لم تعرف نفسي الحبّ في إطلاقه، إلا على وجه الاحتياج المطلق للخروج بها من دوائر الغمِّ، ومغاليق الهمِّ المطبق، ذلك لكون الحبَّ - فيما أرى - معراج الرّوح بسفينة القلب إلى حيث الجمال المشهود في عظيم ما خلق الله وأبدع وصوّر.. إنها رحلة تكابد فيها النّفس أشواقًا مهولة، وتبتلى فيها بهواجس مقلقات، وتختبر بصنوف من الأوصاب والمزالق، فإمّا ثبت القلب في مقام الهوى والحبّ، وإمّا انزلق، فليس ثمّة إلا ظلام مطبق، وجحيم متلاف.. إنّه الحبّ إذن.. باعث الشجن، ومحرك الأشواق الحوارق، يتلمّسه المحبّ في رضا المحبوب أينما كان، وكيفما كان، وما عليه من بأس إن أذلّ النّفس في حضرته، وإن شئت أن تدرك ذلك، فانظر إلى قول القائل: تَذلّلْ لِمَنْ تَهْوَى فَليسَ الهَوَى سَهْلُ إذا رَضِي المَحبوبُ صَحَّ لكَ الوَصلُ لا تُلقِ بالك لصوت من أوهمك ب«عزّة النفس» في هذا المقام حين تبلغ هذا الحال، ف«الذل في مقام الهوى والحبّ عزّ وافتخار»، ألم تقرأ قول قائلهم: وما رمتُ الدُّخولَ عليه حتّى حللتُ مَحلّةَ العبدِ الذّليلِ وأغضيتُ الجُفونَ على قُذَاها وصنتُ النَّفسَ عنْ قالٍ وقِيلِ هو الحب إذن.. ينسف كلّ القوانين، ويحطمّ كلّ المسلّمات، ويقود النفس إلى حيث سار المحبوب، يتلمّس طريقه، ويكابد الأهوال في الوصول إليه.. لا والذي حجّتْ قريشٌ بيته مستقبلينَ الرُّكنَ فِي بَطْحائِها ما أبصرتْ عَيْني خِيامَ قبيلةٍ إلا بكيتُ أحبّتي بِفِنائها أمّا الخيامُ فإنّها كخيامِهم وأرى نساءَ الحيِّ غير نِسائِها ولتكن البوصلة مرسومة في شغاف قلبك وموسومة به، فما حقّ المحبوب أن تسأله عنه واصفًا في الطريق، ولكن حقّه عليك أن تستشعره بنور قلبك، وضياء بصيرتك.. فاتبع النبض تصل، وأصخ السمع لوجيب وجدانك تبلغ الغاية والمنى، وتذكر: سلّمْ لسلمى وسِرْ حيثُ سارتْ واتبعْ رياحَ القَضا ودُرْ حيثُ دارتْ ومن عجب حين يدرك القلب بغيته من اللقيا أن يزداد ظمأ كلّما رشف، وتتعاظم حاجته كلما أعطي من النّوال والهبات الشوارق، فليس ثمّة ارتواء، وليس ثمة اكتفاء، فإنّما هي حاجة إثر حاجة، وتوق موصول بتوق متلاف: ومِنْ عَجبٍ أنّي أحنُّ إليهمُ واسألُ شوقًا عنهمُ وهم مَعي وتبكيهمُ عيني وهمْ بسوادها ويشكو النّوى قلبي وهم بين أضلعي إنّه التسليم المطلق، قانون الحب وسطوته، من كابر أُخرج، ومن عاظل طُرد، ومن عاكظ أُبعد.. فافهم والتزم.. ألم يبلغك أن «المحبّة تُخفي شروط الأدب»، ذلك لأن الفرح بها يخرج النفس عن أطوار ما اعتادت عليه من مسلمات العقل، وتحرك معاقد اللّسان عن جوهر الإبانة السليمة، فما ثمّة إلا صمت مطبق، أو قول محلول الوثاق من ميزان التقويم المعتاد.. فالصمت مجلوب الدهشة ووليدها، فلو صحّ قول القائل: «كلما اتسعت الفكرة ضاقت العبارة»، فيصحّ عندي أيضًا القول بأنّه «كلما أضاء الحب باحة القلب وغرفاته كلما انمحت العبارة وأفسحت المجال لصمت متأمل، وذهول في باحة الجمال».. ولا يحملنك خطأ المحب في التعبير عن أشواقه وما يكابده من أوابد المحبة أن ترميه بالنقص، فذاك مقام يحس ولا يوصف.. نعم إن المحبة تخفي شروط الأدب التي اعتاد النّاس عليها، وارتضوها قانونًا معروفًا بينهم، ولكنها في مقام الحب منسوفة من جذورها، والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة، يبلغ بعضها مبلغ «الشطح» المثير للقلق، والمحرّك لنوازع نفور النفس عن قبوله، بحكم ما اعتادت عليه في فلك الحياة المستقرة، ولا أجد مثالاً ناصعًا لانفراط عقد الأدب في حضرة المحبوب من ذلك الأعرابي الذي قصّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قصته في الحديث النّبوي الشّريف، بصيغه المختلفة، ومنها، ما ورد في صحيح مسلم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لله أشدّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدّة الفرح». نعم إنه الحب، لا نسوقه بتخصيص، ولكن نبحث عنه بإطلاق، نتلمسه في الحياة بيننا، ونشيعه في كل معاملاتنا، ونطلبه في كل ما نقوم به، ولسنا في ذلك ملقين بالنظر أو الانتباه لمن ارتفعت «قرنا استشعاره» كلّما سمع كلمة «الحب» فانحرفت مقاصد وعيه نحو علاقة العشق بين الرجل والمرأة، حصرًا وتقييدًا، ورسمت شاشة خاطره صور الابتذال والمآثم وصورها بأبشع ما يكون التصوير، وجعل من مفردة الحب متحسسًا يفك سعة خياشيمه بالعطاس المستمر، وأفرغها من مضمونها الأجلى والأسمى إلى ضيق محصور، ومعنى مبتذل.. فما أحوجنا إلى الحب اليوم، وقد رانت على القلوب لبد الماديات، ولغة الحساب حتى في العلاقة مع رب العباد، جلّ شأنه، وعظم مقامه، وعزّ إدراكه، وأي نفع لعمل الغاية من أدائه انتظار الثواب، ولم تخالطه بشاشة المحبة، وروح الإذعان طاعة للمحبوب لا غير، بلا طمع في هذا وذاك.. فإن أعطى فذاك فضله، وإن حرم فتلك حكمته. *كاتب سعودي