالآخر. أنا المسلم أستطيع أن أكون مواطناً أوروبياً عادياً. الأفكار الوافدة من الشرق الأوسط تريدني أن أكون إرهابياً أو انتحارياً. لا اعرف إن كانت أفكاري تناسب أفكارك أو خط صحيفتك. لماذا لا نعترف أن العربي والمسلم يعامل في أوروبا أفضل مما يعامل في بلده الأصلي».
ويقول: «الحل ليس هنا. للأسف كنا نراهن على قيام انموذج تعايش بفعل تفاعل المسلمين مع الغرب وتجربة العيش فيه. أفسد المتطرفون هذا الحلم. الحل لديكم هناك وفي عواصمكم. لا يحق لي أن أجيء إلى بلجيكا وأن أفرض الإسلام عليها. الغرب لا يطالبني بالتنازل عن ديني وفي المقابل من حقه أن لا افرض عليه ديني وقيمي. لا يمكن ان نعيش إلى الأبد على هامش التقدم والعصر. وأن نحول كل حي مسلم في أوروبا إلى خلية للمتعصبين».
في أيلول الماضي ذهبت إلى برلين. استمعت إلى روايات سوريين كابدوا «قوارب الموت» ليلقوا بأنفسهم وأطفالهم على الأرض الأوروبية. سوريون هربوا من ويلات «داعش» وبراميل النظام. شاهدت أيضا عراقيين ادعوا أنهم سوريين وشاركوا في رحلة الفرار من بلداننا التي ينهشها الإرهاب والتطرف، معتبرين أوروبا «أرضاً للانفتاح واحترام كرامة الإنسان». لكن هذه القارة التي تغص باللاجئين استيقظت فجأة لتجد أن البغدادي ليس بعيداً وأن أفكار البغدادي تقيم أيضا في عواصمها وتستعد للانفجار.
كيف يفهم البلجيكي ما جرى في بلاده؟ كيف يفسر ما حصل في الحي الذي لا يبعد أكثر من حفنة محطات في مترو الأنفاق؟
تفسير أوروبي
تذكرت ما سمعته الليلة السابقة في الفندق. جان باران رجل أعمال لا يحب الخوض في السياسة ولا يريد أن تظهر صورته في صحيفة لا يعرف شيئاً عن سياستها. تحدث بعد تردد. يقول: «أعتقد أن المشكلة كبيرة وعميقة وتستلزم وقتاً طويلاً لمعالجتها. يأتي المهاجر إلى أوروبا من بلدان فقيرة أو مضطربة لم تستطع حتى الآن اللحاق بالعصر والانخراط الفعلي فيه. أتصور أنه يشعر بالغربة والهزيمة معاً».
ويضيف: «يصل المهاجر إلى عالم كامل ومختلف. يشعر أنه مطالب بالدخول إليه عارياً من انتمائه وإرثه. يشعر بالمرارة لاعتقاده ان انتماءه فعلياً إلى العالم الذي هاجر إليه سيشكل نوعاً من التنكر لبلاده الأصلية وإرثه العائلي وربما لدينه. سأعطيك مثالاً. ينظر المهاجر إلى الأوروبية بملابسها وأسلوب عيشها فيخاف على شقيقته وابنته. في معظم الأحيان ينقل المهاجرون هذا الخوف إلى أبنائهم الذين ولدوا على الأرض الاوروبية فيكبر الأبناء ولديهم توجس عميق من البلد الذي يعيشون فيه حالياً».
ويقول: «يصل المهاجر إلى عالم أكثر تقدماً من بلاده ويكتشف أنه لا يملك مفاتيح الدخول إليه. هناك اللغة ثم العادات والمعتقدات. العولمة سهلت بعض الأمور وعقدت أخرى. اليوم وبفعل الإنترنت صار باستطاعة الجزائري أن يعيش في باريس، لكن على اتصال دائم بقريته في الجزائر. الأمر نفسه بالنسبة إلى مغربي يعيش في بروكسيل. أي أنه يبقى على اتصال مع أقاربه وعاداتهم وعصبياتهم وهو ما يريحه أكثر من القرارات التي لا بد أن يتخذها إذا أراد الاندماج فعلاً في بلده الجديد».
ويسلك طريق الصراحة قائلاً: «أعتقد أن الإسلام يعيش اليوم ما عاشته المسيحية قبل قرون وهو الاصطدام بالعصر. للتقدم الأوروبي أسباب عدة من أهمها قرار فصل الكنيسة عن الدولة. الدولة هي المرجع الحقيقي للأوروبي حتى ولو كان متديناً وذهب إلى الكنيسة. خروج الإسلام من هذا الصدام قد يستلزم وقتاً طويلاً. المعركة الأهم يجب أن تجري في البلدان الإسلامية المهمة. للأسف فشلت تقريباً تجربة الاندماج في أوروبا والتي كان يمكن أن تشكل نموذجاً مشجعاً. المعركة الكبرى هناك».
لا ينكر أن سلوك الإرهابيين والمتطرفين يستدعي أحياناً تطرفاً مقابلاً ويثير مخاوف. يقول: «هل تعرف مثلاً أن معلمين كثيرين في التعليم العام يحاولون تفادي التعليم في مدارس مولنبيك أو الأماكن المشابهة. يتعرضون أحيانا للعنف اللفظي أو ما هو أكثر. يحاول الطلاب فرض سلوكهم الفوضوي أو المتشدد على المدرسة ويومياتها. تأخرت السلطات البلجيكية طويلا في إدراك هذه الحقائق. تعاملت بخوف مع هذه المواضيع. تركت بعض الدعاة يسممون أفكار الشبان الذين يحملون الجنسية البلجيكية. وأعذار الدعاة هي ما يسمونه الظلم اللاحق بالمسلمين مرة في فلسطين وأخرى في العراق وسورية. أستغرب أن تقبل دولة بأن يتم التحريض على القتل داخل أراضيها ولا تسارع إلى وقف هؤلاء خوفاً من القول إنها تضطهد المسلمين».
بماذا يشعر الأوروبي إذا قرأ العدد الأخير من مجلة «دابق» الإلكترونية التي يصدرها تنظيم «داعش» بالإنكليزية؟ يقول التنظيم إن الشقيقين الانتحاريين ابراهيم البكراوي (أبو سليمان البلجيكي) وخالد البكراوي (أبو وليد البلجيكي) خططا لاعتداءات بروكسيل وقبلها لاعتداءات باريس.
كشفت «دابق» أيضاً أن نجيم العشراوي (أبو إدريس البلجيكي) الذي فجر نفسه في مطار بروكسيل والحائز شهادة في الالكترونيات كان خبير متفجرات المجموعة وهو الذي أعد العبوات والأحزمة التي انفجرت في العاصمتين الفرنسية والبلجيكية.
غداً حلقة ثانية وأخيرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.