كنا صغاراً نتقافز فرحاً حين نبشر بقدوم شهر رمضان نفرح بالصيام ارتسم رمضان في مخيلتنا بمشاعر الطفولة البريئة في شرب الفيمتو وأكل المهلبية والحلوى وتكتمل تلك الفرحة بالصيام فمن يستطيع أن يكمل يومه صائماً له جائزة ،كانت الوعود محفزة للصائمين من صغار العائلة تخلق جواً من الإصرار والمنافسة والتحدي. كنا نعيش في أحد الأحياء الشعبية حيث بيوت الطين التي اسقفها صنعت من جريد النخل فلا مكيفات ولا فرن ولا ثلاجة . الماء نشربه من الزيرالمبخّر بالمستكة المطعم بحبات الهيل والمصنوع من الطين الفخار والطعام الذي يحتاج للتبريد كالفواكه والجح يبرّد بالخيش المرشوش بالماء . نهار طويل نقضيه بلا مكيفات ، ولأن الحاجة أم الاختراع كانت تحضر أمي شرشف الصلاة المصنوع من القطن وترشه بالماء ونتغطى به وتدور المروحة التي تعمل بالبطارية فيهوي الهواء على تلك الأغطية المبللة فتبرد وننام نومة هنيئة بينما أمي تعد ما لذ وطاب فقد عجنت خبزها وأشعلت تنورها لتودع فيه اقراص الخبز اللذيذ. وأوقدت طبّاختها لتصنع باقي الطعام من شوربة ومهلبية وإيدام . أما والدي فيصلي العصر ويخرج ليأتي بالتمر واللبن ، ونحن نتبعه كلٌّ يذكره بشيء يجلبه معه أبي فيمتو ،عصير ، حلوى ، ثم نجتمع أمام التلفزيون ننتظر الفوازير ونحضر الأوراق والأقلام لنكتب السؤال ونبحث عن الجواب كنا نجهز اوراق الفروخ المربعة والاقلام والاظرف قبل رمضان استعداداً للفوازير. وقبيل المغرب نتسابق لتجهيز الفطور مع أمي هذا يحضر الماء وذاك التمر وآخر الصحون و يجتمع الجميع على السفرة البسيطة كبساطة أهلها الطيبين جدي ، جدتي، أمي ،أبي وأخواني وأخواتي متلهفون لسماع صوت الآذان . أما الجيران وتهادي الطعام في رمضان فكان شيئًا ضروريًّا أطباق تروح وأخرى تجيء لنتذوق ما لذ وطاب . وما إن ترتفع المآذن معلنة دخول وقت الإفطار حتى نتطاير فرحاً ؛ نشرب ماءً يروي ظمأنا فالحر شديد ونكتفي منه بالارتواء ووالداي في فرحة غامرة فقد انقضى صيام هذا اليوم وابناء وبنات العائلة الصغار صائمون . وينهض الجميع لأداء صلاة المغرب وراحة القهوة تعبق بالمكان جدي يحب قهوته محموسة غامقة اللون تسمع صوت يد الهاون يهوي على حبات القهوة يكسرها ويضعها في دلته مع الماء المغلي ثم يضيف حبات الهيل مازال طعم تلك القهوة اللذيذة عالقًا بذاكرتي . بعد صلاة المغرب يجتمع الجميع ؛ الكبارعلى القهوة والصغار على المهلبية والفيمتو . جدي الآن يوزع هدايا الفائزين بالصيام من الصغار قروش معدودة لكنها تعني الشيء الكثيرلنا ينتهي يوم الصيام بصلاة التراويح والتزاور بين الأهل والأقارب والجيران قلوب بيضاء نقية صافية لاتكترث بما سيقدم للضيف إذا حضر، حياة بسيطة هادئة متواضعة ولسان الحال يقول: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا *** نحن الضيوف وأنت رب المنزل بهذه الحياة البسيطة الهادئة الهانئة كان اجدادنا و اباؤنا وأمهاتنا يستقبلون رمضان وضيوفهم الكرام . ذكريات جميلة وحياة هانئة هادئة وقلوبٌ صافية نقية لم تكن الأبواب تغلق طوال العام لتفتح في أوقات حضور الضيوف بمواعيد وترتيبات واحتفالات لتعلن حالة الطوارئ . الحلويات من المحل الراقي والاسم اللامع ومايتبعه من تنظيم وترتيب في الأثاث والديكور وتنسيق الزهور والاتصال بأرقى المطاعم والبوفيهات لأعداد مالذ وطاب من الأطباق والأصناف وكأن الضيف قادم ليأكل وكأن صاحب البيت يريد أن يستعرض مالديه من إمكانات فقدنا تلك المتعة التي تجمعنا وتلك البساطة التي تأسرنا وتلك النفوس القانعة الراضية وتلك البيوت المليئة بسكانها وضيوفها وبهجتها . أحن إلى تلك الأيام والذكريات الجميلة والناس الطيبين والأرواح النقية الطاهرة أحن الى بيتي الطين وجيراننا الطيبين أحن الى تلك الطفولة البريئة التي كان الجد والجدة هم أصحاب الدار ونحن الضيوف سلام على ذاك الزمان وأهله .. أجدني بين سطور وكلمات الشاعر الذي قال هذه الأبيات الجميلة: على الذكرى وقفت أنثر دموعي في بيوت الطين به أغلى ذكريات العمر كله وأجمل أيامي •••• بها عشنا البساطة مع بعضنا بالقسا واللين وهجرناها ولا شفنا السعادة من هكالعامي