حين نقرأ الحوار الذي دار بين الروائي يشار كمال والفنان التشكيلي عابدين دينو التركيي الجنسية (الوجه والقفا، ترجمة وتقديم محمد المزيودي، دار أزمنة، 2004) لا نعرف من يحاور من. أيحاور الروائي الفنان التشكيلي؟ أم يحاور الفنان التشكيلي الروائي؟. فهو ليس حوارا بالمعنى المألوف، إنما هو أكثر من ذلك بحيث ينفتح ليكون تبادلا للآراء بين كبيرين في مجالهما. عندئذ يتحول الروائي إلى مجيب ثم فجأة يتحول إلى محاور. وكذلك يحدث مع الفنان التشكيلي. يعرف قراء العربية يشار كمال (كاتب تركي كردي في أواخر حياته كان مرشحا دائما لجائزة نوبل) ولا بد أن كثيرا منهم قرأوا رواياته المترجمة. لكنهم ربما لا يعرفون الفنان التشكيلي الكردي عابدين دينو (ولد عام 1913 ومات 1993). رجل الثقافات المتعددة، يعرف المترجم هذا الفنان بأنه «يترجم بإفراط في الرقة والدقة رؤيته عن عالم أكثر تضامنا وأقل وحشية». وقد تناثرت لوحاته في العديد من متاحف العالم ويمكن التمتع برؤيتها في باريس واسطنبول وغيرهما. يتضمن الكتاب ذو الحجم الصغير( 44 صفحة) تأملات بديعة في الفن والرسم والوجوه والذاكرة. وتقاطع الرواية مع الفن التشكيلي. فمن وجهة يشار كمال «لا يوجد فرق بين رسام وروائي». فالصور في روايات يشار كمال، والصور التي يرسمها عابدين دينو من طبيعة واحدة. تعبر الصور في روايات يشار كمال والصور التي رسمها عابدين دينو عن المرحلة التي عاشا فيها في إحدى المقاطعات التركية الجنوبية (تشوكوروفا) المعروفة بتعدد وجوهها وألوانها وحكاياتها وثقافاتها الشفهية، وبندبها ونواحها وموسيقاها وسجادها وخيامها وجرارها الخشبية. يستغرب يشار كمال أن الروائيين لم يصفوا بما فيه الكفاية الوجه البشري. ليس فقط الروائيون إنما أيضا الشعراء فهوميروس وصف الثياب والرماح والدروع لكنه لم يصف الوجه. حتى من نعتبرهم الآن من الروائيين الكلاسيكيين أو المعاصرين لم يعطوا وجوه أبطالهم أي أهمية. ويشار كمال نفسه يعترف أن ما فعله لوجوه شخصياته الروائية غير كاف من وجهة نظره. يسأل الفنان التشكيلي عما يجده الروائي في وجوه الحكايات والملاحم في الأدب الشرقي. يجيب بأن الوجوه وصفت بشكل جيد في حكايات ألف ليلة وليلة «لكن الوجوه مبتذلة، إنها تتشابه جميعا. في ألف ليلة وليلة يتعلق الأمر دائما بجمال الوجوه النسائية والرجالية». يختلف وصف الوجوه في حكايات الليالي عن الوجوه في حكايات الأناضول. تظهر في حكايات الأناضول أنواع الوجوه. نساء تمتلئ وجوههن بالتجاعيد، ورجال صلع، وعمالقة بعين واحدة في منتصف جباههم. وكائنات أخرى بلا أسنان، وأنوف تشبه البوق، ووجنات تشبه الثمار (كوسا). يوافق الفنان التشكيلي الروائي على أن الأشكال المبتذلة للوجه تظهر أيضا في المنمنمات التركية. يجب أن نفهم (المبتذل) بمعنى الشائع والمألوف؛ فغالبا ما تخرج وجوه المنمنمات التركية من القالب نفسه. التقاطيع ذاتها تتكرر في أدق التفاصيل. ويعيد عابدين هذا إلى النزعة العثمانية المطلقة؛ حيث ما يهم أولا وأخيرا هو السلطة القوية جدا. الباب العالي بينما الآخرون خدم. يستشهد عابدين بكاتب تركي بين في كتابه أن الشخصيات الروائية لا تأخذ شكلها إلا مع بدء تفكك السلطة الاستبدادية، وصعود قوى اجتماعية جديدة تؤكد شخصيتها، ومن وجهة نظره أن يشار كمال خلق وجوها عديدة لا تنسى. ويعلق يشار كمال بأن الوجوه التي رسمها أثرت فيه بشكل كبير، وأنها وجوه ملأى بالأسئلة، وكل وجه على شكل نقطة تساؤل. يرى عابدين دينو أن الفنانين يمكن أن يرسموا وجوها موجودة وأخرى غير موجودة. ويستدل على ذلك بالرسام الذي رسم (بورتريه) لجلال الدين الرومي. فقد طلبت سلطانة قصر «قونيا» من أكبر رسامي عصرها أن يرسم وجه جلال الدين الرومي الذي أحبته. طلبت هذا لكي تتغلب على حنينها إليه بعد أن أرغمت على البعد. قبل جلال الدين الرومي أن يجلس إلى الرسام ليرسمه. لكن حين أنهى الرسم ورفع جلال الدين الرومي رأسه اكتشف الرسام أن الرسم لا يشبه الموديل، فأعاد رسمه باحترام كبير وبالدقة الممكنة إلا أن ما حدث هو أن الرسم أيضا لم يشبه الموديل. عندئذ مزق الرسام رسوماته وارتمى عند قدمي جلال الدين وهو يبكي؛ فقد اكتشف أن من المستحيل رسم (بورتريه) لكائن يمتلك وجها يتغير إلى اللانهائي. هناك شوق يعتري الفنان عابدين دينو إلى رؤية الحشود، لاسيما وجوه الحشد المضغوطة جنبا إلى جنب في المترو، والساحات العامة، والتظاهرات السياسية. وقد فتنته حركات الحشود، والوجوه المتشابهة والمختلفة؛ حيث كل وجه متفرد مثل بصمة الأصبع. * ناقد سعودي