الفرصة ماتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    تخريج كوكبة من الكوادر الوطنية لسوق العمل    النفط يعاود الارتفاع    "الجدعان" يبحث الفرص الاقتصادية بمنتدى قطر    القادسية يحسم لقب دوري يلو    الغموض يحيط بعودة محرز لمنتخب الجزائر    نائب أمير مكة: منع الحجاج المخالفين ساهم بتجويد الخدمات    فرص للمواهب العلمية ببرنامج كندي    «الموارد» تطلق خدمة «حماية أجور» العمالة المنزليَّة في يوليو    تداولات ب 7 مليارات للأسهم.. المؤشر يقفز 43 نقطة    «الممر الشرفي» يُشعل ديربي العاصمة    المملكة رائدة الرقمنة والذكاء الاصطناعي    التجديد إلكترونياً لجوازات المواطنين الصالحة حتى (6) أشهر قبل العملية    أمير تبوك: خدمة الحجاج والزائرين شرف عظيم ومسؤولية كبيرة    أمير الباحة يستقبل مدير وأعضاء مكتب رواد كشافة بعد إعادة تشكيله    سمو أمير منطقة الباحة يناقش في جلسته الأسبوعية المشروعات التنموية والخدمات المقدمة    تغطية أرضيات مشعر منى بالسيراميك.    سرابُ النصرِ وشبحُ الهزيمة    وزير الخارجية يصل إلى المنامة للمشاركة في الاجتماع التحضيري ل «قمّة البحرين»    أمير المنطقة الشرقية في ديوانية الكتاب    نائب أمير مكة: "لاحج بلا تصريح" وستطبق الأنظمة بكل حزم    الرياض ولندن.. شراكة وابتكارات    في لقاء مؤجل من الجولة 34 من الدوري الإنجليزي.. مانشستر سيتي يواجه توتنهام لاستعادة الصدارة    ضمن الجولة 32 من دوري" يلو".. العروبة في اختبار البكيرية.. والعربي يواجه الترجي    فابريزيو رومانو يؤكد: 3صفقات عالمية على أعتاب دوري روشن السعودي    بطلتنا «هتان السيف».. نحتاج أكثر من kick off    في الإعادة إفادة..    المملكة تتصدر اكتتابات الشرق الأوسط المنفذة والمتوقعة في 2024    قلق أممي إزاء عمليات التهجير القسري والإخلاء من غزة    أبل تطور النسخ الصوتي بالذكاء الاصطناعي    وزير التعليم يزور مدرسة معلمة متوفاة    يستيقظ ويخرج من التابوت" قبل دفنه"    اللجنة الوزارية للسلامة المرورية تنظم ورشة "تحسين نظم بيانات حركة المرور على الطرق"    الداوود يتفقد نطاق بلدية العتيبية الفرعية ويطّلع على أعمال التحسين ومعالجة التشوه البصري    الرزنامة الدراسية !    يدخل"غينيس" للمرة الثانية بالقفز من طائرة    ماهية الظن    فخامة الزي السعودي    استعراض الفرص الواعدة لصُناع الأفلام    الكويت.. العملاق النائم ونمور الخليج    آنية لا تُكسر    تركي السديري .. ذكرى إنسانية    «Mbc Talent» تحصد جوائز أفلام السعودية وتقدّم المنح    الكويت في الصدارة مجدداً    الصحة.. نعمة نغفل عن شكرها    دور الوقف في التنمية المستدامة    الماء البارد    إزالة انسدادات شريانية بتقنية "القلب النابض"    «سعود الطبية» تنهي معاناة ثلاثينية من ورم نادر    حكاية التطّعيم ضد الحصبة    18 مرفقاً صحياً لخدمة الحجاج في المدينة    ما رسالة أمير حائل لوزير الصحة؟    أمير المدينة يرعى تخريج طلاب جامعة طيبة.. ويتفقد مركز استقبال الحجاج بالهجرة    فهد بن سلطان: خدمة الحجاج والزائرين شرف عظيم ومسؤولية كبيرة    محافظ الخرج يستقبل رئيس جامعة سطام    الدكتوراه الفخرية العيسى    النزوح الفلسطيني يرتفع مع توغل إسرائيل في رفح    أمير تبوك يرعى حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة فهد بن سلطان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حفل تكريم رجاء عالم ويوسف المحيميد: خوجه: الجائزتان تقدير واختبار للأدب السعودي الذي أصبح اليوم في مقدمة الآداب العربية
نشر في البلاد يوم 17 - 06 - 2011

في الاحتفالية التي نظمتها وكالة الوزارة للشؤون الثقافية لتكريم الروائية السعودية المبدعة رجاء عالم والروائي السعودي المبدع يوسف المحيميد بنادي جدة الأدبي مساء أمس الأول، وأدارها الدكتور عالي القرشي، قال معالي الدكتور عبدالعزيز بن محي الدين خوجة وزير الثقافة والأعلام: نحن الليلة في عرس ثقافي سعودي، نحتفي فيه برسالة الثقافة والأدب، ونقدر المبدعين والمتميزين من أدبائنا ومثقفينا، ونرى قيمة الكلمة حين تصبح أدباً راقياً، فيتجاوز الحدود، ويرنو إليه القراء، ويدرسه النقاد والباحثون، ويصبح جزء اً من التراث الثقافي. وأضاف: تلك رسالة الأدب، وتلك سمته وميزته، ولذلك نحن نقرأ الأدب، ونكابد من أجل الثقافة، نجد المتعة والفائدة، ونحس بالدهشة، ونعيش في كلمات اللغة عوالم مختلفة، ونستمد من الآداب الممتازة دروساً لا تحققها سواها، وأنا أعرف أن الأدب يمنحنا شيئاً مختلفاً.. إنه يتضمن قيمة تختلف عن قيمة التاريخ والفلسفة، أنه يحمل معنى غير مكتمل للإنسان، يظل الأديب والكاتب يلهث في تتبعه دون أن يعرف عم يبحث.. أنه يبحث عن المعنى المستحيل، ذلك المعنى الذي نمسك به، حيناً، قصيدة وحيناً قصة، ولكنه يظل أبداً معنى مستحيلاً.
وتابع خوجه مخاطباً الحضور: هذه الكلمات أوحت بها هذه المناسبة السعيدة مناسبة فوز أديبين سعوديين بجائزتين دوليتين في الرواية، جائزة (البوكر) التي نالتها الروائية المبدعة الأستاذة رجاء عالم، وجائزة (أبي القاسم الشابي) التي نالها الروائي المبدع الأستاذ يوسف المحيميد، وفي هاتين الجائزتين تقدير وأختبار للأدب السعودي الذي أصبح اليوم في مقدمة الآداب العربية التي يطمح القارئ العربي من الخليج إلى المحيط إلى الأطلاع عليها، وان يجد فيها القارئ العربي ضروباً من القيم الجمالية الراقية ، وأنا سعيد جدا بهذا الإستحقاق الادبي الكبير.. سعيد لأن أدب بلادي أصبح يقصد لذاته، وان عقوداً طويلة في العمل الثقافي آتت اليوم أكلها.
واختتم خوجه كلمته مخاطباً المحتفى بهما: شكراً لكما على هذا الإبداع الراقي الجميل.. شكراً لأعمالكما الروائية التي أصبحت جزءاً من ثقافتنا، بل جزءاً من مفرداتنا، وأبارك لكما هذا الفوز الثمين، وأبارك للأدب العربي أن أضاف إلى تراثه الغني أديبين كبيرين نعتز بهما، ويالها مصادفة طريفة أن تطيرا إلى جائزتين كبيرتين على جناحي حمامة.. رجاء عالم في " طوق الحمام " ويوسف المحيميد في " الحمام لايطير في بريدة " وهكذا هو " الحمام " يظل، أبداً، رمز اً لكل ماهو جميل، جمال هاتين الروايتين.
بعدها ألقى الروائي يوسف المحيميد كلمة المحتفى بهما وقال: كأننا نقف أمامكم بحمامنا، بطوقه وأجنحته القصيرة، لنقول لكم شكراً أن منحتمونا هذا الحب، كأنها أشارت لي نحو ناشرها، المركز الثقافي العربي، فتتبعتها ماخوذاً بهما، وكأنني أشرت لها صوب حمامي الذي لايطير، فأبرقت بحمامها ذي الطوق، الذي أغوت بجماله "أبوظبي " ففازت، وأغويت بحمامي الذي لايطير أهل تونس، فأطلقوه مع يمامهم الحر في شارع الحبيب بورقيبة، كأننا رجاء وأنا نسير على ضفتي نهر السرد العظيم، ثالثنا الابهى عبده خال، كل واحد يتنبه إلى سره ويخفيه عن الآخرين، يخفي مافي شبكته من لؤلؤ وصيد، احدنا يخرج من شباكه الاساطير، والآخر يأسر النهربالحكايات والشعر، والثالث يرمي في النهر كنوز متصوفة العالم، كأننا نشترك في كشف جمال القبح، حتى يغدو القبيح جميلاً، كأننا نوشوش النهر إذ يسترخي كرجل عجوز كي يبقى، نهمس له عن مكة العتيقة ووجل جدة وغموض الرياض، عن المدن والتاريخ، كأنما نسير معاً ونلتفت كل فينة خلفاً لنرى ماإذا أعشب الربيع حول آثار خطواتنا.
ثم قدم الدكتور صالح زياد الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض ورقة بعنوان:"إستراتيجيات يوسف المحيميد الروائية - إلحاح المضمون والصيرورة إلى الهزيمة: يبدو بوضوح في روايات يوسف المحيميد تقدم المضمون على الشكل، وذلك في مقابل توازن الشكل والمضمون أو تقدم الشكل، وهي ثلاثة تجليات تسم الإبداع الأدبي من حيث هو علاقة بين أشكال ومضامين ، وأتصور أن هذه الخاصية التي تسم منجز المحيميد السردي تمثل تجلياً ثقافياً لوجهة الإصلاح والحقوق التي برزت بشكل ملموس في عهد الملك عبدالله، ومن إتساع هامش التعبير وأدواته، وماشهدته الثقافة السعودية من طفرة الرواية التي تعني تكاثر إصداراتها بشكل يفوق كل حساب.ولهذا تغدو خاصية تقدم المضمون على الشكل في منتج المحيميد الروائي، جزءاً من سمة كلية تسم معظم النتاج الروائي السعودي في هذه الفترة، إن لم يكن كله. والتفسير الثقافي لهذه الخاصية، يصلها من غير شك بمجمل الوضع الثقافي الذي تفاعلت فيه الوقائع التاريخية المذكورة أعلاه، بحيث تغدو تلك الخاصية تجاوباً مع أسئلة ما، وناتجاً إبستيمياً لها، في مسافة التحول والإنفتاح التي لاتنفك عن وقائع المواجهة مع عوائق الذات الإجتماعية ومخاوفها، ومع العالم الذي أصبح ينتهك معاني عزلتنا الثقافية، ويولد بفضوله وإسترابته ومخاوفه منا، أسئلة ثقافية واجتماعية ذات مغزى نقدي سافر ، ومعنى ذلك أن رواية المحيميد كما هي الرواية السعودية المجايلة لها تفسر الصحة والعافية من وجه، وتفسر الإعتلال والمرض في ثقافتنا ومجتمعنا من وجه آخر.
ويتابع الدكتور صالح زياد:إن المضمون الروائي لروايات المحيميد يحيل على فكر التنوير بوصفه إعادة تكوين للوعي بما يفضي إلى خروج الإنسان من القصور الذي ينتج عن غياب فرديته الذاتية، بسبب خوفه أو جهله أو الوصاية عليه، فيكون قادراً على نفي الواقع البائس وفق نظرة نقدية عقلانية متجددة. وهذا المضمون من حيث هو مقتضى وعي، وحالة يقين، يمتلك، في ضوء وعي المرحلة، حضوراً ضاغطاً وبطابع توجيهي، وهو مايؤول إبداعياً إلى بروز ثيمات ذات دلالة إجتماعية وواقعية أكثر من غيرها، وبالقدر نفسه تظهر وجهة نقدية حادة، وتحمل أحياناً تعليقات مباشرة، في دلالة على النفي لأي شك أو ارتياب، وتصعيد لهيمنة صوتية من وجهة دون أخرى ، ومن هذه الوجهة يأخذ أبطال المحيميد خاصية نسقية تؤلفها المظلومية تجاه المجتمع في استبداده بهم، وتختص بالشباب والنساء على وجه التحديد، أي بما هو معيار للتحول والتجدد ومجهر للكشف عن الثقافة وإنفتاحها وسبر حركتها بإتجاه المستقبل ، وقد امتلأت روايات المحيميد بالشخصيات النسائية، وكان لبعضهن كما هو حال " منيرة الساهي " في " القارورة " دور البطولة، أو الشخصية الأولى ، ولغيرهن كما هو حال، نهى، وثريا، وطرفة الصميتان في " الحمام لايطير في بريدة " أدوار ثانوية ولكنها في الصميم من إستراتيجية الرواية ودلالتها التي تترامى إليها.
وتجتمع الشخصيات النسائية لدى المحيميد في تمثيل دور الضحية للثقافة الذكورية، فهي منتهكة ومخدوعة وسجينة ومتهمة ومضروبة ومغتصبة ومهانة ويمارس ضدها التمييز لكونها امرأة ، وتبرز، في نماذج عديدة منهن، صفة المرأة الخاطئة أو امرأة الخطأ والخطيئة حيث خيانة الزوج والتمرد على الأهل والمجتمع، وذلك في ترتيب على انتهاك ثقافي سافر تجاهها، يمثله زوج قاس وبخيل ومستبد، أو أم وأب وأخوة يفرضون طوقاً محكماً من الرقابة والاستلاب عليها، بحيث يتولد عن ذلك فضول محموم إلى التجربة، أو رغبة في الانتقام، أو ممارسة واهمة لتحقيق الذات.
ويختم الدكتور صالح زياد قراءته عن روايات المحيميد قائلاً: ويلفت النظر لدى المحيميد انتهاء أبطاله إلى الهزيمة والانسحاب، ففي " الحمام لايطير في بريدة " ينتهي فهد السفيلاوي إلى الهجرة إلى بريطانيا ، وهو حدث تنتهي به الرواية، بقدر ماتبدأ به، لأنها تبدأ به راكبا القطار متوجهاً إلى لندن، ويأخذ في تذكر أحداث الرواية، لتنتهي إلى قراره الهجرة وحصوله على التأشيرة البريطانية ، وإذا كانت هجرة فهد هزيمة وانسحاباً فإن العدوان على منيرة الساهي وخديعتها هزيمة ساحقة لها بكل المعاني، ومن اللافت أن هاتين الشخصيتين تحملان صفة ثقافية، فمنيرة صحفية ومثقفة، وفهد فنان تشكيلي مرهف الحس وواسع الاطلاع ، وهذا يعني أن الثقافة الإبداعية تؤول في السياق الثقافي الذي تحكيه الرواية إلى الانتهاك والإقصاء، وهذا معنى تهدف الرواية به إلى تعميق وظيفتها التنويرية والشعور بثقل وطأة الواقع ، كما قدمت الدكتورة فاطمة الياس ورقة بعنوان عوالم رجاء عالم المكية - أسطورة المكان وعالمية الإنسان قالت فيها: يمتد عالم رجاء عالم.. وتاريخها الإبداعي الحافل إلى ما هو أبعد وأعمق من هذه القراءة الاحتفائية على شرف فوزها وحضورها ، لكن هذه هي رجاء: لا تكتب لتفوز.. ولا تفوز لتحتفي وتزدهي، بل لتتشحذ طاقتها.. وتواصل ركضها، تسكب من عمق نظرتها للكون.. وفلسفتها، وعشقها للتراث، واستلهامها الماضي، في معين الفن بمختلف صنوفه وقوالبه الكتابية والبصرية ، وهاهي الآن في (فينيس) أو مدينة البندقية الإيطالية تدير هي وتوأمها الفني شقيقتها شادية، جناح المملكة هناك، حيث اختيرتا لتمثيل المملكة في جناحها الافتتاحي بمعرض الفنون الدولي The Venice Biennale، أو بينالي البندقية الرابع والخمسين، وهي المشاركة الأولى للمملكة. العمل، الذي يحمل اسم «القوس الأسود أو الفلك الأسود»، يعبر عن رؤية رجاء وشادية، تحملهما من موطنهما في مدينة مكة المكرمة إلى مدينة البندقية، في رحلة يختلط فيها الماضي بالحاضر. ولقد حقق العمل نجاحا لافتا، وحصد ا إعجابا كبيرا من قبل زائري جناح المملكة في البينالي، لتثبت مشاركتهما للعالم بأن المرأة السعودية موجودة وليست مصنوعة كما يتصور البعض، حسب تعبير رجاء وشادية في تصريح لهما لجريدة عكاظ. وقد علقت الدكتورة منى عابد خزندار مديرة معهد العالم العربي في باريس والمفوضة عن المعرض أن هذا العمل الفني يعتبر واجهة حضارية للمملكة في هذه التظاهرة الفنية العالمية. وأشادت بمشاركة الفنانة التشكيلية شادية عالم وحاصدة جائزة البوكر في دورتها الأخيرة رجاء عالم من خلال عمل إبداعي تركيبي يشتمل على الصوت والصورة ويتمحور موضوعه حول الثقافات المختلفة واكتشاف الآخر والمدينة والضوء فيها، وقد وجد الجناح السعودي إشادة كبيرة من جميع زائري الجناح الذين أكدوا أن جناح المملكة يعتبر من أفضل الأجنحة المشاركة في المعرض ، وتحضر مكة المكرمة في هذا المشروع الفني الفلسفي إلى البندقية كمركز لجسر الثقافات من خلال القوس الأسود، حيث الأسود رمز رداء الكعبة الأسود، والصورة الظلية للمرأة الكعبة، ومدينة تكعيبية، وحفنة من حجار مزدلفة.
ومن هنا تتجلى رمزية مكة في وجدان رجاء عالم، وتموضعها في رؤيتها الكونية لماهية الإنسان،وجماليات الاختلاف، وسرمدية العلاقات بين الكائنات، تقول رجاء:
"القوس الأسود" ليس فقط تلخيصاً للتوأمية الروحية بيني وشادية وإنما للتوأمية بيننا وبين المكان مكة، من حيث هو الانفتاح على الآخر، مكة التي تجمع فسيفساء البشر بكامل حضورهم الروحي وتوحد طاقتهم، و "القوس الأسود" هو الاختراق الذي حققناه ويحققه كل إنسان في مسيرة حياته، فالحياة ماهي إلا رحيل أبدي، واختراق أبدي من الأسود للماوراء، من المجهول للمطلق المطلع على الكل.، هو أقدم أثواب الكعبة وحجرها الأسود الساقط من السماء ويحقق المعجزات لمن يقبله مخلوطاً بأكثر المواد حداثة والتي تتبادل التنوير، هو أنا وشادية وإنسان عصرنا الآن."
وهكذا، وفي كل مرحلة من مراحل خلقها الإبداعي، وكل عمل من أعمالها، تأبى رجاء إلا أن تطوف بنا جبال مكة وسهولها، لندلف معها عبر بوابة المقدس بوابات الحرم،وحصواته القديمة، وصحن الطواف،ومراتع الحجيج... وعبر دهاليز الغرائبية والعجائبية، والأسطورة واللامعقول أزقة المدعى والغزة، وسوق الصاغة، وسوق الصغير، فها هو الشيخ محمد بيك، الشخصية المحورية في معظم روايات رجاء، شيخ سقاية مكة، تصفه رجاء في "رواية" طريق الحرير" يعبر الرواشن المقنعة لواحات الحجر الرمادي.. بين الهوادج وحمير السقاية والراجلين... يتتبع الدرويش العاري، مقلدا رأسه المرفوعة للسماء حي حي الله حي.. يخترق الحرم من باب سوق الصغير.. يلوك حبة حصى من حصوات الحرم، يشق الصغفا صوب المدعى مخلفا الشقادف المحمولة على ألأكتاف بالطائفين من الشيوخ... وفي المدعى يبادل مصنوعات الحمام بحفنات من ريال الفضة... تشخلل في جيبه في عودته وتمنحه خفة، فيعرج على المطاف، يطوف (واجعل لي في قلبي نورا... وعن يميني...)(131)
وهذا الدررويش هو نفسه "سيدي وحدانة" الذي يطلع علينا في رواية "سيدي وحدانة" بعينه المقلوبتين" ومن بياض خالص(دنيا قديمة) لم يحدث واتجهت تلك العين صوب الأرض، كانت الرأس تطوف من يمين لشمال وتردد "حي حي حي دني جديدة دنيا قديمة) وبياض عينيه ينعقد ويشتد حتى تقطر مآقيه بردا في اشتداد القربات، وصديدا عند عموم الفتن ، لم يحدث ودخل مكة سيل من السيول العظام إلا وظهر يمتطيه سيدي وحدانة، يعبر أزقتها جنبا إلى جنب مع الغرقى كمن يركب السيل ويقوده بلجام الفضة صوب قيعان مكة"(188)
وفي مزجها بين التاريخ والتخييل، والمعقول واللامعقول في قوالب حكائية ونماذج سردية تطفح بالطقوس والخرافات، وتعبق بالنفس الصوفي والتسبيحات، وذكريات الحج والعادات المكية، والتحولات، تلج بنا رجاء عالم إلى قلب المجتمع المكي، ببقماشته المزركشة بأزياء البشر من كل أصقاع الأرض، ونسيجه المتجانس من خلطة الأعراق الذائبة في عروق وحدته وتعدده، وتشابهه واختلافه في آن واحد. وفي خضم هذا التمازج يصبح الحنين إلى مساقط الرؤوس حقيقة مجسدة في حرص كل جنس على الإبقاء على جذوره الذاتية وثيقة وإن كانت مواربة، فالمهاجرون إلى مكة كما تشير لمياء با عشن "يحاربون غربتهم بتحويل خبراتهم ومعارفهم من حيز الممارسة الانفرادية إلى حيز التبادل الجماعي، عندها يصبح الإقبال على عطاءات الآخر هو ضمان الإبقاء على الموروثات الخاصة، وبنات الخزر مثلاً يجيدون الحياكة بالقصب فكن يقمن بتطريز الجبب والثياب والصمايد المكية وكوافي الحجاج والسادة".
وتبقى العادات الخبروية القادمة مع المجاورين راسخة، لكنها "تصبح معنى مشتركاً وليس تعبيراً عن واقع شخصي محض في التنظيم الاجتماعي المكي لا ينفصل الفرد عن ذاته تحت تأثير قوى الانصهار بل يبقى عليها بقبول النقيض واحتوائه في تكامل بديع. لذلك فإن الرواية تؤكد أن الآخرية وليس المطابقة هي الصفة المهيمنة على فضائها المكاني"ومامن رواية لها إلا وتنغرس في عوالم رجاء ، فرواية مثل "خاتم" هي بمثابة أرشيف معلوماتي واجتماعي لخفايا وأبعاد المجتمع المكي خلال العهد الهاشمي " مشهد خروج قافلة الشيخ نصيب إلى المدينة المنورة، مشهد وملادة خاتم، مشهد طبخ العشاء في بيوتات مكة العلوية، مشهد الاستعدادات الطقوسية لاستقبال موسمي رمضان والعيد، مشهد الزفاف، مشهد السقائين وهم يجوبون شوارع مكة، مشهد الانتقال الحركي الجمعي وراء جنازة أو عرس بين حارات مكة(فيصل الجهني).
وتبدو رجاء عالم في كل ما تكتب مشدوهة إلى عالم الما ورائيات المكية... تستنطق آفاق الروح والجسد،والأبعاد الكونية لثنائية الحياة والموت، والظاهر والخفاء ، وهاهو جسد بطلة الرواية "خاتم" المشتت بين الذكورة والأنوثة يحضر كمحرض على البحث عن هوية كونية هي الموسيقى الكونيةالتي يطلق عليها الناقد فيصل الجهني" المعادل الموضوعي" لذلك التشتت، وذلك من خلال" التمرد الهائل على تقليدية الأصوات التي تسمعها والروائح التي تشمها والأجساد التي تحيط بها، إبرازا لكل الطاقات الممكنة لجسد بتفاعل بموسيقاه الروحية الداخلية مع الموجودات والأصوات والأحجار والأجساد الأخرى المماثلة والمختلفة على السواء" (فيصل الجهني).
مثل خاتم،تسعى رجاء عالم إلى الانعتاق إلى فضاءات كونية أرحب، وعوالم روحانية تلبي حاجنها الوجودية إلى "التجلي المطلق" تتوسل إليه بالصمت والتأمل لأننا كما تقول نحتاج إلى مساحة من الصمت لكي نتصل بالمصدر، ولأن "فرط الحديث يُجهض طاقة جبارة" أحيانا.
ومنذ بواكير أعمالها وحتى روايتها الأخيرة " طوق الحمام" التي نالت من خلالها جائزة البوكر، ظلت رجاء عالم وفية لمكة وذاكرتها، وحافظت على ولائها السردي للثيمات المكية المرتبطة بذاكرتها التاريخية وقدسيتها وما تحيل إليه من حكايات المجاورين، والهجرات، والظروف الاجتماعية والسياسية التي واكبت تبلور هوية المجتمع المكي وإلانصهار الإثني والعرقي في بوتقة التعددية والاختلاف الموحد لا الطارد أو المنفرفي طراز أممي فريد.. تقول صاحبة "طوق الحمام":
مكة أعتبرها اعتباطاً كنزي الشخصي، إرثي الذي آل إليَّ عشقاً، استحقيته حباً وافتتاناً بمكان يحكيه أبي وجدتي، مكة التي قبضتُ ختام ملامحها في طفولتي». وبحزن على ضياع بعض ملامح مكة تدريجيا بفعل بلدوزر التحديث والهدم:«لو لم يمت أبي منذ سبع سنوات لأنقذتُ المزيد من مكة، كلما توفي رجل من رجالات مكة أو امرأة من نسائها الأسطوريات شعرت بفقد حقيقي، لأن معهم تذهب مكة الفريدة». وتضيف " إنها مسألة ترصُّد، أترصد كل حجر ومساحة رمل واختناق زقاق ، كل رائحة لأعيد تجسيد مدينة تتلاشى».(أحمد زين الحياة 2008).
هذا الحزن والهلع على فقدان هذا السياج المكاني والوشيجة الروحية هو الباعث السردي "طوق الحمام".. التي تدور دراما أحداثتها المثيرة بجوار الحرم المكي، وتحديدا في "زقاق "أبو الروس". تواصل رجاء هذا المزج الميتافويقي بين الواقعي والأسطوري.
ويبرز أبو الروس كإحدى الشخصيات الأساسية في الرواية والذي يروي سبب تسميته بهذا الاسم قائلا: «حدث في زمن قبل ظهوري في الحياة، أن وجدوا في هذه البقعة من أطراف ميقات العمرة أربعة رؤوس مدفونة لأربعة رجال». إلا أنه يخرج عن صمته بسبب اكتشاف جثة المرأة العارية المجهولة الهوية، التي وقعت من طوق الرواية في أروقته ، وتتوالى الشخصيات وطيدة الصلة بالجريمة أمثال رئيس المباحث الجنائية ناصر، الذي يتولى التحقيق في ملابسات القضية، وهو الذي شهد في طفولته مقتل أخته فاطمة على يد والده غسلا لعاره، وحُررت لها شهادة وفاة مَرَضية! وشخصية الصحفي يوسف الذي اختفى إثر ظهور الجثة، وهو ابن السيدة حليمة، التي تم استدعاؤها للتحقيق معها للاشتباه بابنها، فدافعت عنه قائلة «يوسف غير قادر على إيذاء بعوضة ، أكله وشربه حبر وورق».
ومع تصاعد الأحداث تميط رجاء اللثام عن جبل التحولات.. وحجم التصدعات في نسيج التركيبة الاجتماعية المكية.. وهول التناقضات بين قدسية المكان وقيمه الروحية من جهة، والواقع المؤلم الذي خلقته أذرع النفاق والتشدد التي تكالبت على اغتيال المدينة المقدسة.
رجاء عالم التي حافظت على رقيها الكتابي، وخطها الروائي المجلل بالغموض والنفس الصوفي والفلسفي منذ روايتها الأولى "أربع /صفر" 1985ه، وبعدها رواية" طريق الحرير" 1995م، ثم "حبِي" (2000)، و"خاتم" (2001)، و"موقد الطير"(2002)، و"ستر"(2006).و"طوق الحمام" (2010) وما زالت تمتح من قنطرة التراث المكي لترسم لنا تلك الصور الغرائبية، والشخصيات المؤسطرة، وتغوص في سراديب الذاكرة الكونية لمنابت الأشياء وعوالم الناس وحيواتهم، لتكشف ما وراء الحجب،وتجس أساطيراختلاط أطياف المكان بأشباح من رحلوا وظلوا يحومون مسربين تمائم تحكي قصصا منسية وأسرارا مخفية تختلط بعبق قدسية مكة وتفرد ديموغرافيتها ،وهي في مزجها بين التراث واواقع تخوض غمار التجريب وتؤسس لمدرس رجائية خاصة ومتفردة لم يخف كثير من النقاد العرب أمثال سعيد يقطين، إعجابهم بها.
أما الخلطة السرية لرجاء فهي تلك الخيوط السحرية التي تغزلها تأملاتها الميتافيزيقية في الكون والتاريخ، وتلونها ذاكرتها المعلقة بأستار الكعبة والساكنة أبدا جبال مكة ودحاديرها، ولا يجرؤ على امتطاء بساط سردها السحري إلا القادرون على التجلي والراغبون في التطواف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.