عنوان هذا المقال (شعر وحقيقة) هو العنوان الفرعي لسيرة أديب ألمانيا الأكبر (جوته). هذا الأديب الذي لم يكن مجرد شاعر فقط؛ إنما كاتب متبحّر في كل العلوم. ترى ما الذي تعلمنا به سيرته الذاتية التي أُعيد طباعة ترجمتها إلى العربية (ترجمة مصطفى ماهر، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2011)؟. وهي الإعادة التي لم تحدث أثرا رغم ما فيها من التأملات من أجل جيل عربي فاعل ثقافيا. كتب جوته سيرته بناء على طلب من أحد أصدقائه، وفي مقدمة السيرة يحدد معنى السيرة التي سيكتبها، ويعتبر أن الهدف الأساسي من السيرة هو أن تصور الإنسان وسط ظروف زمانه، وأن تبين إلى أي حد أعاقته هذه الظروف، وإلى أي مدى يسرت له السبل، وكيف كوّن لنفسه منها صورة للعالم وللناس، وكيف عاد وعكسها إلى الخارج إذا كان فنانا أو شاعرا أو قاصا. وهو الأمر الذي يتطلب أن يعرف الإنسان نفسه، وأن يعرف عصره، وهي معرفة ليست سهلة. اشتهر في صغره بالذاكرة القوية، والفهم الجيد. بدأ يتعلم القراءة والكتابة على يد أبيه. لم يحب النحو، ورأى في قواعده تعسفا، لا سيما استثناءات القاعدة التي تكاد تشل القاعدة. لكنه كان سريع الفهم للتراكيب والأساليب البلاغية، يستخرج ما يكمن في النصوص من مضامين بسرعة أذهلت معلميه ومجايليه. برع في الموضوعات البلاغية والإنشائية، وحين يكتب موضوعا إنشائيا كان يبعث البهجة في نفس كل من يقرؤه. تكلم اللغة الفرنسية بيسر وسهولة بسبب اختلاطه بالجنود الفرنسيين الذين احتلوا مدينته، وقد ساعدته موهبته الفطرية على أن يدرك أصواتها ونغمتها ونبرها وأكثر سماتها الشكلية. تكلم لغات أخرى كالإيطالية والإنجليزية واللاتينية والعبرية. ولكي يتدرب على هذه اللغات التي تعلمها ابتكر رواية تدور أحداثها حول ستة إخوة تفرقوا في البلاد يكتب أحدهم للآخر باللغة التي يتقنها؛ مرة بالفرنسية وأخرى بالإيطالية وهكذا. تعلم الرسم والموسيقى في سن مبكرة، وأحب البحث في أمور الطبيعة، وهو بحث ولّده فضوله الطفولي الذي دفعه إلى أن يتعرف تراكيب الأشياء، ومعرفة شكلها من الداخل. ويعلق على ما كان يفعله بأنه يشبه عمل علماء الطبيعة الذين يشبه عملهم عمل الأطفال، يؤدونه عن طريق التحليل والتفتيت أكثر من الجمع والتركيب. تسلى بمشاهدة مسرح العرائس، وقد حفزت هذه التسلية في وجدانه القدرة على الابتكار والخيال، ومكنته من أن يتدرب على صيغ هذا المسرح. ثم أحب المسرح الفرنسي، ولم تكن تفته أي مسرحية معروضة. كتب ذات مرة مسرحية على أمل أن تُمثل على المسرح، لكنه فشل في ذلك. وقد دفعه هذا الفشل إلى أن ينكب على نظريات المسرح. لكنه لم يستفد كثيرا من هذا الانكباب، وفضل أن يقرأ المسرحيات ذاتها ليتعلم منها. خالط فنانين أكبر منه سنا، واكتسب من اختلافه إلى هواة جمع اللوحات، وتردده على المزادات الفنية قدرة على معرفة الموضوعات التي تمثلها اللوحات التاريخية والأسطورية؛ سواء اتصل موضوع اللوحة الفنية بالكتاب المقدس (الإنجيل) أو بالتاريخ العام، أو بالأساطير. ولم يتفوق عليه أحد في اكتشاف موضوعات اللوحات الرمزية؛ لذلك كان يقترح على الفنانين موضوعات لرسومهم. ولدت جولاته في المدينة القديمة (فرانكفورت) ميلا عنده تجاه الأشياء القديمة الأثرية، وقد حفزت وغذّت التواريخ القديمة والصور المطبوعة على الخشب رغبته في فهم الأحوال الإنسانية في تنوعها وطبيعتها من دون أن يرتبط هذا الفهم بنفع أو جمال. شهد مرة إحراق أحد الكتب. كان هذا الكتاب رواية فرنسية ساخرة. لم يتعرض مؤلفها للسلطة لا من بعيد ولا من قريب؛ إنما تعرض للعادات والتقاليد. والتعليق الطريف الذي كتبه جوته بعد سنوات على حادثة الحرق هذه هو قوله «والحق أن الإنسان يحس بشيء من البشاعة حين يرى عقوبة تطبق على الجماد». اعتقد أن الناس يمثلون الخير، وأن عندهم القدرة على أن يقدروا تقديرا سليما الأشياء، وأن يحكموا عليها حكما صحيحا، لكنه تبين العكس؛ فالناس يحتقرون أعظم الأعمال، أو يشوهونها. ولم يغير هذا الاعتقاد إلا في وقت متأخر من حياته بعد أن وعى وتثقف.