ضجت وسائل الإعلام العالمية بما تناقلته وكالة رويترز من أن السعودية تفكر جديا في استبدال تعاملاتها النفطية بغير الدولار، بالرغم من أنه لم يصدر بيان رسمي بهذا الشأن. وفي الوقت الذي تتخوف فيه الولاياتالمتحدة من مثل هذا القرار السيادي الذي قد تقدم عليه المملكة، إلا أنها وكما عودتنا تُخضع جميع القرارات لتقييم متأنٍ قبل الإقدام على اتخاذها. وتأتي أهمية مثل هذه الإشاعات من كون المملكة: أولا: أكبر مصدر للنفط في العالم، وخلفها طاقة إنتاجية فائضة وثاني أكبر احتياطيات نفطية عالمية بعد فنزويلا، ومصدر يعتمد عليه العالم في تحقيق استقرار أسواق النفط. ثانيا: أن استخدام الدولار كعملة وسيطة في المبادلات النفطية قديم جدا، منذ أن بدأت الشركات العالمية السبع في استكشاف النفط في مختلف مناطق العالم وبالذات من منطقة الخليج العربي الغنية بهذه الموارد الهيدروكربونية من نفط وغاز. ولم تكن دول النفط تهتم كثيرا بتغير وسيطة التبادل هذه حيث لا تتعدى كونها عملة دولية صالحة للاستخدام كوسيط للتبادل النفطي. وبالرغم من التقلبات التي تعيشها عملة الدولار في أسواق الصرف العالمية، إلا أن هذا الأمر لا يقتصر عليها، بل إن كل العملات الرئيسية الأخرى مثل اليورو والين واليوان الصيني ليست في مأمن من مثل هذه التقلبات. ولكن ومع تمادي الحكومة الأمريكية في الدين العام وإصدارها للدولار بصورة متصاعدة معتمدة على الثقة الممنوحة له عالميا، من خلال التعاملات النفطية من جهة، وحجم التجارة الخارجية الكبير للولايات المتحدة كونها الاقتصاد الأول عالميا من جهة أخرى. ثالثا: أنه بتغيير المبادلات النفطية بغير الدولار وأنها تأتي من دولة بحجم المملكة، فإنه لو أقدمت عليه السعودية، فإن ذلك سيؤدي إلى إضعاف الثقة بالدولار عالميا وينخفض الطلب عليه بشكل كبير، وربما يؤدي إلى تدهور تدريجي للاقتصاد الأمريكي، من منظر انفجار فقاعة الدين العام الأمريكي. الأسواق تعرف كل هذه الحقائق، ولذلك هي تبحث لماذا تفكر السعودية باتخاذ مثل هذه الخطوة؟ وهل هي فعلا بسبب احتمال تبني الكونجرس لقانون «نوبك» الذي يعاقب دول الأوبك ذات السيادة بما يعتقده من صاغ هذا القانون بأنها تخالف قانون «منع الاحتكار»، أم أن هنالك عوامل إضافية أخرى تتضايق منها دول الأوبك مثل التغريدات المتكررة للرئيس ترمب مهاجما المنظمة، ومغلفة بالتهديدات، مطالبا إياها بزيادة الإنتاج النفطي، وتخفيض الأسعار. وسائل الإعلام تفوقت على سماعات الأطباء التي يستشرفون بموجبها ما يدور داخل المريض المتألم، لكن لا يعني هذا أن الألم قد وصل إلى درجة الصراخ، خاصة إذا لم يبح به علنا. فالمملكة لم تصرح رسميا أنها بصدد اتخاذ خطوة التخلي عن الدولار كوسيط للتبادل النفطي، حيث لا يمكن لنا أن نتخذ مثل هذه الخطوة إلا بعد تحليل دقيق لميزان المزايا والأضرار الاقتصادية منها والسياسية، ونحمد الله أن هذا هو نهجنا في كل الخطوات والقرارات المتخذة. وميزان التقييم هذا يحمل العناصر التالية وأهمها: أولا: ماهية الأضرار المحتملة على اقتصادنا السعودي قبل كل شيء بتبني هذه الخطوة. وما تأثير ذلك على أسعار صرف مختلف العملات الرئيسية وأسعار النفط العالمية. ثانيا: مدى تأثر الاقتصاد الأمريكي واحتمالات تعجيل دخوله في دوامة الركود، وتأثير كل هذا على أداء الاقتصاد العالمي، حيث لا زالت الولاياتالمتحدة ثاني أكبر مستورد للنفط بعد الصين، وتصدر المملكة ما لا يقل عن 1.3 مليون برميل يوميا، ومدى تأثر كل ذلك في حجم الطلب العالمي الأمريكي على النفط. ثالثا: إن حجم الاستثمارات السعودية في الولاياتالمتحدة كبير جدا. فشركة «موتيفا» التي تملك أكبر مصفاة في الولاياتالمتحدة، هي مملوكة بالكامل لأرامكو السعودية، كما أن استثماراتنا في سندات الخزينة الأمريكية تفوق ال400 مليار دولار، ناهيك عن الاستثمارات الأخرى الحكومية والفردية. عدا الاستثمارات الأمريكية في السوق السعودية. وبالتالي فإن المخاطر بالنسبة للمملكة كبيرة سواء أكان ذلك من جراء ركود الاقتصاد الأمريكي أو تطبيق قوانين مثل قانون «جاستا»، أو قانو «نوبك» إن تم اعتماده من قبل الكونجرس. في مقابل هذه الأضرار هنالك العديد من المزايا المتأتية من جراء التخلي عن الدولار مثل تحرير الاقتصاد النفطي من التبعية للدولار بصورة أو بأخرى، وإعطاء الحرية للدول المنتجة في تبني عملات رئيسية أخرى مثل اليوان الصيني والذي يأتي كثاني أكبر اقتصاد عالمي وفي طريقه ليكون الأول وغير ذلك. وختاما، فإن ما قد يخفف من التفكير جديا في التحول عن الدولار، هو تخفيف الولاياتالمتحدة من الضغوط -بمختلف أشكالها- والتي تمارسها على السعودية وغيرها من الدول النفطية، وتعمل الإدارة الأمريكية على تعزيز التعاون الاقتصادي وزيادة الاستثمارات في المملكة بعيدا عن تهديداتها المتكررة والتي قد تدفعنا إلى تبني قرارات متطرفة تضر اقتصادنا ولكن تضر الولاياتالمتحدة بشكل أكبر. * المستشار الاقتصادي والنفطي الدولي sabbanms@